استطاعت الصين خلال فترة زمنية قليلة أن تصعد وتهدد العرش الاقتصادي للولايات المتحدةالأمريكية القوة الأولي في العالم، وأصبح في حكم المؤكد أن الصين ستكون في مقدمة دول العالم قبل منتصف القرن الحالي بسنوات. ويدلنا النموذج الصيني علي أن أي دولة قادرة علي الخروج من قائمة الدول النامية إلي قائمة الدول المتقدمة، بشرط توفر الإرادة السياسية والتخطيط الجيد للمستقبل خلال المديين القصير والطويل. ويمكننا في مصر أن نحقق معجزة مثل التي حققتها الصين بعد تغير الأجواء السياسية ورحيل رأس النظام السابق الذي كان يفضل الاستقرار وبقاء الأحوال علي ما هي عليه، من دون نظرة إلي أن العالم يتغير، وها هي الفرصة قد جاءت الآن لتبذل هذه الدولة جهودها للتقدم إلي الأمام بالتخطيط العلمي. عن المعجزة الصينية صدر كتاب "القرن الآسيوي.. الصين تغير ميزان القوي العالمية" للمفكر السياسي عاطف الغمري عن دار نهضة مصر، وفيه يوضح أن العالم مشغول في الوقت الحالي بصعود الصين، بسبب تفوقها غير المألوف في التنمية الاقتصادية، التي بلغت معدلاتها 10٪ في المتوسط. ويشير إلي وجود خصائص تميز التحولات الكبري في تاريخ الدول، إذ لا بد من قوة دفع مكونة من مجموعة عوامل تتحرك في مسارات ثم تلتقي عند نقطة معينة، ليكون هناك تشكيل جماعي متناسق. ويؤكد أن هذه الحلقات المتشابكة "تبدأ من استراتيجية للتنمية وضعت لها خطة عمل، وأهداف قريبة وأخري طويلة الأجل، ومناخ جاذب للاستثمارات الأجنبية، والبناء فوق قاعدة النجاح في الداخل، بخطة للتوسع في المحيط الإقليمي، في شكل حلقة إنتاجية آسيوية أساسها المنفعة المتبادلة، ثم متابعة هذا النمو الداخلي والإقليمي، بالوصول إلي المستوي العالمي، وكل ذلك يلزمه من البداية توافر المواد الأولية والطاقة التي تضمن استمرارية التنمية، ووجود الأسواق التي تستوعب صادرات الإنتاج الصيني المتنامي، وخلق وجود صيني في هذه المناطق". يشير المؤلف إلي أن الصين كانت متقدمة علي أوروبا في العصور الوسطي، لكن الغرب استطاع أن يصعد خلال عدة قرون متقدما علي الصين، واستطاع منذ القرن التاسع عشر استغلال ثرواته وتجاوز الصين واليابان،اللتين تقهقرتا نتيجة عدة عوامل من أهمهما الزيادة السكانية، ونقص خصوبة الأرض الزراعية، وعدم القدرة علي توفير القدر اللازم من الطعام والوقود ومواد البناء، في الوقت الذي استطاعت فيه أوربا اكتشاف كميات كبيرة من الفحم ساعدتها في ثورتها الصناعية، في حين أن مناجم الفحم الكبيرة في الصين كانت في مناطق بعيدة جدا عن المراكز الرئيسة للسكان، ومن العوامل القوية في صعود أوربا استعمارها العالم الجديد، وبخاصة مناطق الكاريبي وأمريكا الشمالية التي توفرت فيها الأراضي الشاسعة والأيدي العاملة الرخيصة والمواد الخام والطعام. بدايات الصعود الآسيوي يوضح "الغمري" أن بدايات الصعود الآسيوي كانت في الخمسينيات من القرن العشرين عندما حدث التقدم الاقتصادي الاستثنائي لليابان، وتلاه التقدم اللافت للنمور الآسيوية (كوريا الجنوبية وسنغافورة وتايوان وهونج كونج)، ثم حدثت القفزة الكبري للصين، وتبعتها الهند. ويشير إلي أن كثيرًا من المؤسسات الغربية يري أن القرن الحالي سيعرف بالقرن الآسيوي، مثلما عرف القرن العشرون بالقرن الأمريكي، ومن قبلهما القرن الأوربي في القرن التاسع عشر. ويؤكد أن التنمية الاقتصادية الصينية اعتمدت علي استراتيجية أمن قومي تقوم علي ثلاثة أهداف أساسية هي: فلسفة للتنمية تتوازي مع أبحاث علمية وتكنولوجية تدفع بالقدرة الاقتصادية إلي ميدان التنافس العالمي، وضمان وجود الموارد كالطاقة وتأمين وجود الصين في المناطق التي تحتوي علي هذه الموارد، وأسواق لإنتاجها في أنحاء العالم لاستيعاب الصادرات من أجل استمرار التنمية في الداخل بالمعدلات نفسها. ويوضح أن تعداد سكان الصين بليون و300 ألف نسمة، ويعد اقتصادها ثالث أكبر اقتصاد في العالم بعد أمريكا واليابان، ويمثل اقتصادها 13٪ من إجمالي الإنتاج العالمي، وينمو بمعدل متزايد، ففي عام 2009 بلغ 8،7٪ وهو أعلي معدل في العالم، وزاد في الربع الأخير من العام إلي 10,7٪ بالمقارنة ب 6,3٪ عام 2008 الذي حدثت خلاله الأزمة المالية العالمية. ويشير "الغمري" إلي أن الصين ركزت علي تدعيم قوتها الناعمة عن طريق إنعاش الثقافة الصينية الجديدة، والتحول إلي بعض أنماط النهج الديمقراطي، وتحسين التعليم ونشره، وإعادة بناء نظام القيم الاجتماعية والمعنوية. وقد ظهرت هذه القوة الناعمة في "الإبهار الذي شعر به العالم وهو يري الشكل والتنظيم والتقدم الذي ظهرت به الصين في تنظيمها دورة الألعاب الأوليمبية لعام 2008، رمزا لعودتها إلي الصعود علي المسرح العالمي. واتضح أن الاستراتيجية التي تقف وراء هذه الدورة، ترمي بشكل واضح إلي دعم الشعور القومي لدي الصينيين وهم في لحظة يتطلع فيها العالم كله إليهم". معايير القوة الصاعدة يوضح المؤلف أن المفكرين السياسيين وضعوا معايير للقوة الصاعدة، تنطبق علي الصين، وهي: - أن تكون لديها مؤسسات قوية وفاعلة، ونفوذ إقليمي، وعلي سبيل المثال أن تكون ذات مساحة من الأرض كبيرة نسبيا، ووفرة في القوة العاملة، وغنًي في الموارد. - وجود رغبة قوية في المشاركة في الشئون الرئيسة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في النظام الدولي. - أن تتمتع بامتلاك طاقات قومية للتطور، وقدرة علي الإسهام في تحول النظام الدولي. ويشير إلي أن راندال بيرينوم رئيس مؤسسة أكسفورد للقانون والعدالة أكد أن الصين تقدم عدة دروس مهمة للدول النامية، منها: - التركيز علي المبادئ السليمة للاقتصاد الكلي في إدارة الاقتصاد، مثل: الانضباط المالي، ونظام ضريبي شامل، والإنفاق العام علي الرعاية الصحية والتعليمية والبنية التحتية. - ضرورة مواصلة الاستثمار في الموارد البشرية وتنمية المؤسسات، وحكم القانون ضروري لاستمرار النمو الاقتصادي. - القانون يجب أن يعكس الظروف الاجتماعية السائدة، وحين تتعارض القوانين مع آراء الغالبية لا ينبغي الأخذ بها. - الاعتناء بأي ظهور لتفاوت غير عادل في الدخول يصاحب عملية التنمية. - أهمية الاستقرار السياسي. - حيوية الطريق العملي الذي يتم من خلاله تنفيذ الإصلاحات. ويوضح المؤلف أن الصين منافس أساسي في السوق العالمية للطاقة لتنفيذ خطط التنمية، وبخاصة في الشرق الأوسط وإفريقيا، وهو ما جعل الولاياتالمتحدةالأمريكية تقلق من التوسع الصيني في هذه السوق. وتمثل واردات الصين من الطاقة الإفريقية 30٪ من احتياجاتها، وتعد الصين أكبر مستثمر بترولي في السودان. ويؤكد أن العالم العربي يحتاج إلي تعميق العلاقة مع الصين، وهذا يستلزم من العرب امتلاك ثلاث خصائص للقدرة علي المنافسة، هي: - المعرفة بما يجري في العالم، واستشراف آفاقه لتبصر ما هو متوقع فيه. - القدرة علي إطلاق الخيال، وابتداع أفكار وسياسات تخرج بالدولة من واقع يضيق عليها الخناق ويقلص قدراتها علي الإفلات من المشاكل، وتساعدها علي النهوض علمًا وتعليمًا واقتصادًا وثقافةً وإدارة. - الخروج من تقاليد الثبات علي نظم وسياسات وأفكار رسخت لعشرات السنين، دون أن يلحقها التطور والتجديد، بحيث جلبت الركود والجمود. وقد حققت الدول التي امتلكت الخصائص الثلاث تقدمًا اقتصاديًّا لفت أنظارَ العالم، ومنها الصين التي صعدت بمعدلات تنمية فائقة.