مقولة إذا أردت أن تعرف شعباً، فعليك أن تسمع أغانيه، يمكن أن تكون أيضا: إذا أردت أن تعرف أمة، فاعرف ما يكون عليه رئيسها. فالرئيس هو قمة الهرم السياسي لبلد من البلدان، ولما كان المصريون مولعين بالأهرام منذ أقدم العصور، وأصحاب فكرتها الأولي، فإن قمة الهرم السياسي في مصر ظلت لها طبيعة خاصة تحكمها عوامل جيوسياسية تتعلق بضرورة الدولة المركزية القابضة علي النهر، وكانت ملامح هذه القمة تتشكل من ملامح الشخصية المصرية ذاتها والتي حافظت علي العديد من سماتها عبر العصور كلها. كان الفرعون المصري القديم، أشبه بإله، له قداسته وألقاب مهولة مهيبة لا يملكها سواه.. ألقاب لا تعد ولا تحصي، فهو ملك البرين والبحرين، محبوب الآلهة جميعاً، قاهر الأعداء، وهو فرعون كلي القدرة بالضرورة، مالك الملك، يعز من يشاء ويذل من يشاء. لكن هذه الصفات الإعجازية، والقدرات الخارقة الممنوحة لفرعون، كانت تتطلب في العصور القديمة مهام جساماً ومسئوليات كثيرة كبيرة تنوء بحملها الجبال كما يقال، وكان علي أي فرعون يجلس علي عرش مصر أن يكون جديرا بهذي المهمات الصعبة لقاء الفرعنة، وويل لأي فرعون يقصر في أعمال منصبه حتي لو كان فيلسوفاً حكيماً كإخناتون، يدعو إلي توحيد الآلهة في إله واحد هو قوة قرص الشمس، فلقد تم انتقاد إخناتون بشدة، لأنه قصر في سياسة مصر الخارجية وعلاقاتها الدولية مع الشعوب المعروفة حينها، والدول الأخري المجاورة. علي مدي العصور التالية للعصر الفرعوني، ومع تعدد الاحتلالات الأجنبية لمصر، أخذت الملامح القداسية لصورة فرعون تتراجع، وباتت صورة من يقف علي قمة الهرم السياسي تهتز بشدة، بل وتصل في العصر المملوكي إلي حد المسخرة المستوجبة للسخرية والضحك، وتشهد بابات خيال الظل لابن دانيال، جانباً لهذه السخرية ممن يقفون علي قمة الهرم السياسي، وهي السخرية الكاشفة عن موقف الشعب والطبقات الدنيا تحديداً من سلاطين المماليك وأفعالهم المناقضة لما تستوجبه ومسئولياتهم السياسية. الفرعون المخلص، والقائد الزعيم، عادت ملامحه تتشكل مرة أخري بعد ثورة يوليو 2591 بتكريس جمال عبدالناصر، وعادت مرة أخري فكرة السلطة الفرعونية المطلقة، والتي كان السادات بعده من أكثر محبيها ومكرسيها، ويبدو أن السادات كانت له ميول خاصة تتعلق بالسلطة الفرعونية القديمة، فهو لم يكتف بدحر أعدائه وإيداعهم السجون دفعة واحدة وهم كل القوي السياسية المعارضة له من أقصي اليسار إلي أقصي اليمين، بل كان حريصاً أيضا علي أن يظهر في الصور، وهو الممثل القدير بملابس عسكرية وهيئة مهيبة جادة وقد أمسك بيده عصا المارشالية، وكأنها صولجان فرعوني قديم. أما أكثر الفراعنة إثارة للكآبة في النفس، كان الرئيس المخلوع حسني مبارك، فدور الفرعون الذي لعبه دون الاستناد إلي مهارات خاصة أو كاريزما جاذبة، أثارت لدي الناس شعوراً بالثقل والرفض لأن يكون هذا فرعونهم المترسبة صورته في اللاشعور، ولقد عزز هذا الثقل محمل سياساته الداخلية والخارجية التي ألحقت بمصالح البلاد أفدح الأضرار. وكلما يتم النظر إلي صور شباب 52 يناير الثائرين وشهدائهم، وتتم المقارنة بين هذه الصور وصورة مبارك، يتعزز الإحساس بثقل صورته ذات الملامح الباردة الجافة، حتي ولو كان مبتسماً، فصور الشباب تبدو دافئة الملامح، تطل منها نظرات نبل ورقي، وربما المقارنة هنا تحيل إلي مفارقة حضارية ذات مغزي إنها المفارقة الناتجة عن تناقض واضح بين قديم جامد متشبث بالماضي وبين جديد يسعي للارتباط بما هو معاصر وآني. لا أظن أن أديباً مبدعاً، يتمني أن يكون يوماً في بيت الرئاسة، أو علي قمة الهرم السياسي، فالمبدع تتجاوز حدوده البيوت المغلقة حتي ولو كانت بحجم القصور الرئاسية، وحدود عالمه هي حدود السماوات السبع والآفاق التي هي بلا نهاية، ولكن يستطيع المبدع أن يشكل ملامح رئيس متخيل، رئيس علي هيئة شباب الثورة، بسيط وعادل، طامح وصارم، متصالح مع نفسه ومع العالم، لا يتصور نفسه فرعوناً أو سوبرمان، له ملامح أي مواطن أو مواطنة مصرية تعبر الطريق، كما أنه متحرر ولابد من العقد البيولوجية وخاصة تلك المتعلقة بالنوع الآخر، يعرف أن زمن القمم الهرمية وفقاً للتصور الفرعوني القديم قد انتهي، فكل قمة انما يقف عليها الشعب كله وما الرئيس إلا واحد مختار لتسيير أعمال هذا الشعب. من الشباب المصري يجب أن يكون الرئيس الجديد، ليتجدد شباب مصر كلها وتتحول إلي دولة جديدة وحديثة بجد ترتكز إلي اعلان ثورة الخامس والعشرين من يناير المطالب بالحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية.