بعد العاشرة مساءً بدقائق ، تُصفُّ سيارة مرسيدس حديثة الطراز بجانب الرصيف المقابل لجامع عمر مكرم ، علي غير العادة كانت هناك أماكن خالية ، تقريباً كان الرصيف خالياً ، بعد هذا اليوم الحافل لم يكن الأمر مدهشاً ولا مثيراً للاستغراب ، منذ زمن طويل لم يمر علي الناس يوم كهذا. زحام كثيف لكنه ليس زحام الأيام الأخري .. العادية ، تجمعات من الكتل البشرية تتوزع في أرجاء الميدان الفسيح ، في حقيقة الأمر هو ليس ميداناً واحداً بل هما ميدانان يصل بينهما شارع واسع يتوسطه المتحف المصري ، تم منذ بضع سنوات اختراع الميدان الجديد وأطلقوا عليه ميدان الشهيد ، نصبوا قاعدة وضعوا عليها تمثالاً للقائد الشهيد في مفترق الطرق الذي يسبق الميدان الأصلي في محاولة ساذجة لتنظيم المرور المختنق في مدينة يتزايد عدد سكانها بجنون وبمعدلات غير مسبوقة أنتجت في نهاية الأمر أعداداً هائلة من الشبان ، أصبحوا يمثلون الكتلة الأكبر من التجمعات التي تغطي وجه الميدان. أربع فتيات مازلن في المرحلة الجامعية يوحي مظهرهن بالثراء نزلن من السيارة المرسيدس وهن يحملن أكياس بلاستيك كبيرة الحجم عليها أسماء محال ومطاعم شهيرة ، توجهن بخطوات خجلة نحو الجموع التي تجلس في الحديقة التي تتوسط الميدان ، كانت وسائل الإعلام قد أذاعت أن حركة اعتصام بدأت في الميدان وأنها ستستمر حتي الصباح ، سارت الفتيات وسط حالة من الفرح والشعور بالانتصار تسود جميع الجالسين في تجمعات صغيرة وكبيرة تضم شباناً وشابات ورجالاً ونساء أكبر سناً وقد حرص الجميع علي رفع الأعلام واللافتات التي كتبت عليها عبارات نارية تنادي بسقوط السيد الدكتاتور الرئيس الطاغية وابنه المريض المتطلع للحكم ، بينما تدوي من الجانب الآخر للميدان هتافات منغمة علي دقات الطبول والصفارات من مشجعي أندية الكرة الذين انضموا للمرة الأولي في حياتهم إلي المظاهرات السياسية ، كانوا أشد الجميع حماسة كأنهم يريدون تعويض السنوات التي قضوها في ممارسة التفاهة من مدرجات الأندية والملاعب بعيداً عن الهموم الحقيقية لوطنهم ، بحكم تمرسهم علي الهتافات المنظمة وقدرتهم علي الاستمرار لساعات فإنهم ظلوا يواصلون بعد أن بحت أصوات الجميع من حولهم ، ولم تلبث مقدرتهم علي ابتكار الهتافات أن تفجرت بشعارات جديدة من ينبوع وطنيتهم التي تشاغلوا عنها من قبل بأنديتهم ، كان النظام السياسي للسيد الديكتاتور الرئيس ينفق بسخاء علي وسائل الإلهاء كافة ومن ضمنها الأندية ومشجعوها ويخلق بينهم صراعات مفتعلة ليمتص طاقة الجماهير ويصرفها بعيداً عن شئون الحكم وسوء إدارته وعن تردي الأحوال المعيشية لغالبية مواطنيه ، لكن المشجعين في نهاية الأمر كانوا جزءًاً من الشعب يعانون كغيرهم وتنتمي غالبيتهم للطبقات الفقيرة التي تتحمل النصيب الأكبر من المعاناة والظروف الحياتية البالغة السوء ، مما جعلهم يعلنون موافقتهم علي الاشتراك في المظاهرات دون تحفظات بمجرد أن اتصلت بهم مجموعات الشبان السياسية ضمن تخطيطهم لحشد أكبر عدد ممكن في المظاهرة التي أرادوا لها أن تكون الأكبر ضد النظام الديكتاتوري الحاكم. الميدالية الذهبية تتدلي من يد الفتاة صاحبة المرسيدس وهي تتقدم رفيقاتها بين حشود الناس في الميدان ، يبحثن بأعينهن عمن يبدأن بالحديث معه ، توقفن تقريباً وهن يتلفتن وقد اعتراهن الخجل ، علي مقربة منهن كانت مجموعة من الشبان والشابات الأكبر سناً يجلسون علي حجارة رصيف الممشي الذي يتخلل حديقة الميدان ، وبرغم الإرهاق الذي يشعرون به بعد قضاء يوم حافل كانوا في قمة السعادة لما تحقق من نجاح للمظاهرات التي اشتركوا في تنظيمها والدعوة لها علي شبكة الإنترنت وصفحات الفيس بوك ، نجاح فاق توقعاتهم ، ظلوا لسنوات ومنذ أن كانوا في الجامعة وهم يخرجون في مظاهرات تقاوم القبح والاستبداد وتدعو لسقوط الديكتاتور الذي أظلم حياتهم وأفقدهم الثقة في المستقبل ، تعودوا لامبالاة الناس بهم ، ينظرون إليهم بتعاطف ويتضامنون معهم من بعيد ، ولكن لا ينضمون إليهم إلا في أضيق الحدود ، خوفاً من قوات الأمن والشرطة التي تطوق المظاهرة بصفوف من الجنود ثم تنقض عليها بعد ذلك لتضرب وتعتقل وتنكل بالشبان والشابات تماماً كما تفعل قوات الاحتلال بشعوب الدول التي تستعمرها بل ربما تمادت في عنفها وفاقتها بطشاً . اليوم فقط اختلف الأمر وأخذت جموع المواطنين تنضم للمظاهرات وتدعمها ، بدا أن الناس فاض بهم الكيل ولم يعد بمقدورهم الصمت فقرروا أخيراً المشاركة وإعلان تأييدهم لشبان المظاهرات الذين لم ينل القمع و التنكيل من عزيمتهم وإصرارهم علي مواجهة الطغيان ، مما حول المئات المعتادة إلي آلاف ظلت تتزايد طوال ساعات النهار حتي وصلت في نهاية الأمر إلي ميدان التحرير واحتلته تحت حراسة قوات الشرطة التي ظلت علي الحياد ، وأعلنت قياداتها في وسائل الإعلام و المحطات الفضائية أن التظاهر حق للمواطنين وأن جو الديمقراطية الذي يسود البلاد بفضل حكمة السيد الرئيس لا يري أي غضاضة في التعبير عن الرأي كما يحدث في الدول المتقدمة. اتجهت أعين مجموعة الشباب الجالسين ناحية الفتيات الأربع وقد وقفن والحيرة تبدو عليهن ، قامت إحدي الشابات من الناشطات في مركز لحقوق الإنسان ، تعمل باحثة في أحد مراكز البحث العلمي الحكومية واتجهت إليهن لتساعدهن. قالت الفتاة صاحبة السيارة ، لقد تابعنا المظاهرات علي شاشة التليفزيون وقررنا أن نشارك بما نقدر عليه ، أحضرنا أطعمة ومعلبات وعصائر لكننا لا نعرف كيف نبدأ وعلي من نوزع هذه الأشياء ؟ إنها المرة الأولي التي ننزل فيها إلي مظاهرة ، ضحكت الشابة وقالت إننا جميعاً إخوة وسوف نساعدكن ، ثم تقدمت الفتيات وسارت نحو أصدقائها الذين رحبوا بالفتيات وساعدوهن في توزيع ما معهن علي الجالسين في الميدان ، كانت الأكياس تحتوي علي ساندويتشات شاورمة ودجاج وكباب وعلب بسكويت من أغلي الأصناف ، وبعد جولة واسعة فرغت خلالها الأكياس ، قالت الفتيات بسعادة ، إن السيارة مازال بها المزيد من أكياس الطعام بالإضافة إلي عدة كراتين مياه معدنية لم يتمكن من حملها ، تطوع عدد من الشبان فذهبوا معهن ليجدوا أن الصندوق الخلفي للسيارة الفاخرة محمل عن آخره بكراتين المياه والعصائر وأكياس الطعام ، قدر الشبان أن الفتيات اشترين بما يزيد علي الألفين من الجنيهات. اعتذرت الفتيات برقة بعد أن تجاوزت الساعة الحادية عشرة بأنهن لا يستطعن البقاء لأكثر من هذا وإن كن يتمنين من أعماق قلوبهن الاستمرار حتي الصباح ، وقالت صاحبة السيارة إنها لا تعاني من أي مشاكل في حياتها لكنها تود أن تري بلدها تتمتع بالحرية والعدالة والحياة الكريمة مثل شعوب الدول الراقية فمصر لا تستحق هذه الحياة التعسة.