لطيفة الزيات إحدي رائدات الأدب النسائي في العالم العربي، وصاحبة واحدة من أشهر الروايات العربية »الباب المفتوح« قالت عن نفسها ذات يوم في إحدي شهاداتها الإبداعية »أنا امرأة، وهذا في يقيني عنصر مهم جدا للتعريف بالذات، والوصف يرسم علي الفور حدود الحركة، وحدود القهر المادي والمعنوي الذي ينزل بالمرأة، والوصف يرسم علي الفور آلافا من نقاط الضعف الموروثة، وآلافا من نقاط القسوة المكتسبة في وضعية المرأة عامة، وفي وضعية المرأة الفرد، التي هي أنا، عانيت كما يعاني الإنسان كل أنواع القهر التي تنزل بالإنسان، وعانيت بالمرأة، وعايشت القهر أحيانا وتجاوزته أحيانا أخري، ما بين المعايشة والتجاوز، التي استحالت إلي قانون يحكم حياتي، تم إهدار الكثير من طاقاتي الإنسانية التربوية والإبداعية والنقدية النضالية«. ومن هذا المنطلق عبرت لطيفة الزيات عن أوجاع وآلام وهموم المرأة المصرية والعربية في روايتها »الباب المفتوح« وكتابها »حملة تفتيش«.. وهو أحد أهم كتب السيرة الذاتية في المكتبة العربية المعاصرة. وتعد رواية »الباب المفتوح« نقلة نوعية علي مستوي السرد والرؤية متواكبة مع صدور مجموعة من الروايات الاجتماعية المهمة كاللص والكلاب لنجيب محفوظ و»الرجل الذي فقد ظله« لفتحي غانم، وإن جاءت رواية لطيفة الزيات لتمزج البعد الاجتماعي بالبعد السياسي من خلال بطلة قصتها الفتاة المتمردة التي تحاول أن تثور علي وضعها الاجتماعي من خلال اتكائها علي ثقافة تقدمية تؤمن بدور المرأة في المجتمع وضرورة تجاوزها لموروث القهر الاجتماعي الذي حملته لقرون طويلة، هذه الفتاة التي تحمل دلالة إنسانية مرتبطة بالواقع التاريخي، فنري في أحداث الرواية التي تدور حول هذه الفتاة إسقاطات سياسية بشكل فني راق ف »ليلي« وهو اسم الشخصية الرئيسية تلخص حال مصر في الفترة ما بين 6491، 6591، وعلي حد تعبير الناقدة د. فاطمة موسي فإن »هذا الازدواج في الخط الأساسي الذي تقوم عليه الرواية ليس مجرد حيلة فنية للزينة أو للطرافة، إنه ناتج عن الرؤية التي تعبر عنها الرواية، وهي ارتباط سلوك الأفراد علي المستويين العام والخاص: إن الفرد الحر لاحياة له إلا في مجتمع حر«. ومن هنا يبرز الحلم بالخلاص علي المستوي الفردي وكذلك علي المستوي الجماعي، وهذا ما تعبر عنه لطيفة الزيات علي لسان »محمود« شقيق بطلة الرواية وهو من أهم الشخصيات، التي تمثل قيمة »الحلم« والبحث عن الخلاص إذ يخرج - رغم تحذيرات الأسرة - إلي القناة سالكا طريق الجهاد الشعبي ضد المحتل الانجليزي كتب محمود لليلي: ليس هناك سوي حل واحد، أن يحدث شيء هائل »يهز هؤلاء المحترمين المستقرين المطمئنين، معجزة تجبرهم علي تمزيق أكفانهم وإلا فلن يتغير الأمر وخلف هذه الأكفان يعيشون«. ومن هنا تبرز صيغة أخري للمقاومة فلا تستكين البطلة لقهرها الاجتماعي حتي علي المستوي العاطفي بعد خيانة »حبيبها« ابن الخالة مع الخادمة فإنها لاتحاول أن تكون أسيرة لمشاعر الحزن والأسي والندم بل تواصل دراستها الجامعية فقد امتلكت القدرة علي الخروج من أسر التباكي علي اللحظات القاسية، من خلال تسلحها بالثقافة والرؤية الواعية القادرة علي استكشاف المستقبل بل والبحث عن مكان بداخله. ويمتد هذا الخيط - بعد ذلك - في حياة لطيفة الزيات وكتاباتها ومواقفها السياسية التي تشي بشخصية مصرية متفردة، وتصل هذه الكتابة ذروتها في كتابها »حملة تفتيش.. أوراق شخصية« والصادر عن دار الهلال عام 2991، وهي أوراق من سيرة »لطيفة« البنت المصرية المتمردة، والتي أختارت السياسة والثقافة طريقا منذ بداية الصبا، البنت التي عشقت زمن طفولتها في دمياط حيث حكايات الجدة الساحرة وبيت العائلة وحديقته الشاسعة القريبة من البحر، وشجرة الجوافة العاقر التي تحجب الحديقة والشارع عن نافذة حجرتها، ووهج الشمس وبنفسجية الغروب.
وبلغة صافية كتبت »لطيفة« عن طفولتها، وبمرارة شديدة كتبت فترات اعتقالها بداية من عام 9491 مرورا بسجون ومعتقلات كثيرة أفقدتها - كثيرا - الاحساس بالاستقرار وب »البيت«، الذي تمنته لكنه ضاع في ظل الملاحقة البوليسية للفتاة التي أصبحت عضوا فاعلا في لجنة الطلبة والعمال المناهضة للاحتلال الانجليزي وللملك وحاشيته، تقول لطيفة الزيات بأسي: »وفي كل مسكن من هذه المساكن، حتي السجن من بينهما، وحتي تلك التي تعين علي أن أغيرها كل ليلة، خرجت بالكثير، وتركت الكثير من هذه الانسانة الدائبة التغير التي كانت والتي تكون، ولكن الغريب أني حين أفكر في البيت بمعني البيت، تندرج كل هذه المساكن في ذهني كمجرد منازل، وتتبقي حقيقة ألا بيت لي، وحقيقة أنه لم يكن لي في حياتي سوي تبيين، البيت القديم، والبيت الذي شمعه رجال البوليس في صحراء سيدي بشر في مارس 9491«. وترصد »الزيات« وقائع ما حدث لها في »سجن الحضرة« بالاسكندرية من خلال كتابها الذي لم تنشره في حياتها والذي عنونته ب »سجن النساء« والذي تقول عنه: »انتهيت من كتابة هذا الكتاب سنة 0591، وفي أعقاب الإفراج عني في يوليه 9491، بحكم مع إيقاف التنفيذ بتهمة الانضمام وآخرين إلي تنظيم شيوعي يسعي لقلب نظام الحكم. الكتاب مرقم ومبوب، معد للنشر، ولم ينشر لا في حينه ولابعد هذا الحين. أتساءل لِمَ لم ينشر؟«. وإن كانت أوردت منه فصلا في كتابها »حملة تفتيش« تحت عنوان »صديقاتي« والذي تخاطب فيه إحدي صديقاتها التي رافقتها في محبسها فحولت وحشتها أنسا وأذابت كثيرا من خوفها وترقبها للمصير المجهول بين جدران الزنزانة الموحشة، فتناجيها - بعد زوال الأزمة وإنزعاج الغمة - قائلة في لغة مليئة بالحنين: »هل أستطيع أن أنساك مثلا أنت ياحارستي، وأنت من بدلت وحشتي أنسا، وأحلت غربتي وطنا؟ وكيف أنسي ياصديقتي يوم حشروني في السجن في ظل الارهاب، وألبسوني ثوبا من خطورة غريب عليّ، وضربوا حولي غيوما من غموض وإبهام، ونسجوا حولي القصص، وقالوا لك: إحذري منها، إنها تتفجر كالديناميت، وتلتهب كالنار، وتتسرب من قبضة اليد كالماء، وقد حاولت الهرب منذ أيام فلا تدعيها تغيب عن عينيك، أو تتصل ببقية السجينات فلها لسان كالمزراب ينثر الثورة والتمرد أني كان«. وربما تكون هذه المرأة التي تناجيها المؤلفة هي ما صرحت باسمها - بعد ذلك - بأنها السجانة التي كانت تقوم بحراستها وهي »علية« التي استعادت صورتها مرة أخري في الجزء الثاني من الكتاب المعنون ب »من كتابات كتبت في سجن القناطر الخيرية سنة 1891« بعد أكثر من ثلاثين عاما من تجربتها الأولي في السجن والتجربة الثانية - رغم قسوتها وضراوتها - إلا أن ما خفف من هذه القسوة هو »الرفقة المثقفة« التي أحاطت بالكاتبة مثل الفنانة الراحلة »إنجي أفلاطون« والتي سجلت هذه التجربة في ستة عشرة لوحة في سنوات الاعتقال الخمس بسجن القناطر، بالاضافة إلي د. نوال السعداوي ود. عواطف عبدالرحمن.
وفي سجن القناطر استعادت »الزيات« الأغنية التي كانت ترددها وهي في سجن الحضرة عام 9491 وهي: غدا يعود الربيع من جديد ونحب ونحب من جديد والتي تقول عنها: »ولم يكن الربيع الذي غنته بربيعها هي وحدها، كان ربيع الكل وحب الكل، كان الربيع الذي يملك الكل أن يزدهر فيه، ويملك الكل أن يحب ويُحب فيه«. فالمرأة التي تغنت بالثورة وهي في السادسة والعشرين عاودها الحلم بها وهي في الثامنة والخمسين، فخلف القضبان عادة ما يخرج الحلم من قمقم الانتظار، هذا الحلم - كان مرتبطا لديها دائما بالأشجار، خاصة شجرة المشمش التي زرعتها أمام بيتها في سيدي بشر بعد زواجها الأول في نهاية الأربعينيات، هذه الصورة الجميلة التي سكنت مخيلتها أنقذتها من مخاوف كثيرة، أظهرتها قسوة ملامح ضباط الأمن والمحققين أصحاب التهم الجاهزة والمعلبة، وما يتبع ذلك من معاملة جافة غير آدمية داخل الزنازين.ومنها ما أشارت إليه في آخر فصول الكتاب وهو »حملة تفتيش« وهو عبارة عن تقريري يومي وتفصيلي لما حدث في سجن »القناطر« يوم 31 نوفمبر 1891، من خلال الحملة التي شنها ضباط السجن لتفتيش السجينات ومنهن د. أمنية رشيد التي تعرضت لإجراءات التأديب بعد عودتها من التحقيق عند المدعي الاشتراكي. وكان علي السجينات السياسيات من ناحية و»الإسلاميات« من ناحية أخري أن يتعاون لمجابهة هذه الحملة الشرسة التي لن تفرق بين تيار وآخر، والتحدي عادة ما يولد لغة أخري مغايرة، ويكسب الأرواح الطيبة تمردا غير محسوب، أو علي حد تعبير »لطيفة«: »يحيل السجن القفازات البيضاء الحريرية الناعمة إلي قفازات ملاكمة تصيب الهدف إصابة مباشرة، يختزل السجن الانسان إلي المقومات الأساسية للوجود، والمقومات حبلي بكل الإمكانيات، وتصبح أرضا صخرية وخضراء يانعة الخضرة، نارا وماء، طينا تدوسه الأقدام، وخزفا يحكي قدرة الإنسان علي خلق الجمال وإعادة خلق ذاته، في السجن تصبح شرسا وجميلا«. ولأن مشاهد العنف دائما ماتستدعي مشاهد عنف سابقة فإن الكاتبة - عادة - ما كانت تربط بين العنف الذي عانت منه هي والأخريات في محبسها السياسي في فترة حكم السادات بسبب مواقفها الرافضة للتطبيع مع إسرائيل - بمشاهد العنف التي شهدتها مصر أواخر الأربعينيات وقبل ثورة يوليو 2591، فتتذكر ما حدث في شارع العباسي بالمنصورة وهي تطل من شرفة منزلهم - وهي في منتصف الثلاثينيات من العمر - حيث تشتبك مع رجال الشرطة ببنادقهم السوداء الكابية، وما حدث بعد ذلك علي كوبري عباس حيث »تحجرت الدموع في عينيها ملحا، تنتظر رفاقها الغرقي رفيقا بعد رفيق، تستر بالعلم الأخضر جثة رفيق بعد رفيق، من ضحايا مذبحة كوبري عباس«. وهذا يؤكد أن الطغاة دائما ما يكررون أنفسهم مع اختلاف الأماكن والأزمنة والأشخاص ومع ذلك يبقي الحلم - دائما - شريعة المتطلعين إلي الشمس وإلي الربيع أو علي حد تعبيرها. »أعلم الآن أن علي الإنسان أن يروي الشجرة إلي أن تخضر ودون أن ينتظر أن تخضر. رغم الاضطهاد والقهر رويت الشجرة. رغم التقارير السرية. وأدوات الاستماع يزرعونها تحت رأسي، وأجهزة التصوير يدسونها تحت جلدي، أعلم أن علي الإنسان أن يروي الشجرة«.