تتماهي تجربة السجن الخاصة بالنسبة الي المثقف والفنان، مع تجربة الوطن المريرة العامة التي عانت من العصف بالديمقراطية، واشتداد القبضة الأمنية علي مناحي الواقع كافة، وحصار الفن الجاد، وإقصاء الجماهير عن السياسة، وقمع حقها في التعبير الشعبي المستقل. لذلك راحت الديكتاتوريات البدوية المتريفة تعيد إنتاج الأوهام والأساطير السياسية، بعد أن حولت التاريخ إلي ميثولوجيا، وأجبرت المواطن العادي علي تعريف نفسه في أضيق نطاق ممكن، واستبدلت الحريات السياسية بثقافة الاستهلاك التي تحاول إقناعنا بأن الألم حادثة عرضية يمكن تفاديها! وهنا تراوحت آراء المثقفين ومواقفهم تجاه السلطة، إما بالتقاطع معها مثل راوي »صح النوم« ليحيي حقي الذي عَدَّ تجاوزات النظام وفساده البيروقراطي وتسلط الأجهزة الأمنية أمورا تقتضيها مرحلة التحول الثوري.. وإما بالنأي عنها وإيثار العزلة التي تضمن الوصلة والتفرغ للإنتاج العلمي كما صنع د. جمال حمدان.. وإما بالانتقاد كما فعل راوي »نجمة أغسطس« لصنع الله إبراهيم الذي أدرك التناقض البين بين الشعار والممارسة من خلال واقع الحياة اليومية في أسوان. غير أن المثقف النقدي يعرف بممارسته السياسية، ودوره الفكري والمعرفي، وبالأسئلة التي يطرحها ، أن الصدام مع السلطة الغشوم واقع لا محالة، ومن ثم سيجد طريقه إلي السجن، إن لم يكن إلي الاغتيال والتصفية الجسدية.. ألم يُحرق »سافونارولا« و»جوردانوبرونو«، ومات الفيلسوف الفرنسي »أنطون كوندرسيد« داخل سجنه في ظروف غامضة، كما قتل شاعر تشيلي العظيم »بابلو نيرودا« لمواقفه السياسية الراديكالية، وأعدم »توماس مور« صاحب »اليوتوبيا« لمعارضته نظام »هنري الثامن« المستبد.. ودخل السجن »ابن حنبل« و»ابن رشد« و»ابن سينا« و»ابن عربي« وسواهم؟ بيد أن تجربة السجن تجربة فريدة يدخل فيها الجلاد والضحية في معركة شرسة يحاول فيها الأول كسر إرادة الصمود والتحدي والرمز والمعني الذي يمثله الثاني، وإرغامه علي التراجع والتصالح مع الأمر الواقع، ليغدو- في التحليل الأخير- شرطيا للسلطة وكلب حراسة، وبناء مجتمع من الأغوات وخصيان القصور. وهنا تتبدي طاقات الإنسان وقدراته علي المواجهة والتحدي، واستنفار أفضل مالديه من إمكانات، دفاعا عن وجوده الفيزيقي، وتأكيدا لذاته، ولمغزي حياته، وانتصارا لزمنه الفردي والجماعي الذي طرد منه. لذلك تساءل الشاعر »ييتس« عن السبب الذي يجعلنا نوزع الأوسمة علي الجنود، في حين يخوض الفنان معركة داخل نفسه أكثر جسارة، وأشد عزلة. وشجاعة المثقف النقدي الاستثنائية تكمن في محاولته قول مالايقال عادة. فهل تهم الطغمة الحاكمة معاناة الفنان وصراعه مع نفسه، لتنقدح شرارة الفن.. أم يهمها الجندي الذي يصون كرسي الحكم، ويتصدي لمعارضيها؟ غير أنني راعيت في اختيار هذه النصوص والتجارب والمقالات، أن تسهم في إلقاء الأضواء الساطعة علي البنية النفسية الحوارية للسجين، والدراما الداخلية للإنسان، لندرك ذلك التعقيد الذي يحيط بمواقفه وحوافزه ومشاعره وخبراته، فضلا عن وعيه واختياراته ودافعيته وإرادته. فالإنسان ليس فكرة مجردة، ولا كائنا كُليَّ الجبروت، بل هو مزيج مركب من القوة والهشاسة والخوف والقلق والطموح، الأمر الذي يقودنا إلي فهم مختلف لماهية الشخصية الإنسانية، يعيننا علي دعم الوعي بالذات وبالتغيير بوجه عام، وبكيفية رؤية العالم من منظور خاص. فهل نحن نحيا عالما قادرا علي العيش في حالة رضا مستمرة عن طريق تناول عقار »سوما« كما تصوره »ألدوس هكسلي« في »عالم شجاع جديد«.. أم نحيا مناخا كابوسيا لايسمح لنا بالتواصل الحي، وقبول الآخر المختلف، والإيمان بالتعددية؟ لذلك تميط هذه النصوص اللثام عن همجية الأنظمة المستبدة، واستخفافها بالإنسان، وطرائق معالجتها الديماجوجية لقضايانا المصيرية، ومواجهتها الفكر بالبندقية والرصاص المطاطي، حتي إن الشاعر الكبير »محمود درويش« صاح في وجهها قائلا: »كم كنا عربا في إسرائيل.. وكم أصبحنا فلسطينيين في البلاد العربية«. وعلي هذا النحو، نري ما فعله »معتقل تازمامارت« المغربي في أشقائنا المغاربة، في رواية »الطاهر بن جلون« »تلك العتمة الباهرة«.. و»معتقل الواحات« في كتاب »يوميات الواحات« لصنع الله إبراهيم، وشهادة »إبراهيم عبدالحليم« »عندما جلدوني في المعتقل«. ورؤي فوزي حبشي لإبداعات الشيوعيين في المعتقل التي ضمها كتاب »اليسار في الثقافة المصرية« تحرير وتقديم: رمسيس لبيب.. وما صنعه »معتقل المزة« السوري في المناضلات السوريات، كما تقدمه لنا الرواية التوثيقية »نيغاتيف« للكاتبة »روزا ياسين حسن«.. فضلا عن معتقلات الاحتلال النازي الإسرائيلي واضطلاعها باقتلاع الشعب الفلسطيني، وطمس حقوقه التاريخية، من خلال تعذيب كوادره الثورية، وقتل أبنائه بشكل مبرمج وممنهج، عبر كتاب »چاك بنيتو« »قمع الانتفاضة«. لكن هذه النصوص لاتدعي الإلمام بكل مفردات واقعنا العربي الرديء، بيد أن مزيتها الكبري تكمن في أنها امتلكت القدرة علي تمثيل راهننا السياسي- الاجتماعي، واستعراض أبعاده، وأن تطرح علي بساط البحث الرواية الحقيقية التي تحجبها السلطة عن الآخرين، فتمنح القاريء الفرصة لإعادة طرح الأسئلة في ضوء جديد، من خلال القراءات المتعددة للحدث الواحد. غير أنه كان من العسير علينا التوسع وإضافة المزيد من النصوص، نظرا إلي ضيق المساحة المتاحة. ولعل ما قدمناه يسعفنا علي استشراف أفق جديد يستولد الحرية، ويرفض سياسات تكميم الأفواه.