رئيس الوزراء يتابع موقف تمويل مشروعات المبادرة الرئاسية «حياة كريمة»    قطع المياه لمدة 6 ساعات عن المنطقة المحصورة بين شارعي الهرم وفيصل    القناة 12 الإسرائيلية: 271 إسرائيليا أصيبوا بهجوم إيران الصاروخي الخميس    نواف سلام يؤكد رفض لبنان الانجرار إلى الحرب الدائرة في المنطقة    جدل في البيت الأبيض.. ترامب يسأل يوفنتوس عن المتحولين والحرب مع إيران    غزل المحلة يعلن تعيين الكابتن علاء عبد العال مديرًا فنيًا للفريق الأول    وزيرة التضامن تشهد فعاليات الاجتماع العاشر للجنة الوطنية للقضاء على ختان الإناث    ارتفاع إيرادات فيلم "المشروع X" في دور العرض المصرية    قرارات عاجلة من محافظ أسيوط بشأن حريق مخزن الزيوت المستعملة    مختار جمعة: العمالة للكيان الصهيوني خيانة عظمى وصاحب العقيدة السليمة لا يبيع وطنه أبدًا    انطلاق مهرجان مشروعات تخرج قسم الإذاعة والتليفزيون بإعلام القاهرة السبت المقبل    عميد قصر العيني ل رئيس وزراء صربيا: سترون جهودنا الدؤوبة لتحديث التعليم والرعاية الصحية    محافظ الجيزة يعقد أولى اجتماعات اللجنة التيسيرية لتطوير «الكيت كات» والمناطق المحيطة بمساكن عزيز عزت    نوفاك: ارتفاع حجم التبادل التجاري بين السعودية وروسيا بنحو 62%    إزالة 4 مزارع سمكية مخالفة على أملاك الدولة شمال سهل الحسينية ببورسعيد    الذكاء الاصطناعي يتوقع تأثير موجة الطقس السيئ على لقاء الأهلي وبالميراس.. وكيفية التعامل معه    ليفربول يستهدف صفقة دفاعية في الصيف    فوز شباب اليد على البحرين في بطولة العالم ببولندا    أسعار سلندرات الألومنيوم اليوم الخميس 19-6-2025 في الأسواق    قيادات تموين الأقصر يقودون حملات للتفتيش على أسطوانات البوتاجاز.. صور    ضبط المتهمين باختطاف شخص بسبب تجارة العملة    محافظ قنا يفتتح المرحلة الثامنة من مشروع «سترة» لتأهيل منازل الأسر الأولى بالرعاية    بنسبة 96,5%، الوادي الجديد تتصدر المحافظات بمبادرة سحب الأدوية منتهية الصلاحية من الأسواق    حين تنقشع الحرب، هبة الأغا تنقل صورة معاناة غزة لصالون إبداع المرأة المصرية    ملك أحمد زاهر تطمئن الجمهور على حالتها الصحية: "بقيت أحسن"    برنامج "مصر جميلة" لقصور الثقافة يختتم فعالياته بمدينة أبوسمبل.. صور    شيخ الأزهر: الأزهر يولي طلاب باكستان عناية خاصة لنشر المنهج الوسطي    نائب رئيس الوزراء يترأس اجتماع المجلس الوطني للسياحة الصحية    فوائد الكركديه البارد، مشروب سحري مدر طبيعي للبول ويخفض الوزن    وفاة معلمة بالفيوم أثناء أعمال تصحيح أوراق امتحانات الدبلومات التجارية    إسرائيل تقر باستمرار قدرة إيران على إطلاق الصواريخ    الأمين العام للاونكتاد: الاستثمار الأجنبي المباشر عالميا تراجع للعام الثاني على التوالي نتيجة للتوترات الجوسياسية    محافظ القاهرة: أعلى قيمة لساعة انتظار السيارات 10 جنيهات    الصحة": نستهدف المشاركة في مبادرة الاتحاد الأفريقي لتوفير 60% من احتياجات القارة من اللقاحات البشرية مُصنعة محليًا بحلول عام 2040    مشغولات ذهبية ومبلغ مالي.. حبس 3 متهمين بسرقة شقة بالظاهر    هل هناك مؤشرات إشعاعية علي مصر؟.. رئيس الرقابة النووية يجيب    "مبنقفش على حد".. مدرب الزمالك السابق يطلق تصريحات قوية: قادمون    إسرائيل: قصفنا مفاعل آراك ومواقع نووية في بوشهر وأصفهان ونطنز    مسابقة لتعيين أكثر من 4 آلاف معلم مساعد مادة الدراسات الاجتماعية    الرقابة النووية: نرصد الإشعاع عالميا ومصر على اتصال دائم بالوكالة الذرية    فاتتني صلاة في السفر كيف أقضيها بعد عودتي؟.. الأزهر للفتوى يوضح    ما حكم تشغيل صوت القرآن أثناء النوم؟.. أمين الفتوى يجيب    موعد التقديم وسن القبول في رياض الأطفال وأولى ابتدائي بالأزهر 2025    ننشر نتائج الطلبة المصريين بالخارج من مرحلة الابتدائي وحتى تانية ثانوي    «منخفض الهند الموسمي» | ظاهرة جوية تلهب ثلاث قارات وتؤثر على المناخ    ضبط 7 قضايا مخدرات وتنفيذ 818 حكمًا قضائيًا خلال حملات أمنية بأسوان ودمياط    هل يؤثر مرض السكري على الجنين في بطن الأم؟ تفاصيل صادمة    محمد الشناوي: نحلم بالفوز أمام بالميراس وتصدي ميسي لحظة فارقة.. والظروف الآن في صالحنا    الرزق ليس ما تملك..بل ما نجاك الله من فقده    حمدي فتحي: نسعى لتحقيق نتيجة إيجابية أمام بالميراس    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 19-6-2025 في محافظة قنا    عماد الدين حسين عن استهداف تل أبيب: إيران ترد مباشرة على عدوان واضح    وسط تصاعد التوترات.. تفعيل الدفاعات الجوية الإيرانية في طهران    هل الحسد يمنع الرزق؟.. الشيخ خالد الجندي يوضح    خالد الغندور يكشف صدمة للأهلي بسبب مدة غياب طاهر    سماوي: مهرجان جرش في موعده وشعلته لن تنطفئ    كوريا الشمالية عن الهجمات الإسرائيلية على إيران: تصرف غير قانوني.. وجريمة ضد الإنسانية    تامر حسني وهنا الزاهد يتألقان في دور السينما المصرية ب "ريستارت"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فى نهر بكين ( رَوْحات صيفية ) 2
نشر في الشروق الجديد يوم 29 - 07 - 2010

فى العاصمة الصينية لم أستطع مقاومة إلقاء نفسى فى نهر الدراجات، وهو نهر عفى ومتحضر وله مسارات خاصة ويلتزم تماما بالأنظمة المرورية، فعند إغلاق الإشارة تبدأ طليعة صف الدراجات فى التوقف الفورى عند الخط الفاصل، وسرعان ما تأتى وتتراكم وراءها مئات وربما آلاف الدراجات، وما إن تفتح الإشارة حتى يتراءى ذلك المشهد المذهل بعنفوانه وجماله، كأن سدا لا مرئيا انهار فجأة فانطلق طوفان الدراجات، قوة عاتية من احتشاد بشر عاديين ينطلقون على متن مركبات شديدة البساطة، ويكون المشهد أبهى ما يكون عند هطول المطر، فترى راكبى الدراجات وقد ارتدوا فوق ثيابهم «برانس» بسيطة من النايلون متعددة الألوان، حمراء وخضراء وزرقاء وصفراء وشفافة، فيموج نهر الدراجات بالبهجة، ويشع من طوفان المفارق قوس قزح!.
لم أكن ركبت دراجة منذ ربع قرن، واشتهيت أن أركب دراجة فى شوارع بكين، وتنامت رغبتى فى ذلك بعد حضور حفل فى قسم التحقيقات بالجريدة الاقتصادية، ثانى أكبر جرائد الصين آنذاك، لأن محررة شابة مرموقة اشترت دراجة جديدة، وكان هناك شاى الياسمين وشطائر لذيذة مطهوة بالبخار، ويبدو أن المُحتَفَى بها لمحت فى عينىَّ مدى قوة رغبتى فى ركوب دراجة، فأهدتنى «لفة» بدراجتها الجديدة الفضية، درت فيها مسحورا حول مبنى الجريدة، وبعدها تشجعتُ فكنت أُلقى بنفسى فى نهر الدراجات كلما كانت هناك فسحة من الوقت الخالى فى برنامج مهمتى الصحفية، مستأجرا دراجة بثمن زهيد من موقف خاص بالدراجات عند مدخل فندق «السلام» ذى النجوم الخمسة!
كانت قيادة الدراجة فى شوارع بكين وسط فيض الدراجات متعة لا تدانيها أى وسيلة مواصلات أخرى، حتى لو كانت أتوبيسا جدرانه كلها من زجاج، فالمَشاهد تقترب منك وتقترب منها، بسلاسة وحميمية لحد إرواء البصر وإغناء البصيرة: الحدائق التى يتجمع فيها محبو رياضة ملاكمة الظلال البطيئة «تاى شى»، والمعابد ذات السقوف الجمالونية الملونة على الطراز الصينى، والأبنية الحديثة الشاهقة، ومطاعم الرصيف القماشية المتنقلة التى تتشكل فى لحظات وقت راحة العاملين عند الظهيرة، وتمتد لمئات الأمتار، وما إن ينتهى الآكلون حتى تتلاشى فى لحظات، دون أن تترك أى أثر!.
ترى أكشاك «اللياقة» فى الشوارع الجانبية مشرعة الأبواب والزبائن يتلقون جرعاتهم المنشطة من «المساج» الصينى التقليدى بين أيدى المدلكين المهرة. ترى حلاقى الأرصفة، وبائعى الطاولات حيث يتوافر كل شىء من الأجهزة الالكترونية حتى قبعات القش، تتطلع للزينات الورقية خلابة الأشكال والألوان وهى تخفق فى سماء الشوارع، وتتأمل الناس بقربك على الأرض، فتكتشف مدى روعة الأطفال الأصحاء وكأنهم لُعب جميلة حيَّة، وتلفت انتباهك أناقة ورشاقة الأجيال الجديدة من النساء الجميلات المتألقات بالنضارة، وتكتشف كما اكتشفت أنا، ذلك الاتزان النفسى للإنسان الصينى، المرِح بلا صخب، أو الحزين بلا اكتئاب، البسيط والمبدع، والعملى دائما!.
ألقيت بنفسى فى نهر دراجات بكين الذى كانت تجرى فى روافده ثمانية ملايين دراجة حين كنت هناك، منذ خمسة عشر عاما، وكان عدد سكان العاصمة 11 مليون نسمة، أى دراجة تقريبا لكل إنسان. واكتشفت فى هذا النهر لمحة إنسانية لطيفة، فعندما يحدث عطل فى إحدى الدراجات يتنحّى راكبها جانبا، وسرعان ما ينعطف لنجدته راكب دراجة مجاورة، مُقدِما صندوق (العِدَّة) الصغير وقطع الغيار التى بحوزته إضافة للمساعدة الفنية! وإن تعذَّر إصلاح العُطل، كما حدث معى مرة، تقودك الإشارات والإيماءات إلى أقرب (عجلاتى)، وكل ما تحتاجه هو أن تقول «دوه شيوه شيين»، كم يُكلِّف هذا، وبمجرد إبداء الموافقة، تحصل على خدمة فورية دقيقة وسريعة، وبقطع غيار جديدة، وبأسعار أقل من نصف أسعار العجلاتية عندنا!
رأيت الدراجة فى الصين تتحول إلى ضرورة حياتية، للانتقال والتسوق والنقل الخفيف، على مقودها سلة معدنية للمشتريات الصغيرة أو شنطة الكتب، وعلى رفرفها الخلفى كرسى إضافى للزوجة أو الطفل أو الخطيبة، ويمكن أن تتحول الدراجة إلى قاطرة تجر خلفها عربة خفيفة لنقل قطع الأثاث الصغيرة وبضائع الموزعين الصغار للخضراوات والجرائد وغيرها، وكان يضحكنى دائما ابتكار نقل الحيوانات على الدراجة، فيُلَف الحيوان ممددا فى حصيرة تُربط على المقعد الخلفى بينما رأسه تخرج من اللفة، ويبدو مبسوطا جدا وهو يتفرج على الدنيا تمر أمام ناظريه! وأطرف ما رأيته فى نهر الدراجات ذاك، كان دراجة تجر أختها المُعطَّلة!
رؤية العالم على متن دراجة فى الشوارع الصينية شىء مختلف تماما، فقد حدث أن رتبت لنا الجريدة التى رعت استطلاعنا لقاء مع نائب رئيس حكومة بكين آنذاك «شن باو شانج» وكان أربعينيا وسيما ورصينا وأنيقا جدا، أناقة حكام الصين الجدد. حاورته على مدى ساعة كاملة دون أى مجاملات من جانبى. طرقت موضوع المخاطر البيئية للتحديث السريع، والتلوث البصرى لتنافر الطُرز المعمارية فى حُمّى التحديث، والآثار الجانبية النفسية والاجتماعية لقفزة ما كانوا يسمونه «آليات السوق الاشتراكية» التى لم أرها غير آليات سوق رأسمالية فى النهاية.
ويبدو أن الصراحة بلا وقاحة شكّلت بيننا صداقة لطيفة عابرة، فقد سألنى بود عن برنامج عملى مع زميلى المصور، وكانت خطوتنا التالية هى زيارة «قصر الصيف» الذى يقع على مسافة عشرين كيلومترا خارج بكين. استفسر المسئول الصينى الكبير عن وسيلة المواصلات التى سنذهب بها، وأجبت مازحا: «بالدراجات»، فضحك بلطف، وبلطف فوجئت بتخصيصه سيارة رسمية سوداء فاخرة من سيارات المسئولين وكبار ضيوف الدولة لتقلنا إلى القصر التاريخى الذى شيدته الإمبراطورة «دو سيسى» منذ قرون، بمبالغ كانت مودعة لإنشاء سلاح بحرى حديث، واستخدمت فيالق الجنود لحفر بحيرة وسط حدائق القصر، ليعوم على صفحتها المتلألئة مركب أسطورى كله من المرمر المنقوش.. لزوم الفسحة!.
لا أزال أتذكر تلك الأحاسيس التى انتابتنى وأنا داخل السيارة الرسمية المكيفة بستائرها المخملية والسائق الشاب الذى يتحدث الإنجليزية والذى أرجح أنه كان ضابط أمن رفيع المستوى. ركب زميلى المصوِّر إلى جواره، وكنت وحدى فى المقعد الخلفى، بينما السيارة المهيبة ذات الأرقام الخاصة و«السرينة» الخاصة تشق طريقها المفتوح دائما، كأنها تطير فوق الأسفلت.
أزحت طرف الستارة عن النافذة إلى جوارى وأطللت على العالم عبر زجاج «الفيميه»، فرأيت دنيا ناعمة فى ضوء حالِم وسكون شبه مطلق، وكان البشر على جانب الطريق يلتفتون لعلهم يكتشفون أى رئيس أو وزير يمر بقربهم. بيئة معقمة تماما وعمياء أيضا، تلك التى تحيط بالمسئولين لو أنهم اكتفوا بالقبوع فى هذه الكبسولات المكيفة المعزولة التى تطير على أرض البشر وفى عزلة عنهم. وضْع يصيب من كانت نفسه ضئيلة وروحه خاوية بشىء من جنون العظمة وبلادة المشاعر وأشياء من شح البصر وعمى البصيرة.
ومن يومها، وكلما جوبهت مثل عامة الناس هنا بتلك المواكب التى تنفتح لها الشوارع وتحتجزنا رهائن مخنوقين داخل السيارات والأتوبيسات الخانقة، صرت لا أحرق كثيرا من طاقة الانفعال، ليأسى من نوعية البشر القابعين فى سيارات المواكب، فيما أُروِّح عن نفسى بأحلام يقظة منعشة، أتصور فيها أننى أقود دراجة فى نهر دراجات مصرى بقاهرة مُتخيَّلة، أو بمدينة جديدة كالشيخ زايد وَقد أُعيد تنظيمها لتكون مدينة بيئية ترِفُّ فيها الدراجات!
لقد اختُرعت الدراجة الهوائية بشكلها الأقرب لنماذجها الحالية فى أواخر الثمانينيات من القرن 19، ويُعزى الفضل للحداد الفرنسى «بيير ميشو» فى تصنيع نموذجها الأوَّلى عام 1861، ولم تتحول إلى ظاهرة مواصلات مليونية بديلة إلاَّ على يد الصينيين فى النصف الثانى من القرن العشرين وحتى الآن.
والجديد أن أوروبا التى اخترعت الدراجة تعيد اكتشافها حاليا، فهولندا صارت تعتمد على الدراجات بنسبة 27% من كل وسائل المواصلات الأخرى لديها، وهى تشغل المركز الأول أوروبيا فى استخدام الدراجات، تليها ألمانيا بنسبة أقل لكن بعدد دراجات أضخم وصل إلى نحو 68 مليون دراجة لشعبها البالغ عدده 82 مليونا، وقام وزير النقل فيها مؤخَّرا بحملة ترويج لاستخدام الدراجات كوسيلة مواصلات اقتصادية غير ملوِّثة للبيئة ومفيدة للصحة وموفِّرة للطاقة، وطبعا لم يقُدْ الوزير الألمانى هذه الحملة داخل سيارة مرسيدس، بل على صهوة دراجة!
العالَم النبيه الآن يستعيد ويطور ويوسِّع ويُثمِّن استخدام الدراجة الهوائية المُكتَشَفة منذ مائة وأربعين عاما، فيخطط ويخصص لها المسارات وينفق على صناعاتها البلايين لتقديره أنها ستعود عليه اقتصاديا وبيئيا وصحيا بالترليونات، وألمانيا (أم المرسيدس) تدوِّر فيها صناعة الدراجات 1.7 مليار يورو كل سنة. بينما فى بلاد مواكب المرسيدس، وصفقات المرسيدس، ورشاوى مرسيدس: لم تُكتشَف الدراجة بعد!.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.