أنتصرت الثورة المصرية.. تحقق الحلم بنبض الشباب وقوة إرادتهم. انتصرت الثورة وظل شاهدا عليها حكايات سيرويها الأجيال عن تفاصيل ووقائع الأيام الثمانية عشرة، وهي عمر الثورة التي قلبت الحياة في مصر. والحكايات، هي بعض الوقائع من تراجيديا شاهدت فصولها خلال أيام الثورة في مصر. تتواصل الاعتصامات في ميدان التحرير في وسط البلد.. ولم تنفع قنابل المولوتوف، ولا الغاز المسيل للدموع، ولا الخيول والجمال في عودة الشبان المتظاهرين إلي بيوتهم. ثمة حاجز خوف تم تحطيمه، وخرجت الطاقة المحبوسة داخل الشعب المصري الصامت منذ أعوام طويلة.. فقط شرارة صغيرة أشعلت نار الحرية، التي لا تزال متقدة. وفي سيارة التاكسي المتجهة إلي كوبري قصر النيل تغني أم كلثوم عبر الإذاعة: "مصر التي في خاطري.."، وتقول لي صديقتي إن هذه الأغنية من الأغاني الوطنية التي تبثها الإذاعة في أوقات الحروب.. سائق التاكسي يحكي عن الإفراج عن وائل غنيم، وعن تفاصيل سياسية أخري. قلت في سري: "تغير الشعب المصري، صار الجميع مشغولين بالسياسة، هذا لم يكن ظاهرا من قبل؛ فسابقا كانت الأحاديث المتداولة بين العامة عن ضيق العيش، غلاء الأسعار، الكرة، والجرائم المستفزة". كنت أري حديث سائق التاكسي بالسياسة خاصية لبنانية لم ألحظها في بلد عربي آخر. يختنق السير تماما عند بداية الكوبري، نقرر سير تلك المسافة المؤدية إلي ميدان التحرير. الاستماع إلي أحاديث المارة تصب كلها أيضًا في تحليلات سياسية، كل يدلي برأيه، يعبر عن موقفه لمن معه، ومن الممكن خلال عبور تلك المسافة القصيرة أن يشتبك أشخاص لا يعرفون بعضهم في نقاش شائك حول حتمية رحيل الرئيس، أو ضرورة بقائه خوفا من الفراغ الدستوري. الزحام الشديد يبدأ من رصيف الكوبري؛ فالناس إما ذاهبون أو عائدون إلي الميدان. مسافة حدودية فاصلة بأسلاك شائكة قبل الميدان، ثم نقف في طابور طويل للتفتيش من قبل الجيش، يكتفي أحد الجنود - بأدب شديد - برؤية بطاقة الهوية والحقيبة، وبعد ذلك بخطوات تحت شجرة ضخمة تتولي سيدة منتقبة تفتيشي بسرعة. فما أن تصير في قلب الميدان حتي تدخل إلي قلب الحدث تماما، لكن قبل هذا تستوقفني سيدة خمسينية تحمل علم مصر؛ لتسألني: إذا كان المحتشدون هنا من أنصار الرئيس، أو المعارضين له؟ فيتدخل شاب عشريني للقول بأن كل هؤلاء البشر هنا من المعارضين للرئيس، تسأله السيدة عن مكان تجمع مؤيدي الرئيس؛ لأنها جاءت لتقف معهم، ثم تندفع في مدح الريس الذي وصفته بأنه بطل الحرب والسلام؛ ينظر لها الشاب بريبة قائلا: "امشي يا ستي بره، امشي من هنا إذا كنت من أنصار الريس".. تمضي السيدة خارج الميدان، وهي تحمل علم مصر الكبير الذي يرفرف في هواء هذا اليوم البارد. مجموعة من شيوخ الأزهر يلفتون الانتباه بزيهم الديني ويحملون يافطة مكتوب عليها: "اصمدوا.. اصمدوا من أجل الحرية". يمضي الشيوخ في طريقهم بهدوء دون هتاف أو ضجة، ربما كانوا يتبادلون الجمل البسيطة فيما بينهم، لكن تعب الأيام الماضية وقلق الأيام القادمة يبدو واضحا علي قسماتهم. اختلف ميدان التحرير عن الأيام السابقة، الآن الحال أفضل كثيرا عن أيام العنف التي مضت، بقايا ما حدث يمكن رصده عبر سيارة محترقة تمامًا لم يبق منها سوي الإطار الخارجي تم سحبها إلي مدخل المترو، وقطع المدخل بها، هناك أيضًا رائحة روث الجمال والأحصنة التي تم إفلاتها بوحشية متناهية، قام بها النظام ضد المتظاهرين لإخافتهم، لكنهم لم يخافوا أو يتراجعوا، بل أكملت ثورتهم أسبوعها الثاني. ولعل التأكيد علي نظافة الميدان دفعت شباناً من المتظاهرين إلي القيام بغسل أرضية ميدان التحرير؛ رافعين شعار: "نظافة مصر تبدأ من الميدان"، وهي عبارة مزدوجة من الممكن تحميلها أكثر من وجه؛ في النظافة الميدانية، والسياسية أيضا؛ فالشبان يقومون بتنظيف مصر من قذاراتها السياسية في هذه المرحلة، غير عابئين بكل ما تعرضوا له طوال الأيام الماضية. حشود كثيرة في الميدان، آلاف من البشر، لا يمكن تعدادهم. مختلف شرائح وطبقات وطوائف المجتمع المصري. رجال ملتحون، موظفون، عمال، طلاب، وعجائز، شبان لم يتجاوزوا العشرين، سيدات منتقبات، وغيرهن محجبات بطريقة عصرية إلي جوار أخريات غير محجبات وترتدين ملابس علي الموضة. علي الجانب الأيمن، قرب جامع عمر مكرم، تنتصب خيام المتظاهرين. المتظاهرون من مختلف فئات المجتمع، هناك البسطاء والمثقفون، وأطفال الشوارع، وسكان العشوائيات، هناك الأطباء والمهندسون، والصحافيون والكتاب، ورجال الدين. الخيام المنتصبة قرب جامع عمر مكرم، تستحق التوقف أيضا؛ لأنها ليست من تلك التي نعرفها ذات الوتد المشدود والقماش السميك الذي يقي أصحابه - إلي حد ما- من الحر والقر، بل هنا ما يشبه الخيام، أقمشة رقيقة مرفوعة بعصيان خشبية، أو مسنودة إلي الأشجار، وعلي الأرض ما يشبه الحصيرة لا تتجاوز مساحتها المتر، يجلس داخلها عدة أشخاص، ولا مجال للتمدد إلا إذا حرص الشخص علي إبقاء جسده في وضع جنيني، كي يترك مساحة جلوس لغيره. ليست كل الخيام علي هذه الحال، ربما تكون أوسع قليلا أو أضيق قليلا، لكنها لا تصلح للاستمرار في الحياة لأيام عدة، ورغم هذا يستمر سكانها بمقاومة كل تلك الظروف القاهرة. يجلس في إحدي الخيام رجل أسمر في الأربعين من عمره أو أكثر، يتحدث إلي ثلاثة من الشبان، بجانب الرجل زوجته المحجبة وطفلان صغيران، اقترب للحديث معه، لسؤاله عن اسمه ومهنته وزمن وجوده في الميدان، يقول: "بقالي هنا أسبوع، أنا محامي، والثورة دي مش ثورة جياع، دي ثورة ضد الظلم والفساد، وقانون الطوارئ، والمطلوب هو الهندرة أي إعادة تشكيل نظام جديد لا استبدال أشخاص، المطلوب يمشي الرئيس، قبل أي شيء تاني، وح نبقي هنا حتي يمشي". أحاول الحديث مع زوجته، وسؤالها عن التدابير الحياتية اليومية، لكنها لا تظهر تجاوبا كافيا، وتعطي دفة الكلام لزوجها. يمر علينا شاب يوزع التمر، يبتسم، ويتابع سيره نحو معسكر الخيام الداخلية. باعة علب الكشري يضعون بضاعتهم علي الأرض، كذلك باعة العصير والبيبسي، والبسكويت وأكياس الشيبسي، شاب ينادي علي كروت شحن التليفون "موبينيل" "وفودافون"، داخل الميدان كروت الشحن أغلي بجنيه واحد. في الزاوية رجل يشعل بابور الجاز ويضع عليه إبريق شاي يعلوه السخام الأسود، ويصف أكوابًا صغيرة علي خشبة تأخذ هيئة طاولة، بائع الشاي العجوز يخبرني بأنه هنا منذ أيام الثورة الأولي، وعاش مع المتظاهرين كل أحداثها، أسأله: "ليه ما فكرتش تخرج من الميدان؟" يرد: "يا بنتي ما فضلش من العمر أد ما مضي، هو أنا أحسن من الشباب إللي ماتوا". علي الأرض، صور مكبرة للشبان الشهداء الذين قتلوا خلال أحداث الثورة وعبارة "الورد اللي فتح جوا جناين مصر"، وبجانب الصور أسماؤهم، بينهم وجه مشوه وتحت صورته جملة: "شهيد مجهول الهوية". صور الشهداء تعض علي القلب، وتترك نزيفا داميا خاصة حين تشاهد ثيابهم الملطخة بالدم معلقة علي أحد جوانب ميدان التحرير، وبجانبها عبارة: "بأي ذنب قتل هؤلاء؟".. ملابس الشهداء تدفعني للبكاء، وأنا أحس أن ملابسهم تحكي عنهم، عن يوميات لم تحدث، عن مواعيد لم يستطيعوا اللحاق بها، وحكايات اللحظات الأخيرة من الحياة التي ظلت داخل صدورهم. الرجل الذي يضع ضمادة علي عينه، يخبرني وهو يكشف عن ساقه أنه مصاب في ساقه اليمني أيضا. كان يتحدث بانفعال عن ضرورة رحيل الرئيس الآن، قبل مرور الأشهر القادمة كي لا يحدث مزيد من الفساد، ويختم كلامه بعبارة: "بيضحكوا علينا بالتهديد بالفراغ الدستوري، اعتبروه مات، مش ح يحصل فراغ دستوري!". المشاهد الغريبة التي يمكن رصدها في ميدان التحرير كثيرة جدا، ولا يمكن كتابتها في مقال واحد؛ لأن طرق التعبير عن مطلب "الحرية"، تختلف من شخص لآخر. ويعبر من جانبي رجل يرتدي لباس حاكم كرة قدم، وفي يده بطاقة مكتوب عليها: "الشعب هو الحكم". شيخ عجوز يجلس علي الأرض مغلقا فمه بكمامة مكتوب عليها: "ارحل كفاية إجرام"، أما الشاب الذي يغني وهو محمول علي الأكتاف فقد تجمهرت الناس حوله وهو يقول: "حالو يا حالو مبارك شعبو خلعوا". ثم يتحول للغناء بالإنجليزية هاتفاً علي اللحن ذاته: NO WAY .. NO WAY.. GO AWAY GO AWAY مشهد غريب آخر لرجل يرتدي لباس الإحرام، ويعلق علي ثيابه نسخا من كتاب عنوانه: "اعترافات اللص التائب".. اللافتات الهزلية كثيرة جدا تعبر عن روح النكتة عند الشعب المصري؛ مثل: "احترس، الرئيس مسجل خطر".. و"لأول مرة في مصر وظائف خالية، مطلوب: رئيس جمهورية".. و"ولا مولوتوف ولا كلاشنكوف، ارحل بقي يا خروف".. و"مش ح نمشي، هو يمشي".. و"مبارك.. ارحل بقي يا عم خلي عندك دم". وفي وسط الميدان، قرب شارع طلعت حرب، توجد كاسيتات كبيرة تبث أغاني الشيخ إمام، ومجموعة من الناس تتجمهر حول رجل يتكلم بصوت عال، أقترب منه، بدا لي أنه يتناقش بانفعال مع شخص آخر حليق الذقن، وثيابه أنيقة جدا لا تتناسب مع أيام الثورة، الرجل الأنيق يدافع عن بقاء الرئيس مبارك، فيما الرجل المنفعل يقول له: "مش كفاية ثلاثين سنة فساد"، ثم يستأنف كلامه في عبارة يوجهها للرجل الأنيق: "واضح إن حضرتك ضابط شرطة، إحنا عارفين إنهم بيبعتوا عساكر ومخبرين يندسوا بينا ليشوشوا ع الناس". يرتبك الرجل الأنيق ولا ينكر الاتهام، ولا يثبته، بل يحاول التملص من متابعة الحوار. يرتفع صوت أذان العصر من ميكروفونات في الجانب الشرقي من الميدان، بالقرب من مجمع التحرير. وبسرعة، تمتد جموع المصلين في صفوف طويلة من جانب الميكروفونات إلي مدخل شارع طلعت حرب.. متابعة السير في الميدان تكشف لك أن الصلاة تتم في أماكن متفرقة وليس في مكان واحد. وعند مغادرة الميدان، في آخر الكوبري جهة خطوط التماس، لفت انتباهي امرأة تجلس علي الأرض؛ لتبيع الشاي، تضع عدتها علي طاولة مرتجلة من أخشاب قديمة، تلك المرأة كنت شاهدتها عدة مرات أمام جامعة القاهرة، أقترب لسؤالها عن سبب انتقالها إلي هنا؟ تقول لي: "باكل عيش، حال البلد واقف، ما فيش شغل عند الجامعة، وأنا عندي ست عيال". وعلي الجانب الأيمن من الطريق، يصطف أصحاب الحناطير الذين كانوا يتكفلون بنقل السياح الأجانب، عبر أخذهم جولة قصيرة بالحنطور في الأوقات الطبيعية.. ماذا يفعلون الآن؟ أقترب وأسأل واحدًا منهم. يقول إنه ينقل الناس العاديين، لا السياح، من كوبري قصر النيل إلي ميدان التحرير.