في مقاله المنشور بصحيفة "القدس العربي" يوم الاثنين الماضي كتب الناقد صبري حافظ عن فكرة تخصيص صفحة أسبوعية للثقافة العبرية بجريدة أخبار الأدب، متهماً إياها بأنها تهدف لفرض التطبيع البغيض مع العدو الصهيوني، وذلك في الوقت الذي، كما يقول، "لا تحظي فيه الثقافة المغربية أو السودانية أو العراقية أو السورية أو حتي الليبية بصفحة كل عدة أشهر". لست هنا في معرض الدفاع عن أي شيء بخلاف عملي الخاص، ذلك الذي بدأت فيه منذ بداية تخرجي في قسم اللغة العبرية بكلية الأداب جامعة عين شمس عام 2000. منذ ذلك الحين وأنا أترجم مقالات ونصوصا من الأدب العبري وعنه.وفي هذا الإطار أعددت وأشرفت علي صفحة الثقافة العبرية« بالطبع، تواجهني من حين لآخر اتهامات ب"التطبيع"، و"فرض العدو الصهيوني علي غرف نومنا"، أي أن الاقتباس الوارد في أول المقال لم يكن أول كلام يصلني بهذا الشأن، وهو يعبر عن رأي قطاع من مثقفينا الكبار الذين لم يفكروا في "معرفة العدو" أبداً إلا باعتبارها "ترويجاً للعدو"، ليس إلا. وبطبيعة الحال، فهذا الموقف الغريب يحمل تناقضاته بداخله. مثلاً، كيف يمكن لبعض المثقفين الاعتراض علي نشر مقالات عن الثقافة العبرية بشكل منتظم في أخبار الأدب، في الوقت الذي لم نسمع فيه أي اعتراض جدي علي نشر مقالات منتظمة في الصحف العربية الكبري مترجمة عن الصحافة الإسرائيلية، مثل "القدس العربي" نفسها و"السفير" و"الأخبار اللبنانية" وغيرها، ومع الأخذ في الاعتبار سلسلة شهيرة كانت تصدرها "الهيئة العامة للاستعلامات" في الخمسينيات بعنوان "اعرف عدوك". وإذا كانت أخبار الأدب هي مطبوعة أدبية، أفليس جديراً بها أن تحاول عرض "الداخل الإسرائيلي"، من زاويتها المتخصصة، أي زاوية الأدب والثقافة؟! ثانياً، كيف يمكن لنا أن نفترض أننا في حالة صراع مع العدو بدون معرفة أبجدياته؟ هل كان يمكن للجيش المصري مثلا الانتصار علي الجيش الإسرائيلي في 73، دون معرفة طبيعة نقاط القوة والضعف في هذا الجيش، ودون دراسته من الداخل؟ كيف يمكننا إذن الحديث عن "حرب ثقافية" بيننا وبين العدو بدون معرفة شيء عن ثقافته والصراعات الأدبية بداخله. أعتقد أن هناك ميلاً للاستسهال بين مثقفينا الكبار في هذه النقطة، الاستسهال الذي يدفع مثلاً لأخذ معلوماتنا عن العدو من اللغات الأوروبية، وليس من العبرية، وهي اللغة التي يتحدث بها العدو بينه وبين نفسه، أي حينما لا يضطر لمخاطبة الغرب، والاستسهال الذي يدفع مثقفينا إلي تصور إسرائيل وكأنها مجرد كيان هلامي، لا كمجتمع يحوي صراعات بين اليسار الصهيوني وغير الصهيوني وبين اليمين القومي واليمين الديني وغيره، وصراعات بين المتدينين والعلمانيين، بين الشرقيين والغربيين، بالإضافة طبعاً إلي الأزمة الأساسية وهي العلاقة بالعرب وأزمة الوجود علي أرض مغتصبة، وهي كلها مشاكل يكشف عنها الأدب، وأزعم أنني قد قدمت جانباً كبيراً منها في صفحة "الثقافة العبرية"، لأن الهدف من هذه الصفحة كان معرفة المجتمع الإسرائيلي وتفكيكه كوسيلة من وسائل مواجهته. حتي عندما تمت ترجمة رواية "عن الحب والظلام" لعاموس عوز في دار الجمل، فإن جريدة الأخبار اللبنانية، وثيقة الصلة بحزب الله وبالمقاومة اللبنانية ضد إسرائيل، قد أصدرت ملفاً عن هذه الترجمة، ابتعدت في مقدمته عن فكرة التخوين، وطرحت أفكاراً هي في ظاهرها أقرب إلي الأسئلة عن جدوي هذه الترجمة، ولم تسارع إلي اتهام المترجم والناشر بالتطبيع. وهذا واضح ومفهوم، لأن الترجمة عن العبرية، هي أمر نادر في مجتمعاتنا العربية، وهي تحتاج قبل كل شيء إلي طرح النقاش الجاد، وليس إلي التخوين وإلي الرفض الاستباقي للفكرة وكيل الاتهامات والمزايدة. رابعاً، بطبيعة الحال فليست هناك في أية صحيفة عربية صفحات عن الثقافة السودانية أو المغربية، بينما تزخر غالبيتها بصفحات مخصصة للترجمة عن الصحافة الإسرائيلية. والسبب مفهوم: نحن نتعامل مع الثقافات السودانية أو المغربية بوصفها تنتمي لنا بطبيعة الحال، لثقافتنا ولغتنا العربية، ولا تحتاج إلي أي صفحات متخصصة. ما يحتاج دوما لفهمه بشكل أعمق هو العدو. كيف يمكننا الحديث عن "حرب ثقافية" بيننا وبين العدو بدون معرفة شيء عن ثقافته والصراعات الأدبية بداخله؟ أعتقد أن هناك ميلاً للاستسهال بين مثقفينا الكبار في هذه النقطة.