مصادر فلسطينية: صدى الانفجارات والقصف وصل من قطاع غزة إلى جنوب الضفة الغربية    4 أهداف لريبيرو مع الأهلي أمام المحلة .. ماعلاقة الزمالك والمصري؟    رسميًا.. القادسية الكويتي يعلن تعاقده مع كهربا    شيكابالا يتحدث عن.. احتياجات الزمالك.. العودة لدوري الأبطال.. ومركز السعيد    بهاء الخطيب.. ذبحة صدرية أودت بحياة الفنان الشاب    تنسيق جامعة الأزهر 2025.. مؤشرات القبول والحد الأدنى المتوقع لكليات البنين والبنات (موعد ورابط التسجيل)    تنسيق المرحلة الثالثة، الأخطاء الشائعة عند تسجيل الرغبات وتحذير من الرقم السري    الاحتلال الإسرائيلى يقتحم بلدتين بالخليل ومدينة قلقيلية    "وول ستريت جورنال": البنتاجون يمنع أوكرانيا من استخدام الأسلحة بعيدة المدى لضرب العمق الروسي    في 12 مقاطعة ب موسكو.. الدفاع الروسية تُسقط 57 مسيرة أوكرانية    تصل كييف خلال 6 أسابيع.. إدارة ترامب توافق على بيع 3350 صاروخا بعيد المدى ل أوكرانيا    فرنسا تستدعى السفيرة الإيطالية بعد تصريحات نائب رئيس الحكومة الإيطالية ضد ماكرون    وزير الاتصالات: الذكاء الاصطناعي سيؤدي إلى اندثار بعض الوظائف.. والحل التوجه لمهن جديدة    بينهم مصريون.. بنك HSBC يُغلق حسابات 1000 من أثرياء الشرق الأوسط    عقوبة تزوير الكود التعريفي للمعتمر وفقًا للقانون    الظهور الأول لمودريتش.. ميلان يسقط أمام كريمونيزي في افتتاحية الدوري الإيطالي    فينجادا: حزنت من انتقال زيزو إلى الأهلي.. والكرة المصرية تعاني من عدم الاحترافية    محافظ الإسكندرية يزور مصابي حادث غرق شاطئ أبو تلات بمستشفى العامرية    تفاصيل مصرع طفلة في انهيار سقف منزل قديم بالغربية    خسوف القمر الكلي.. مصر على موعد مع ظاهرة فلكية بارزة في 7 سبتمبر.. فيديو    انقلاب سيارة محملة بالزيت على الطريق الدولي ومحافظ كفر الشيخ يوجه بتأمين الطريق    للحفاظ على عمر البطارية.. نصائح مهمة لمستخدمي هواتف أندرويد وآيفون    وداعًا للبطاريات.. خلايا شمسية جديدة تشغل الأجهزة من إضاءة الغرف    مروة ناجي تتألق في أولى مشاركاتها بمهرجان الصيف الدولي بمكتبة الإسكندرية    بالصور.. ليلى علوي وأحمد العوضي وإلهام شاهين في الساحل الشمالي    الكاتب سامح فايز يعتذر لصاحب دار عصير الكتب بعد 3 أعوام من الخلافات    شاب بريطاني لم يغمض له جفن منذ عامين- ما القصة؟    وزير الصحة: نضمن تقديم الخدمات الصحية لجميع المقيمين على رض مصر دون تمييز    خلال اشتباكات مع قوات الأمن.. مقتل تاجر مخدرات شديد الخطورة في الأقصر    مصرع طفل وإصابة 2 آخرين في انهيار حائط بسوهاج    مهرجان القلعة.. أحمد جمال يطوي الصفحة الأخيرة للدورة 33 (صور)    في المباراة ال 600 للمدرب.. ويسلي يفتتح مسيرته مع روما بحسم الفوز على بولونيا    قصف مدفعي جديد يستهدف وسط غزة    وزير الإسكان يتابع موقف عدد من المشروعات بمطروح    رسميًا.. موعد المولد النبوي 2025 في مصر وعدد أيام الإجازة للقطاع العام والخاص والبنوك    برشلونة يقلب تأخره لفوز أمام ليفانتي بالدوري الاسباني    «قولتله نبيع زيزو».. شيكابالا يكشف تفاصيل جلسته مع حسين لبيب    مستثمرون يابانيون: مصر جاذبة للاستثمار ولديها موارد تؤهلها للعالمية    تاليا تامر حسني: التنمّر ليس مزحة.. إنه ألم حقيقي يدمّر الثقة بالنفس (فيديو)    عيار 21 الآن بعد الانخفاض.. أسعار الذهب اليوم الأحد 24 أغسطس 2025 محليًا وعالميًا    قلق عن الأحوال المادية.. حظ برج العقرب اليوم 24 أغسطس    لا صحة لوقوع خطأ طبي.. محمود سعد يوضح تطورات الحالة الصحية للفنانة أنغام    وسط ترقب وهتاف.. الجمهور ينتظر تامر حسني بحماس في مهرجان مراسي (صور)    رسميًا الآن بعد الانخفاض.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الأحد 24 أغسطس 2025    «المصري اليوم» في جولة داخل أنفاق المرحلة الأولى للخط الرابع ل«المترو»    محافظ شمال سيناء يوجه بتشغيل قسم الغسيل الكلوي للأطفال بمستشفى العريش العام    إحالة المتغيبين في مستشفى الشيخ زويد المركزى إلى التحقيق العاجل    "سلامة قلبك".. مستشفى جديد لعلاج أمراض وجراحة القلب للأطفال مجانًا بالمحلة الكبري    "كنت بشوفهم بيموتوا قدامي".. شهادة ناجية من فاجعة غرق طالبات سوهاج بشاطئ أبو تلات بالإسكندرية    «أوقاف المنيا» تعلن بدء احتفال المولد النبوي غدًا الأحد 24 أغسطس    تعرف على استعدادات تعليم كفر الشيخ للعام الدراسي الجديد    هل يجوز الطلاق على الورق والزواج عرفي للحصول على المعاش؟.. أمين الفتوى يجيب    كيف تدرب قلبك على الرضا بما قسمه الله لك؟.. يسري جبر يجيب    أوقاف الدقهلية تبدأ اختبارات أفضل الأصوات في تلاوة القرآن الكريم    هل يجوز قراءة القرآن أثناء النوم على السرير؟.. أمين الفتوى يجيب    الجندي يشدد على ضرورة تطوير أساليب إعداد وإخراج المحتوى العلمي لمجمع البحوث الإسلاميَّة    حصاد الأسبوع    الأوقاف: «صحح مفاهيمك» تتوسع إلى مراكز الشباب وقصور الثقافة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فيصل دراج .. الرائيّ المغترب
نشر في أخبار الأدب يوم 15 - 10 - 2011

مشروع فيصل دراج، النقدي الثقافي، كان بمثابة ثمرة كالعطية، نبتت وتنامت في سياق مناوئ، تحت عواصف وتغيرات أو تقلبات شتي، غير مواتية، فكانت ثمرة عطية فريدة وكبري، بحق.
1
فيصل دراج في ملمح من ملامح عالمه المتعدد، أحد المغتربين الكبار في هذا العالم، لكنه أيضًا أحد المناوئين الكبار لكل اغتراب. اغتراب فيصل دراج، المطبق والشامل تقريبًا، ليس من قبيل الترف الفكري أو الروحي؛ هو اغتراب موصول بأسباب وملابسات استثنائية، وربما ستظل استثنائية، في تاريخ البشرية كله؛ أي مذ كان الإنسان مدفوعًا بنزوع الاستقرار في أرض، وإلي أبد الآبدين، حيث سيظل الإنسان طامحًا للانتماء إلي وطن حقيقي. دراج، مثل كل فلسطيني، كابد، ويكابد، من المعاناة ما يرتفع فوق كل تصور؛ في بلده الذي اقتلع منه، وفي البلاد التي تصورها ذات يوم »بلادا شقيقة«، وفي البلاد التي رآها في وقت ما »أوطانا اضطرارية عابرة«، وفي البلاد التي اقتنع أو قنع أخيرا بأنها أحسن الممكنب. حديث فيصل دراج، غير المعلن، عن هذه الأوطان والبلاد، لا يمكن لمرارته أن تخف، ولا أن تختفي، ولا أن تحدّ من وطأة اغترابه المقيم. مع ذلك، ففيصل دراج يستيقظ مبكرًا كل يوم، ويعمل كثيرًا كل يوم فيما أعرف ويحلم مع الحالمين بملابسات وأوضاع أخري، مغايرة، خارج هذا العالم القائم، الخانق، المطبق الرازح.
2
وفيصل دراج، في جانب من جوانب عالمه الثري، أحد الممتلكين النادرين لمعرفة يتزاوج فيها ما لا يتزاوج عادة.
هو يجمع، في إهاب الرائي المبصر والمستبصر، معرفة المثقف العارف، ورؤية الفليسوف المتأمل، وقدرة الناقد الملم .
موهبة فيصل دراج الشخصية، في هذا كله، موهبة لم تتح سوي لقلة. لكن هذا ليس كل شيء .
فعلي المستوي الفردي، هناك الألم الكبير، الذي يرتقي إلي مصاف الفجيعة الجماعية الكبري، وهما معا - الألم والفجيعة قادا فيصل دراج، فيما قاده، إلي أن يري، يستكشف ويكشف، وأن يحدد موقعه في هذا العالم، العربي والإنساني، وإلي أن يبلور موقفه المدافع عن الحق الطبيعي في الوطن، وفي العدل، وفي الوجود بمنأي عن أشكال التسلط والاستبداد، وإلي أن يصوغ دوره في التشبث بالحرية، وتعرية الزيف متعدد الأقنعة ومراوغها .
وفي عمله، كتابته أو كتاباته، استطاع فيصل دراج، مستنهضا بالألم والفجيعة نفسيهما، ولكن وهذا هو الأهم مستنهضا بالمعرفة العميقة والبحث الدائب، استطاع أن يصل إلي إدراك وضعية الثقافة والإبداع الفلسطينيين والعربيين، في ثقافات العالم الإنساني المتنوعة، دون أن يغشي عينيه بريق النظريات سابقة التجهيز، المتاحة، والمبذولة، والمستمدة من سياقات أخري، نائية ومغايرة.
3
بتزامن اختصر التواريخ في لحظة، ومن وضعه كفلسطيني، عربي، رأي فيصل دراج العالم ، أو بلغته رأي إلي العالم .
ومن وضعه، كإنسان في هذا العالم، رأي فلسطين، أو رأي إلي فلسطين.
هذه الرؤية ( التي امتلكها كثيرون من الفلسطينيين، بمن فيهم محمود درويش، الذي توصل لهذه الرؤية بشكل من أشكال التعاقب لا التزامن، أي انتقل خلالها من منظور لآخر، بما قاده إلي ألم أكبر، ولكن أيضا إلي بصيرة أعمق وأرحب) .. هذه الرؤية، في تجربة فيصل دراج ومشروعه، انبنت من البداية علي مساءلة كل الأطراف: تساءل أو ساءل نفسه، وساءل وتساءل حول البلدان العربية التي تنقل بينها، وساءل وتساءل حول العالم المترامي .
ونقديا وثقافيا، كان من ضمن ممكنات، وربما هبات، هذا التساؤل وهذه المساءلة، بتعددهما، ما جعل فيصل دراج أبعد وأنأي عن أن يكون جزءا من نسق أو نظام أو نظرية أو منهج، وأرفع وأرقي من أن يكون مروجا لتجربة أدبية تنهل من نبع يتهدده النضوب .
وتأسيسا علي هذا، فمشروع فيصل دراج، النقدي الثقافي، كان بمثابة ثمرة كالعطية، نبتت وتنامت في سياق مناوئ، تحت عواصف وتغيرات أو تقلبات شتي، غير مواتية، فكانت ثمرة عطية فريدة وكبري، بحق.
حركة فيصل دراج، في الجغرافيا الاستثنائية، وفي التاريخ العابر، متغاير السياقات، وعبر النتاج الأدبي (الروائي خصوصا) الذي ولد هناك »سليما معافي ثم ولد هنا ولادة معوقةب كما رأي، وأيضا خلال اختبار صلات هذا النتاج الأدبي بواقع شاعت فيه » علي درجات متفاوتة « مزاعم حول الحرية والعدل والديموقراطية واحترام الإنسان ..إلي آخره .. حركة فيصل دراج، عبر هذا كله، وفيه وخلاله، جعلت منه تمثيلا خاصا لصوت المثقف الكبير الحر، الملتزم ب (بمعان أخري مغايرة للدلالات التبسيطية القديمة التي أحاطت، في زمن مر وانقضي، بفكرة الالتزام).
الرؤية التي امتلكها فيصل دراج، بهذه الصيغة، تعبير عن إمكان استثنائي لمواجهة العالم من وضع المنفيّ، المغترب، المتمرد، الثائر، الناقض للمسلمات والمواضعات ولكن الاستثنائية في هذه المواجهة، وقبل ذلك في هذه الرؤية، لم تكن أبدا من قبيل النزوع الذاتي للنجاة من اطمئنان الجماعة الخادع أو من غفوتها الطويلة. بل هي استثنائية ضمت في إهابها، معا، الفرد والجماعة في رغبة تحررهما وتحققهما؛ دراج ووطنه السليب، دراج وأمته، دراج والمستبعدين المهمشين والمقموعين والمنتهكين والمنفييين في هذا العالم.
وثقافيا ونقديا، كانت هذه الاستثنائية مما جعل مشروع فيصل دراج موصولا بنوع من قلقلة اليقين الأعمي، واجتناب الكليشيه الأصم، ومناهضة النظرية المغلقة الخرساء، والبحث عن الخاص، الفردي/الجماعي، المقرون بسياقه المتعين، والبدء من خصوصيات الإبداع؛ لا من الكلام عنه ولا من غواية تعميته أو تعميمه.
4
من هنا، ففيصل دراج، كناقد، وهذا واحد من أهم أدواره، صاحب مشروع كبير، طموح وغنيّ ومتنام .
لم يقنع فيصل دراج، في كتاباته النقدية الغزيرة، بدور المتابع لبعض الأعمال الأدبية، أو المحتفي بنشوة احتفال زائلة وزائل بأسماء مبدعين بأعيانهم، أو المكرس لهالات مجد زائفة وزائف حول بعض الظواهر العابرة .
استكشف فيصل دراج وتقصي، في أرجاء الكتابة العربية، مايستحق التوقف عنده، وما يقترن بروح الإبداع الحق .
كانت هناك، في هذه الوجهة، مغريات كثيرة يمكن أن تدير
رءوس نقاد أقل قيمة وقامة من فيصل دراج .
لكنه كان وظل، بضمير يقظ، يحاسب نفسه دائما ويحاسب الآخرين دائما، قادرا علي أن يميز ويمايز بين ما ينتمي إلي الإبداعي، الجمالي، الإنساني، الحقيقي، وما ينهل من منابع سطحية، مخايلة، مآلها نضوب وشيك .
من هذه الوجهة أيضا، أي من وجهة فيصل دراج الناقد، واجه فيصل دراج وجابه ما واجهه وجابهه كثيرون من النقاد العرب طيلة القرن العشرين، فيما يخص صعوبات تلمس طرق سليمة في متاهة النظريات النقدية الغربية، المتشعبة والمربكة، وأيضا المغوية المغرية .
اختار كثير من النقاد سبل الانبهار بمناهج، أو الترويج لمناهج، بغريزة مندفعة، تشبه غريزة الانصياع لامودات أو لصراعات ما تلبث أن تشيع ثم ما تلبث أن تتواري وتتلاشي.
آثر فيصل دراج، مستندا إلي بصيرة الرائي، أن يرنو في المشهد النقدي الغربي المعقد، متزاحم التيارات ومتلاحق التغيرات إلي ما يستحق أن يرنو إليه الناقد العربي.
لذلك، في كتابات فيصل دراج النقدية، سنسمع صوت فيصل دراج وحده.
صحيح أننا سنجد إفادات من تجارب لأسماء محدودة (ميخائيل باختين الذي كان دراج أول من قدمه للعربية) وجورج لوكاتش في بعض تصوراته التي يمكن الاتفاق معها، دون نظرته الضيقة التي راهنت علي نظرية متماسكة، مغلقة ونهائية، ثم هابرماس ونيتشه .. إلي حد ما ).. صحيح أننا سنتلمس، في تجربة فيصل دراج النقدية، بعض إفادة من طروحات هذه الأسماء، وسنشهد حوارا مع هذه الطروحات .. لكننا سنظل دائما نصغي إلي صوته هو. وهذا ملمح سنصبو إليه كثيرا، دون أن نبلغه أبدا، مع تجارب نقدية عربية أخري، جهيرة الصوت، ثقيلة الحضور.
5
اهتم فيصل دراج، فيما اهتم، ببعض القضايا التي رآها انطلاقا من سلم أولوياته أكثر أهمية من غيرها. من هذه القضايا قضية علاقة الثقافة بالسياسة. كانت رؤيته لهذه القضية واضحة منذ زمن مبكر. في كتابه (حوار في علاقات الثقافة والسياسة) الذي صدر عام 1984 أكد بوضوح أنه:
»بين الموضوع السياسي والمنظور السياسي فرقٌ كبير. فقد يعالج الروائي موضوعًا سياسيًّا بمفردات سياسية ليقود القاريء في النهاية إلي التبشير الأخلاقي، وقد يعالج الروائي موضوعًا لا علاقة له بالسياسة، لكنه يستطيع أن ينتج لدي القاريء منظورًا سياسيًّا«
(حوار في علاقات الثقافة والسياسة) ص 23.
وقريبا من هذا السياق، أمسك فيصل دراج في الأدب الفلسطيني بما لم يعثرعليه في التاريخ السياسي الفلسطيني الرسمي. رأي في كتابه (أفق التحولات في الرواية العربية 1999)، في حديثه عن »الميراث « لسحر خليفة، أنه:
»مقابل تاريخ سياسي فلسطيني رسمي، لا يغادر البدايات إلا ليعود إليها، يظهر الأدب الفلسطيني صورةً حقيقية عن تاريخ الشعب الفلسطيني الحقيقي، الذي أدمن التضحيات الكبيرة وانتظار ما لا تأتي به الأيام«.
وتشييدا علي هذا، ظل فيصل دراج يرنو في النتاج الأدبي، العربي والإنساني، إلي ما يناوئ ملابسات كل سياسة رسمية.
وأيضا قريبا من هذا السياق، في كتابه (بؤس الثقافة في المؤسسة الفلسطينية 1996)، اهتم فيصل دراج بعلاقة الثقافة والسياسة في واقع متعين، مرتبط بالوضع الفلسطيني، ولكنه انتهي إلي خلاصة دالة وعامة:
»سؤال الثقافة لا ينخلع عن سؤال الدولة. ولعل مفهوم التحرر الإنساني العام مدخلٌ موائمٌ لموضوع التطبيع والثقافة؛ فثقافة لا تحرر سديم يعدل تحررًا لا ثقافة فيه، وتحقق تحرر المواطن العربي (...)
قادر علي تهميش المشروع الصهيوني وهزيمته، والمقصود: تحرر يتمثل في العدالة والمساواة وحرية القول ووجود سلطة تكون تعبيرًا فعليًا عن الإدارة «اقرأ أيضًا: الإرادة »الجماعية« (ص 221).
6
في تجربته كلها، انطلق فيصل دراج من هذا السياق المتعين، لا من تصور هابط من أعلي، أو قادم من هناك، حائم فحسب فوق أو حول هذه التجربة أو تلك.
وعلي مستوي قضايا جزئية، حظيت من الاهتمام بأكثر مما تستحق، أو ارتبطت بتصورات أو بأوهام حول كيفية انخراط الأدب العربي في »عالمية« مراودة مشتهاة، تحت مظلات عدة، منها مظلة »حداثة« ثم ما بعد حداثة منزوعتين من سياقهما الاجتماعي..علي مستوي قضايا جزئية ارتبطت بما يشبه هذه التصورات والأوهام، كقضية االتجريب»، علي سبيل المثال، احتفي دراج بما يجب الاحتفاء به. في كتابه (حوار في علاقات الثقافة والسياسة)، ذهب إلي أن:
»أشكال التجريب الروائية في بلد اشتراكي متقدم [أين هذا البلد، الآن، حقا؟] تختلف عنها في بلد لا يزال يناضل من أجل تحرره الوطني- لأن التجريب لا يأتي إلا من واقعه، أما استيراده فلا يعطي إلا نماذج كسيرة. وكما نعلم فإن التاريخ والحياة هما أكثر تعقدًا من أي نموذج كانب « (ص 214).
وجزء من هذا الاحتفاء نفسه، بالسياق المتعين، وبمناهضة النموذج الجاهز، كان تقييم دراج النهائي لتجارب نقدية نالت في تصوري الذي يحتمل الخطأ ويحتمل الصواب أكثر مما تستحق أيضا. رأي، مثلا، في نظرية لوكاتش في الرواية، ما يصلها بالضرورة بظروف بعينها:
»»أقام لوكاتش نظريته في الرواية معتمدًا ماركسية محددة في زمانها التاريخي وزمانها النظري، فزمانها التاريخي كان زمن الستالينية الذي يجعل من الفرضية قانونًا ومن النظرية معتقدًا ومن التفكير النظري زندقة«.
(دلالات العلاقة الروائية- ص 79).
وأكد دراج أيضا : »ماركسية لوكاتش في نظرية الرواية تبقي محاصرة بالذوق الكلاسيكي« ( ص 81).
وقد انتهي دراج، بشأن لوكاتش، إلي ما لم ينته إليه نقاد عرب كثيرون:
»نظرية لوكاتش تبقي مادة علمية أساسية تطرح سؤالاً معقدًا، وتحاول أن تجيب عليه، فتصيب أحيانًا وتخطيء حينًا آخرب« (دلالات العلاقة الروائية- ص 86).
وكتابة فيصل دراج، رفيعة القيمة، عن جورج لوكاتش، التي صاغها تحت عنوان اجورج لوكاتش: الملحمة والرواية في فلسفة التاريخ ضمن كتابه (نظرية الرواية والرواية العربية) انتهت هذه الكتابة إلي خلاصة دالة:
»اجتهاده الأساسي اجتهاد لوكاتش تمحور حول (...) رواية لا تنفصل عن التاريخ الأوروبي، وصفحاته الواسعة تتضمن عناصر نيرة تضيء رواية غير أوروبية، لكن هذا لا يعني أن نظريته تقدم قراءة واضحة ل الرواية الأخري»، أي الرواية التي لم تعرف ظروف ميلاد الرواية الأوروبية« (ص 35).
وتعالقا بهذا الاحتفاء بالسياق، وبهذه الاسترابة في النموذج الجاهز، وبهذا البدء من مساءلة الاجتهادات النقدية لدي أسماء رفرفت كالرايات، في زمن ما، في تاريخ نقد الرواية الغربي، ربط دراج تصورات جولدمان بملابساتها:
»يؤكد جولدمان أن اجتهاده متصل الاتصال كله بنمط الإنتاج الرأسمالي، وفي شكله الأوروبي تحديدًا«.
(نظرية الرواية والرواية العربية« ص 57)
كما ربط تجربة رينيه جيرار بحدودها:
(نظرية الرواية والرواية العربية ص 139)
7
بدءا من كتابه (نظرية الرواية والرواية العربية) الذي صدر في نهايات تسعينيات القرن المنصرم، تنامي المشروع الكبير لفيصل دراج.
في بداية تقديمه لهذا الكتاب الكبير، أكد فيصل دراج أنه تأمل نظرية الرواية والرواية العربية، علي ثلاثة أفكار: الفكرة الأولي امس الحقل النظري الذي نشأت فيه الرواية، وهي نظرية أوروبية بامتياز»، وتتصل االفكرة الثانية بالحقل التطبيقي لنظرية الرواية، وبأشكال التعامل معه. فنظريات الرواية بكلماته اوباستثناء أعمال باختين، ربما، لا تبني قولها علي قراءة تبدأ بالنص الروائي وتنتهي به، بل تطبق عليه قولاً نظريًا مسبقا عليه .. أما الفكرة الثالثة فتحيل إلي الرواية العربية التي تختلف في الشروط التاريخية لتكوُّنها، وفي المعايير النظرية التي توافقها، دون أن يكون بين الطرفين قطيعة كاملة«.
وهكذا رأي دراج أن نظريات الرواية الغربية »تقدم الكثير من المواد النظرية التي تضيء تاريخ الرواية العربية، غير أن هذا التاريخ (...) يظل المرجع الأساسي الذي يسمح بتأمل نظري لوضع هذه الرواية«.
(نظرية الرواية والرواية العربية ص 163)
وينتهي فيصل دراج في ختام كتابه هذا إلي نتيجة، اعترافية النبرة، تمجد الدقة والتحديد:
»إذا كانت نظرية الرواية في شكلها الأوروبي تذهب الي ماركس وفرويد ولوكاتش وهيدجر « هل تذهب إلي هؤلاء فقط؟!»فإن نظرية الرواية العربية، وهي افتراض نسبي تكتفي بنصوص الروائيين لا أكثر«.
(نظرية الرواية والرواية العربية ص 317)
وفي كتابه الكبير الآخر (الرواية وتأويل التاريخ) يبدأ دراج من ملاحظة أن صعود الرواية الأوروبية في القرن التاسع عشر قد تزامن مع صعود علم التاريخ، فيما جاءت بداية الرواية العربية مع بدايات القرن العشرين دون أن يزامنها صعود في علم التاريخ أو غيره من العلوم. ولذلك، فيما رأي دراج، انطوت البداية الروائية العربية علي مفارقة ظاهرة، ذلك أنها »ولدت في شرط غير روائي (...) كأن هذه الرواية قد وُلدت معوَّقة« (ص 5).
وفي الكتاب نفسه ينتهي دراج إلي أن هذه الرواية العربية، التي ولدت هذه الولادة المعوقة، في مجتمع مقيد بوطآت شتي، قد احملت »يقصد: ظلت تحمل في تاريخ لاحق شروط ولادتها، ترغب وتصوغ رغبتها بلغة متلعثمة، وتفكر مواضيعها بمنظور محاصر«. وبقطع النظر عن إمكان الاختلاف مع التسليم بأن شرط الولادة قد امتد إلي مسيرة الحياة كلها، أو علي الأقل إمكان الاختلاف في تحديد مسافة هذا الامتداد، فإن فيصل دراج، فيما بين بدء كتابه وختامه، قدم قراءات ثاقبة، عميقة، دالة، مكتوبة بلغة دراج الناصعة الخاصة به بمفرده؛ لوضع الرواية في التاريخ، والتاريخ في الرواية، وذاكرة التاريخ وذاكرة الرواية، متوقفًا عند أعمال وتجارب مفكرين ومثقفين وروائيين أساسيين: الكواكبي، محمد عبده، فرح أنطون، المويلحي، طه حسين، العقاد، يحيي حقي، عادل كامل، نجيب محفوظ، عبد الرحمن منيف، هدي بركات، ربيع جابر، ممدوح عزام.
8
ماذا أقول، بعد، عن فيصل دراج، المغترب الرائي؟
رأي فيصل دراج فاغترب، واغترب فرأي. وهو، في رؤيته واغترابه، كان نفسه وكان جماعته، وكان صاحب التجربة التي تمجد كل رؤية، وتناهض كل اغتراب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.