علي مائدة رمضان التليفزيونية أصبحت وأمست مسلسلات السيرة ضيفا دائما، وذلك بالرغم من، أو بسبب، الجدل الذي تثيره والاعتراضات التي تلاحقها عاما بعد عام. هذا العام تتسم مسلسلات السيرة المعروضة بالتنوع في مضمونها وشكلها ومستواها الفني من "الشحرورة" عن المغنية والممثلة صباح و"في حضرة الغياب" عن الشاعر محمود درويش و"مشرفة" عن العالم مصطفي مشرفة إلي "الريان" عن نصاب توظيف الأموال أحمد الريان! حالة الجدل تنوعت أيضا وطالت ثلاثة من المسلسلات الأربعة. "مشرفة" وحده مر مرور الكرام - عزيزا، خفيفا، لم يثر غضبا ولم يؤثر في أحد. "مشرفة" مسلسل نموذجي للمفهوم المدرسي التقليدي عن كيفية تقديم حياة الأعلام للنشء. المخرجة أنعام محمد علي تنتمي فكريا وفنيا إلي هذه المدرسة التي تقدس القدماء والكبار وتفترض الكمال والمثالية فيهم فتجردهم من انسانيتهم وتجرد العمل من أي صراع حقيقي، وتغرقه - حرفيا - في ضوء أبيض يخلو من البقع السوداء. تحرص أنعام دوما علي اختيار شخصيات مثالية بطبعها، وعلي توصيل رسالة وطنية وأخلاقية من خلال حياتهم...وهو أمر لا غبار عليه لولا أنه قد يؤدي إلي صنع أعمال تعليمية مباشرة تتناقض مع طبيعة الفن الدرامي. لنفس النوعية "الدعائية" ينتمي مسلسل "في حضرة الغياب" الذي أخرجه السوري المعروف نجدت أنزور وبطولة فراس ابراهيم الذي أدي شخصية محمود درويش في أسوأ "كاستنج" - اختيار أدوار - في مسلسل لهذا العام...وقد اتفق معظم من شاهدوا المسلسل خاصة الذين عرفوا درويش أو التقوا به ولو لمرة واحدة في حياتهم- أن فراس غير مناسب بالمرة للدور لا شكلا ولا أداء ولا روحا، يضاف إلي ذلك ضعف المسلسل فنيا كتابة واخراجا. حياة الشعراء والكتاب تخلو عادة من الأحداث الدرامية المثيرة، ولكن من يفتش في حياة محمود درويش يمكن أن يخرج بدراما عظيمة. المشكلة أن صناع العمل لم يستطيعوا تجاوز التصوير السطحي للأحداث التاريخية والشخصية...وحاولوا تعويض ضعف السيناريو والبناء بالإفراط في استخدام الموسيقي الحزينة والدموع، وفراس لم ير في محمود درويش سوي شعره الناعم الكثيف فارتدي "باروكة" مضحكة ولم يجده متفردا سوي في تدخينه الشره للسجائر فأنفق الكثير من ميزانية العمل علي السجائر التي لم تفارق يده في كل مشهد! ولما كانت حياة درويش في نظرهم تنحصر في كتابة الشعر والحديث عن فلسطين ووقوع النساء في حبه، فقد بنوا مشاهد المسلسل بطريقة تجاورية بحيث نشاهد حوارا بين درويش وشخص أو أكثر يتحدثون عن حدث تاريخي ما غالبا ما يكون واحدة من جرائم اسرائيل، ثم نستمع إلي قصيدة مرتبطة بالحدث، ثم يتبعه مشهد مع إحدي المغرمات بدرويش تتدله في عشقه، وهو لا يكف عن الحديث عن فلسطين حتي في أقصي لحظات العشق، ثم نعود لمشهد تاريخي ثم أغنية أو قصيدة وهلم جرا. درويش المسلسل شخصية ثابتة الأفكار والعواطف شديدة الحكمة والاتزان منذ البداية، يبكي ويدخن دائما أثناء كتابة الشعر... ليس هناك منحنيات أو خطوط متعرجة في حياته أو هضاب يصعدها أو سفوح يسقط إليها...وكالعادة في أعمال السيرة يكون هناك عشرات من الشخصيات التاريخية المعروفة التي تعامل بإهمال بداية من "اختيار الممثل المناسب" وتوجيهه وإعداده وحتي الماكياج والملابس. نفس المشاكل يعاني منها مسلسل "الشحرورة"، غير أن ما ينقذه ويرتفع به إلي مصاف أفضل مسلسلات السيرة هو مساحات الصدق والصراحة التي يتعامل بها العمل مع أحداث وعلاقات عاطفية وانسانية ومهنية بين صباح ومن مروا بحياتها، من أبيها القاسي البخيل مدمن القمار والعلاقات النسائية، إلي الرجال والأزواج الذين عرفتهم وانفصلت عنهم بسبب الغيرة وأشياء أخري بعضها مخجل...إلي المشاكل الطائفية أو الناتجة عن الإختلاف الديني... إلي علاقات التنافس والغيرة بينها وبين الفنانات والفنانين الآخرين مثل آسيا ونور الهدي وعبدالحليم حافظ ومجلس قيادة الثورة - أو بالأصح جهاز مخابرات الثورة - الذي حرمها من دخول مصر لسنوات طويلة. في العادة تعاني أعمال السيرة من اعتراضات الورثة من أبناء وأحفاد وأولاد عم وخال وحتي أحفاد وأولاد خالة بلديات وجيران، والصحفيين الذين التقوا أو عاشوا في زمن، الشخص محور العمل...وفي الغالب يكون الشخص نفسه قد ترك من المذكرات والتسجيلات والحوارات الصحفية قدرا معقولا من الصدق وأسرار الحياة الشخصية يحاول الورثة، والصحفيون والمتحدثون باسم الزمن الجميل، وربما أصحاب المسلسل نفسه، أن يمنعوه أو يحرفوه...والأمثلة أكثر من أن تحصي ليس فقط في مجال الأفلام والمسلسلات، بل المذكرات المكتوبة أيضا.أعتقد أن ما أنقذ مسلسل "الشحرورة" من تشويه الورثة هو أن صباح نفسها لا تزال حية، وبالتالي لم يجرؤ أحد أن يدعي التحدث باسمها... أعتقد أن صباح لو لم تكن حية لكنا شاهدنا عملا أقل شجاعة وصراحة بكثير. قد يخلو اخراج المسلسل من اللمسات الابداعية أو الاتقان وقد لاتكون كارول سماحة مشبعة أو مقنعة في أدائها لدور صباح، ولكن هذه مشكلة أزلية في الأعمال التي تتناول نجوما لديهم جاذبية متفردة مثل عبد الحليم حافظ أو سعاد حسني...وفي رأيي أن كارول لديها حضور وجاذبية خاصان بها، وهي استطاعت أن تصنع للشخصية حضورا مميزا، خاصة في النصف الثاني من حياتها الذي يقترب من عمر كارول الفعلي ومشاعرها وعالمها الحقيقي. النموذج العكسي يمكن أن نجده في مسلسل "الريان"، فالممثل الذي يلعب الدور الرئيسي أكثر حضورا وشعبية من الشخصية الحقيقية بالتأكيد، والممثل يمنحها من الانسانية والجاذبية الكثير، ومن المعروف أن أحمد الريان وافق علي صنع العمل وتقاضي أجرا كبيرا علي ذلك، كما شارك بطرق عديدة في عملية صنعه، مثل مراجعة الأحداث مع المؤلفين واللقاء بالممثل خالد صالح الذي لعب دوره، ومهما كان التناول فالمسلسل في النهاية محاولة لفهم شخصية الريان وتبرير فساده وتصرفاته... ولكن يجب ألا ننسي أيضا أنه أول عمل درامي عربي يتناول حياة "مجرم" لا يزال حيا- بغض النظر عن صحة الاتهامات التي وجهت إلي الريان وإخوته والتي أدين فيها، وهي سابقة مهمة وذات دلالة كبيرة علي التطور البطئ الذي شهدته مسلسلات السيرة علي مدار السنوات الماضية.