تعليم الفيوم يحصد مركز ثاني جمهورية في مسابقة المعلمة الفعالة    ارتفاع محلي وانخفاض عالمي.. كم سجل سعر صرف الدولار اليوم الخميس 16 مايو 2024؟    أسعار السمك اليوم الخميس 16 مايو 2024 في أسواق أسيوط    محكمة العدل الدولية تستمع لطلب جنوب إفريقيا بوقف هجوم إسرائيل على رفح    هيئة شؤون الأسرى: ارتفاع حصيلة المعتقلين الفلسطينيين منذ 7 أكتوبر ل 8755    محمد شريف يقود تشكيل الخليج المتوقع أمام الاتحاد بالدوري السعودي اليوم    أخبار الأهلي: التشكيل الأقرب للأهلي أمام الترجي في ذهاب نهائي أفريقيا    محامي سائق أوبر يفجر مفاجأة: لا يوجد دليل على كلام فتاة التجمع.. ولو ثبت سأتنحى عن القضية    السجن المشدد 15 عاما وغرامة 500 ألف جنيه لعامل لاتهامه بالإتجار بالمخدرات في قنا    «الداخلية» تكشف ملابسات مقتل سائق بالشرقية.. وتضبط مرتكبى الواقعة    أمين الفتوى: بهذه الطريقة تصادف ساعة الاستجابة يوم الجمعة    البحيرة: توريد 188 ألف طن قمح للشون والصوامع حتى الآن    حالات الحصول على إجازة سنوية لمدة شهر في قانون العمل الجديد    محافظ أسيوط يستقبل مساعد وزير الصحة ويتفقدان مستشفى بني محمديات بأبنوب    حزب الله اللبناني: أطلقنا أكثر من 60 صاروخا على مواقع إسرائيلية ردا على استهداف البقاع    تفاصيل الحالة الصحية لرئيس وزراء سلوفاكيا.. خضع لجراحة 5 ساعات    بوتين وشي جين يعتمدان بيانا مشتركا حول تعميق علاقات الشراكة    جامعة قناة السويس تصنف من أفضل 6.5 % جامعة عالميا وفقا لتصنيف CWUR 2024    نزع ملكية قطعة الأرض رقم «27س» لإقامة جراج متعدد الطوابق عليها    تمهيدا لإعلان الرحيل؟ أليجري يتحدث عن لقطته مع جيونتولي "سأترك فريقا قويا"    أخبار الأهلي: موقف الأهلي من التعاقد مع أحمد حجازي في الصيف    صدام جديد مع ليفربول؟.. مفاجأة بشأن انضمام محمد صلاح لمعسكر منتخب مصر    «الري»: إعادة تأهيل وتشغيل الممر الملاحي لترعة الإسماعيلية بالتعاون مع «النقل» (تفاصيل)    تداول 10 آلاف طن و585 شاحنة بضائع عامة ومتنوعة بموانئ البحر الأحمر    أستاذ طب وقائي يحذر من زيت الطعام المستعمل: مادة خطيرة تدخل في تبييضه    مصرع شاب أثناء محاولته إرجاع مركب انقطع وتيره في المنوفية    «مترو الأنفاق» يُعلن انتطام حركة القطارات بالخط الثاني    «الداخلية» تواصل الحملات على المخابز للتصدي لمحاولات التلاعب في أسعار الخبز    فرقة فاقوس تعرض "إيكادولي" على مسرح قصر ثقافة الزقازيق    يسري نصر الله يحكي تاريخ السينما في مهرجان الفيمتو آرت الدولي الثالث للأفلام القصيرة    ختام فعاليات مهرجان المسرح بجامعة قناة السويس، اليوم    الأحد.. الفنان عمر الشناوي حفيد النجم كمال الشناوي ضيف برنامج واحد من الناس    توريد 188 ألف طن قمح لشون وصوامع البحيرة    «الرقابة الصحية»: حل 100% من شكاوى المنتفعين ب«التأمين الشامل» خلال أبريل    محافظ أسيوط ومساعد وزير الصحة يتفقدان مشروع إنشاء مستشفى منفلوط المركزي    ياسمين عبدالعزيز تنشر صورة مفاجئة: زوجي الجديد    اليوم.. انطلاق الملتقى التوظيفي لزراعة عين شمس    «الإفتاء» تحسم الجدل حول مشروعية المديح والابتهالات.. ماذا قالت؟    نجم الترجي السابق ل«أهل مصر»: الأهلي مع كولر اختلف عن الجيل الذهبي    القيادة المركزية الأمريكية تعلن تدمير 4 مسيرات للحوثيين في اليمن    طريقة عمل دجاج ال«بينك صوص» في خطوات بسيطة.. «مكونات متوفرة»    تنظيف كبدة الفراخ بمكون سحري.. «هيودي الطعم في حتة تانية»    حلم ليلة صيف.. بكرة هاييجي أحلى مهما كانت وحلة    توقعات الأبراج وحظك اليوم 16 مايو 2024: تحذيرات ل«الأسد» ومكاسب مالية ل«الحمل»    غارات إسرائيلية على منطقة البقاع شرق لبنان    «سلامتك في سرية بياناتك».. إطلاق حملة «شفرة» لتوعية المجتمع بخطورة الجرائم الإلكترونية    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس 16-5-2024    إبراهيم عيسى: "في أي لحظة انفلات أو تسامح حكومي البلاعات السلفية هتطلع تاني"    محمود عاشور يسجل ظهوره الأول في الدوري السعودي    نجمة أراب أيدول برواس حسين تُعلن إصابتها بالسرطان    قدم الآن.. خطوات التقديم في مسابقة وزارة التربية والتعليم لتعيين 18 ألف معلم (رابط مباشر)    4 سيارات لإخماد النيران.. حريق هائل يلتهم عدة محال داخل عقار في الدقهلية    بوتين يصل إلى الصين في "زيارة دولة" تمتد ليومين    منها البتر والفشل الكلوي، 4 مضاعفات خطرة بسبب إهمال علاج مرض السكر    الدوري الفرنسي.. فوز صعب لباريس سان جيرمان.. وسقوط مارسيليا    كم متبقي على عيد الأضحى 2024؟    قصور الثقافة تطلق عددا من الأنشطة الصيفية لأطفال الغربية    حسن شاكوش يقترب من المليون بمهرجان "عن جيلو"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تلك الصورة العالية
نشر في أخبار الأدب يوم 18 - 06 - 2011

رحت أفكّر، وأنا جالس علي كنبايتي في غرفة الزوّار، أنّه كان عليّ منذ زمن أن أُخفض الصورة التي علي الحائط أمامي. كان أخي عدنان، كلّما أتي لزيارتي، يسألني ممازحا لماذا علّقتهم هكذا مثل المشنوقين. كانت تلك الصورة، صورتهم، في أعلي الحائط، قريبة من السقف، وهو ظلّ يقول لي إنّني يجب أن أُخفضها لتصير علي مستوي عينيّ الرجل الناظر إليها. وأنا كنت أجد ذلك صحيحا إذ لم أعد أتميّزهم، هم الثلاثة، أبي وجدّي وعمّي السيّد محمد، بهيئاتهم الواضحة، لا بالنظارات ولا بدونها. أروح أتذكّرهم في الصورة تذكّرا كلما نظرت إليها من حيث أجلس، عالية وصغيرة في داخل البرواز الفضي المجدول.
الآن، وأنا جالس علي الكنباية نصف ممدّد، خطر لي أن أري الصورة عن قرب. أن أري أبي في عمر الثلاثين، كما كان، ناظرا إلي المصوّر بعينيه الصغيرتين كأنّه يحثّه علي أن يستعجل وينصرف بكاميرته من أمامهم. كانت أمّي تقول، معوضّة له عن صغر عينيه، إن الوهرة التي فيهما تُخيف كلّ من تقعان عليه. " حتي القطتان اللتان تربّتا في بيتنا كانتا تستديران مبتعدتين من خوفهما، صافنتين في الأرض كأنهما ولدان"، كانت تقول واصفة وقت خروجه إلي مصطبة الجنينة ليريح نظره من عتم غرفته، كما ليقف علي رجليه بعد أن أتعبه القعود هناك، في وسط صفّ الطراريح .
-لدينا سلّم هنا في البيت؟
نظرت زوجتي إليّ من فوق الطاولة الصغيرة التي رفعتها عن الأرض لتدنيها منّي:
-ألسلّم، لماذ السلّم؟
-سأُخفض الصورة، هي عالية ولا يستطيع أحد أن يري مَن فيها.
إلتفتتْ نحوها وهي ما زالت منحنية فوق الطاولة التي وضعت فوقها الشاي ثمّ، قبل أن تستقيم واقفة، أدارت وجهها إليّ:
-أنت ستنزلها؟.. الآن؟
-ليس الآن ، لكن يجب أن تكون هناك
وهي التفتت هذه المرّة أيضا لكن إلي حيث أشرت بإصبعي، بل وأطالت النظر إلي هناك كأنّما لتفهمني أنّها تفكّر بشيء آخر، وأنني أنا أيضا يجب أن أفكر بشيء آخر
-علي كلّ حال كان مريضا وأنت هناك في المستشفي
-مثلما يمرض كلّ مرّة ؟
-مثلما يمرض ، أجابت كأنّها تقول لي إنّه أتعبها مثلما يُتعبها عادة
لكن رغم ذلك خطر لي أنّ ما أمرضه هذه المرّة هو غيابي عنه
-كان ينام في سريره؟
-نام في سريره ليلة وعلي كنبايته ليلة...لكن إشرب الشاي أوّلا، قالت حين رأتني أمسكُ بيديّ طرفي الكنباية لترفعاني.
ليس فقط غيابي أنا عنه، لكن بقاؤه جالسا علي كنبايته الوقت كله من دون أن يقف أمامه أحد يكلّمه.
-ألصبيّان...
كنت سأسالها إن كان الصبيّان يسلّيانه بأن يلاعبا أختهما أمامه، لكنني انتبهت، كأنما فجأة، إلي أنني لم أسألها عنهما بعد.
-...أين هما؟
- خرجا، في المرّات التي قَبِل فيها أبوك أن يأكل، كان أحمد هو الذي يطعمه، بالملعقة.
تخيّلت إبني أحمد واقفا حاملا صحن الأكل ، منتظرا أن يزدرد أبي ما في فمه حتّي يقرّب إليه الملعقة ملآنة طافحة فلا يعرف أبي كيف يأخذ منها ما يقدر علي مضغه.
-أكل؟
-من؟
-أبي.. هل تغدّي؟
أن أُطعمه، الآن، هو ما ينبغي عليّ أن أفعله. هو ما سيريحني. سأبدو، وأنا أدخل إليه حاملا أكله، كأنني لم أغب عنه.
كأنّني أُصمته بما أضعه في فمه. يأخذ ما في الملعقة بشفتيه لكنّ عينيه لا تلبثان أن تعودا إليّ، ناظرتين في وجهي. وهو يعرف أنّني سأتمكّن من إسكات فضوله بهذه الكلمات التي أعيدها مرّة بعد مرّة: "كل يا أبي"، "بالصحة يا أبي"، "هذه بعد"، "هذه فيها الشفاء". لكنّه، مع كلّ كلمة أقولها يُشعرني بأنني أتعبه وأؤذيه. " كل يا أبي" أقول له وإن كنت أنتظر أن يزداد إلحاح نظراته ويشتدّ حتي ليخيّل إليّ أنه يكاد يُطلع صوته الذي أبقاه محبوسا في داخله كلّ هذه الشهور ليقول لي: "أين كنت؟... قل لي أين كنت".
لكن بصوت هو غير صوته الأوّل، الساخط الذي يزجر سامعيه. " أنتما هناك، كفّا عن الكلام" كان يقول لإثنين يتكلّمان في أثناء ما كان يخطب في الحسينيّة. وهو، إن لم يسكتا، كان سيقول لهما، هكذا أمام جميع الجالسين: "أخرجا من هنا". وهما كانا سيتلفّتان حولهما من حرج، مستصعبين الخروج، وذلك حتي يُخرجهما الناس. وهو لن يعود إلي الكلام إلا حين يري ظهريهما يتواريان في نزولهما علي الدرجات: "من عرف الله وعظّمه ..." يقول مستأنفا تفصيل ما كان رُوي عن أبي ذرّ.
" أحسنت.. أحسنت " راح يقول لي وأنا ألقي خطبتي الأولي بعد عودة لي من النجف. وأنا لم أكن أستحقّ أن يثني عليّ إذ كانت رجلاي المختبئتان خلف منبر الحسينيّة ترتجفان وكان صوتي يطلع متردّدا بين أن يكون صوتي الذي لي وبين أن أجعله في قوّة أصوات الخطباء. "أحسنت.. أحسنت" كان يأتيني صوته عن يمين المنبر حيث كان يجلس مواجها الناس. كان يقصد أن يُسمعهم ما يقوله لي حتّي يظلوا ساكتين مصغين إلي ما أقول. وأنا كنت أعلم ذلك لكنّي كنت أقبل به، بل وأنتظره. أنتظر أن يعود إلي قوله "أحسنت" مرّة بعد مرّة علنّي أصدّق أنا نفسي ما يقول.
وكنت أعرف أنّه لن يعود إلي الكلام عن تردّدي في خطبتي حين خرجنا من الحسينيّة. لم يجب بشيء حين قلت له إنّني لم أكن كما ينبغي لي أن أكون. ظلّ ساكتا مستغرقا بالنظر إلي الطريق أمامه. فكّرت آنذاك أنني أخجلته، ليس فقط من ضعف صوتي وارتباكي في ظهوري، بل أيضا لتعريضي له إلي أن يستحسن، أمام الناس، ما لم يرضه ولم يعجبه.
"كُلْ يا أبي.. هذا الطعام يقوّيك" بقيت أقول له. وهو يطيعني بأن يفتح فمه كلمّا قرّبت إليه الملعقة. ربما كان ينتظر أن أطيعه مثلما يطيعني بأن يظلّ يأكل علي رغم شبعه، أن أقول له إنّني كنت في المستشفي وإني راجع إليها بعد يومين أو ثلاثة.
"أكل كلّ ما في الصحن" قلت لزوجتي الواقفة في وسط الممشي تنفّض، بضربات سريعة ، الغبار الذي غطّي ثياب هبة. لم تلتفت إليّ لتأخذ الصحن الفارغ من يدي. وإذ توجّهت أنا لأضعه علي المجلي، سمعتُ هبة تتهيّأ لتشرع في البكاء. كاتت الضربات التي اشتدّت علي مؤخّرتها قد أوجعتها، وهي فهمت أنّها، الآن، تتلقّاها كعقاب. حين رأتني عائدا من المطبخ اندفعت نحوي مادة إليّ يديها. حملتُها، وتقدّمتُ بها إلي حيث كانت لعبتها مرميّة علي الأرض. قلت لها، فيما أنا أنحني لألتقط اللعبة، إنّها ما تزال نائمة. "خذي..خذي.. إحمليها قبل أن تفيق"، قلت لها، لكنّها امتنعت عن أخذها بهزّها كتفها، ثم بالنظر إليها نظرة كارهة.
استعدت، وأنا في الطريق متوجّها إلي الجامع، ما كان يقوله لي السيّد عبد الحسن عن كسلي. لم يكن يقصد قرب بيتي من المسجد فقط، ولا قلّة بقائي فيه، بل إجابتي له ب"لا" كلّما دعاني إلي أن نذهب معا إلي العزاءات في القري. " أنت الذي اخترت أن يكون البيت هكذا قريبا من الجامع؟ "، كان يسألني، وأنا أُجيبه ممازحا، بأنّ أهل الدويرة هم الذين اختاروا البيت لي وهو لاءمني.لا أكثر من ثمانين خطوة كنت أعدّها كلّما ذهبت منه إلي المسجد. حتي أنني كنت أستطيع أن أتبيّن من أتي إليه من
الناس، وذلك بمجرّد الإلتفات إلي أيّ من نوافذ البيت الثلاث التي لجهة الطريق.
وهم أيضا، من نوافذ بيوتهم، سيعرفون أنّي جئت فيلحقون بي. لا أكثر من خمس دقائق أو عشر سأكون فيها وحدي، جالسا في وسط الجامع، منقّلا حبّات المسبحة بين أصابعي. ذاك لأن لا شيء
يجب أن أفعله قبل مجيئهم. ليس من شيء حولي لأنشغل بترتيبه أو بإرجاعه إلي مكانه. كان جدّي السيّد مرتضي يُعيّر أهل الحسانيّة ببخلهم لأنّهم لا يفعلون شيئا لجامعهم. بل إنّه كان يضرب بهم المثل فيقول عن الأمكنة الخالية إنّها مثل جامع الحسّانيّة ليس فيه إلّا إبريق الوضوء.
-الحمد للّه علي السلامة، قال الرجلان اللذان دخلا إلي الجامع من بعدي. كانا قد شاهداني لا بدّ، وأنا خارج من بيتي إلي الطريق. بتهنئتهما إيّاي بالسلامة، كانا يقصدان أن يسألا لا أن يهنّئا، أن أقول لهما ماذا وجد فيّ الطبيب.
كانا أكثر أهل الدويرة تردّدا علي الجامع، ليس من أجل الصلاة والإستماع إلي الموعظة، لكن من أجل أن يقطّعا بعضا من وقت نهارهما الطويل. وأنا، لمعرفتي بهما، أروح أحادثهما فيه بما كنت سأحادثهما به فيما لو كانا في بيتي.
وإذ لم يفدهما تلميحهما عن سلامتي كان عليهما أن يزيدا استفهامهما وضوحا:
-بقيت في المستشفي يومين؟
-يومين، أجبت بعد أن بدوت كأنني أعدّهما.
-كنت لوحدك؟
-كان معي بلال، إبن أخي.
يريدان أن يعرفا. وأنا، إن ظلّا علي فضولهما، لن أستطيع أن أظلّ أوارب وأجيبهما فقط عمّا يسألانه.
-في غيابك أحضروا الطبيب للحاج زينو
-مرّة أخري؟
-علي عادته، ينسي أنّه مريض بالسكّري ويروح يأكل نصف صينيّة البصما التي جاء بها إبنه من النبطيّة.
كانا يريدان أن يسلّياني، ساعيين إلي التخفيف من وطأة المرض بتحويله إلي واحدة من فكاهاتهم.
-وإبنه، ألا يعرف أنّ البصما تضرّه؟
وإذ أضفت علي ذلك أنّ لا طريقة لمنع مريض السكّري عن أكل الحلوي إلا بإخفائها من بيته، بدوت كأنني أوقف الكلام المازح الذي كانا سيسترسلان به عن الحاج زينو.
وقد زاد في إسكاتهما قولي لهم، بعد أن نظرت إلي ساعتي، أنّ أذان العصر سيحلّ بعد دقيقتين.
-الكهرباء مقطوعة من أمس، قالا معا، ثمّ انفرد أحدهما بالقول إنّهم في جميع القري باتوا يشغّلون الأذان بالبطّاريات.
ولكي أعود إلي مسايرتهما، قلت لهما إنّنا بدلا من ذلك يجب أن نرجع الأذان إلي ما كان عليه، بلا كهرباء وبلا بطاريّات. ثمّ خطر لي أن أشركهما بالنسمة الهادئة التي أتتني من تذكّري السيّد أمين واقفا علي مصطبة الجامع ومطلقا أذانه الذي لن يسمعه إلا الذين في البيتين أو الثلاثة القريبة من الجامع، مع أنّه كان يجحظ عينيه حتي ليبدو كأنّه يحاذر أن يباغته أحد فيما هو يرفع أذانه.
-السيد أمين.. ألله يرحم السيّد أمين، قال أحدهما متأسّفا ومتفكرا.
كان الناس يملأون المقاعد كلّها في عيادة الطبيب. تردّد قليلا ذلك الشاب، بعد أن دخلت، عن القيام ليجلسني في مكانه. وقد انتظرتُ قليلا قبل أن تنتبه المرأة، أو الرجل الجالس بجوارها، أن يبدّلا مكانيهما فيصير هو من سيكون إلي جانبي وليس هي. حين أتمّا ذلك مدّ بلال ذراعه مشيرا لي إلي حيث الكرسي. بدا صغيرا يقلّد ما يفعله الكبار. إبتسمت له فيما أنا أجمع طرفي عباءتي لأبدأ بالجلوس. كان يعرف أنّني أحتاج إلي أحد يكون معي، وأنّني أحتاج، قبل أن أقوم بتلك الأشياء مثل الجلوس والقيام، أن أبدو كأنّني اُدعي إلي ذلك.
ما أحدثه دخولي من تلفّت وارتفاع للنظرات والرؤوس لم يدم كثيرا بعد جلوسي. لا أكثر من لحظات عاد الجالسون إثرها إلي الصمت الذي كانوا فيه. كان بلال واقفا مستندا إلي الباب وناظرا إليّ كأنّه ينتظر أن أقول له شيئا. بعد انقضاء دقائق إلتفتت إليّ موظّفة الطبيب من وراء مكتبها لتقول لي إنّه في الداخل، وإنّه سالها عنّي. وقد اربكني ذلك إذ خطر لي أنّ الجالسين سيعاودون النظر إليّ ليتبيّنوا شيئا عن مرضي. لكنّني، مع ذلك، عرفت أنّ جلوسي بينهم لن يطول وأنّني، حين يفتح الطبيب بابه سأكون أوّل الداخلين.
-أهلا شيخنا، قال لي فيما هو يمسك بإحدي يديه درفة الباب ليبقيها مفتوحة.
-السلام عليكم، قلت له حين صرت في الداخل.
-كيفنا؟ قال، فيما هو يستدير ليصير وراء مكتبه، وليبدأ بعد ذلك رفع الأوراق عنه ليصل إلي ما يخصّني منها.
وقد جلس في أثناء ما كان يحدّق في أوراقي ، مقّلبا صفحاتها.
-ضروري أن نُجري العملّية
لم أجب بشيء. خفت أن أتلعثم، أو أن يطلع صوتي ضعيفا ومرتجفا.
-خائف؟
-وقل لن يصيبنا.. أجبت بصوتي المرتجف إيّاه
-لن تموت، قال ناظرا إليّ، في عينيّ، وعلي شفتيه تلك الإبتسامة التي لم أستطع إلّا أن أري فيها خبثا.
- وبدون عمليّة ماذا...؟
- تموت، ليس اليوم ، ولا غدا، ولا بعد شهر أو شهرين.. لكن..
كان يتكلّم بنبرة محايدة ومنتظرة، كأنّما ليعرف منّي أيّ الإحتمالين أختار.
وقد بقيت ساكتا، أو أنّني كنت أتباطأ، لا من حيرتي، بل من ضيقي ومن استمهالي لنفسي لكي يكون هناك وقت بين ما سمعته وبين ما سأقوله.
-بعد العمليّة، هل سأظلّ كما أنا؟
-هي عمليّة صعبة، وطويلة لأنّنا سنستأصل أعضاء ونضع أعضاء في مكانها.
-وخطرة؟
بحركة من رأسه بدا كما لو أنّه لم يفهم، أو أنّه لا يجيب عن سؤال مثل هذا.
-أقصد وأنا في العمليّة، تحت العمليّة، هل...؟
-في الطب لا شيء مؤكّدا ولا مضمونا، لكنّنا في المستشفي أجرينا مثل عمليّتك هذه مرّات كثيرة
ولم يكمل، لكنّي فهمت أنّه يقصد أنّ المرضي لم يموتوا، أنّه كان يخرج من العمليّة والمريض حيّ لم يمت.
-لكنّك ستوقّع علي ورقة رفع المسؤوليّة حين تدخل، قال معيدا جملة من ذلك الدرس الذي قاله لي، حين كان أبلغني بمرضي، بأنّهم، في هذا المستشفي، لا يخفون عن المريض شيئا.
-.. لكن هل سأظلّ كما أنأ؟ أعدت عليه السؤال الذي كان أغفله.
-هي عمليّة صعبة. هناك أشياء ستتغيّر في جسمك، أقصد في وظائف جسمك...
لم أشأ أن يكمل. ذاك أنّه اتخذ هيئة من سيبدأ بأن يحصي ما سيتغيّر فيّ وما سأخسره. وهو فهم انّني تلقّيت هذا اليوم ما يكفيني. قال لي إنّني سنتكلّم عن كلّ ذلك حين أكون في المستشفي، معلّلا ذلك بغمزة من عينيه أشار بها إلي الكثيرين المنتظرين هناك، في الخارج.
-ومتي أرجع؟
- لسنا مستعجلين كثيرا.. أنت رتّب أمورك ثم اتّصل بي.
حين فتح لي الباب لأخرج بدا ناظرا إلي من سيدخل بعدي من الجالسين. وإذ تعدّيت الباب، واقفا بينهم، قال لي كلمة سريعة مودّعة: "أنتظر إتصالك"، قالها مصحوبة بتلك النظرة التي سريعا ما استردّها ليبدأ اهتمامه بالمريض الذي قام ليصير في الداخل من بعدي. كنت متعرّقا وأنا في الخارج، بل إنني قاومت حاجتي لأن أرفع العمامة وأمرّر يدي علي جبيني ورأسي لأمسح العرق الذي كان قد تجمّع مبلّلاً أطرافها. قالت لي الموظّفة بعد أن استدرت باتجّاهها أنّها لاتريد منّي شيئا، وهي أعطتني البطاقة التي أحتاجها لاتصالي بها أو بالطبيب. ثمّ استدرت لأري إبن أخي الذي كان ما يزال واقفا في مكانه، مبعدا نظره عنّي لكي لا يراني وأنا في حرجي ذاك. ولا أعرف لماذا نظرت إلي البطاقة التي أعطتني إيّاها الموظّفة كأنّني أتبيّن شيئا فيها، علي الرغم من أنّ ذلك أخّرني وعرّضني وقتا زائدا إلي نظراتهم. ثمّ، أمامهم، تمهّلت وأنا أضعها في جيبي. كأنّني كنت أؤخّر لحظة الخروج، المربكة والتي تحتاج منّي إلي أن أتهيّأ لأقول "السلام عليكم"، فيما أنا أخطو باتجاه الباب الذي يقف لصقه إبن أخي.
مقطع من رواية قيد الكتابة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.