خلال الفترة الماضية, انهمرت تعليقات القراء علي موقع الأهرام في شبكة المعلومات الدولية إلي درجة أثقلته, وفاقت طاقته, لتجعله عصيا علي الفتح, فقد كانت الحالة التي استحوذت علي الاهتمام لأيام عدة, متعلقة بصحة الرئيس مبارك وإجرائه لعملية جراحية, قد فاقت أي اهتمام مسبق مسجل لدينا علي الموقع لتطورات وأحداث داخلية أو خارجية. ودون استثناء, كانت كل هذه التعليقات إيجابية في جوهرها ومعبرة عن مشاعر متنوعة من أول التمنيات بالشفاء العاجل, والعودة السالمة إلي أرض الوطن, حتي الامتنان للدور الذي قام به الرئيس في الحياة المصرية منذ توليه منصب رئاسة الدولة. وما بين التمنيات التي لها صلة بالإنسان, والامتنان الذي له صلة بالقائد, كان هناك خيط رفيع من التقدير السياسي لحالة في هيدلبرج تتعلق مباشرة بوجود الدولة المصرية ذاتها, ذلك أن رأس الدولة في مصر سواء كان فرعونا أو حاكما أو واليا أو خديويا أو سلطانا أو ملكا أو رئيسا للجمهورية هو جزء عضوي من كيان الدولة. إن منصب رئيس الجمهورية في مصر ليس مطابقا لذات المنصب في دول العالم الأخري مهما اختلفت نظمها السياسية. وليس المقصود هنا الإطار القانوني, أو النظام السياسي الذي يعمل فيه الرئيس, وإنما ما هو أكبر من ذلك حيث كان رأس الدولة المصرية تاريخيا جزءا من عملية التكوين التي أرجعها بعض الشارحين في السياسة والاجتماع إلي طبيعة الدولة النهرية بشكل عام أو طبيعة الدولة النيلية المصرية بوجه خاص. فمنذ مولد الدولة الحديثة في مصر مع محمد علي الكبير عام1805, اختلطت زعامة الدولة بحكم التاريخ والواقع بزعامة الأمة. وبينما كان الوالي الأول وخلفاؤه من بعده طوال القرن التاسع عشر بناة للدولة من خلال فرض القانون والنظام, وربط أجزاء الدولة ببعضها عن طريق السكك الحديدية ووسائل المواصلات والاتصالات والقنوات والترع التي أوصلت مياه النيل إلي حواضر ومدن وريف, إلي آخر كل أشكال الحداثة والمدنية من جامعات وصحف ومدارس ومسارح, فإن القرن العشرين شهد استمرار الملوك في أداء المهمة, نفسها ومعهم في الوقت ذاته وبعدهم ظهرت الزعامات الكاريزمية مثل سعد زغلول ومصطفي النحاس وجمال عبد الناصر وأنور السادات التي كان عليها بالإضافة إلي ذلك تحرير البلاد من الاحتلال الأجنبي سواء كان إنجليزيا أو إسرائيليا. الرئيس حسني مبارك كان أول مصري حكم الدولة كبلد حر لا يحتله ولا يسيطر عليه بلد أجنبي منذ أن وطأت أقدام الفرس أرض المحروسة, قبل الميلاد بخمسة قرون, لتبدأ وقتها أولي خطوات تحلل الدولة المصرية الفرعونية وبداية نهايتها. ومن بعدهم توالي الغزاة والمحتلون من كل نوع, لتبدأ مسيرة ما سماه جمال حمدان أطول مستعمرة في التاريخ, لكنهم علي سطوتهم وهيمنتهم وقوتهم العسكرية, كانت مصر عصية علي الابتلاع والهضم, فكان لها دائما قدر غير قليل من الاستقلال والهوية. وصحيح أن الرئيس جمال عبد الناصر حكم مصر حرة ما بين جلاء القوات الإنجليزية والإسرائيلية عن مصر في عامي1956 و1957, حتي عودة الاحتلال الإسرائيلي مرة أخري في يونيو1967, إلا أن رأس الدولة أدارها خلال ذلك العقد من السنوات كما لو أن الاحتلال لا يزال مستمرا حتي وقع بالفعل مرة أخري!. ودون مبالغة, فإن مبارك كان علي موعد مع تاريخ جديد للدولة المصرية يختلف كثيرا بالطبع عن الدولة الفرعونية القديمة التي دامت ثلاثة آلاف عام تقريبا; كما تختلف أيضا عن الدولة أو الولاية إذا شئت التي ظلت تحت سيطرة وهيمنة وأحيانا جنود دول وإمبراطوريات وممالك أخري, والتي استمرت ألفين من الأعوام هي الأخري. الأمر الوحيد الذي بقي من هذه الدولة وتلك, وتواجد علي مدي خمسة آلاف عام في كليهما, كان ذلك الموقع الذي أعطاه القدر إذا جاز التعبير لرأس الدولة مهما كان اسمه في مصر. وكان علي هذا الأمر, أي حالة رأس الدولة, أن يواجه عالما جديدا تماما, وفي دنيا اختلفت عما كان عليه الوضع عندما كانت الإمبراطورية المصرية بمثابة الولاياتالمتحدة في عالم اليوم, أو عندما كانت ولاية تابعة ينهار ويتآكل عدد سكانها بفعل الفقر والمرض ونهب الدول الطاغية حتي تقلص عدد سكانها من10 ملايين نسمة في نهاية العصور الفرعونية إلي2.5 مليون نسمة في مطلع القرن التاسع عشر. ولعله من الصحيح هنا ما جاء علي لسان الرئيس أنور السادات من أنه سوف يكون آخر الفراعنة في مصر, أي آخر الحكام المطلقين, الذين كانوا في الوقت نفسه وباعتبارهم أشباه آلهة, جزءا من نسيج الدولة وكيانها, حيث يختلف الحكم تماما عن أشكال وأنواع الحكم المطلق في دول أخري عرفها القرن العشرون. وهكذا فإن الرئيس مبارك, بحكم التاريخ علي الأقل, كان أول حكام أو رؤساء مصر الذي كان عليه أن يضع صياغة جديدة لمكانة الرئيس وموقعه في الدولة المصرية. وربما ساعد علي ذلك شخصية الرئيس نفسه, التي اكتشفتها بشكل مباشر ذات صباح من أيام سبتمبر1996 عندما اتصل بي الأستاذ سامي متولي مدير تحرير الأهرام لكي يخبرني أن الرئاسة أي رئاسة الجمهورية تطلب مني, وكنت مديرا لمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية, أن أكون مجموعة من المثقفين لمقابلة شخصية سياسية زائرة لمصر, طلبت أن يكون جزءا من برنامجها مقابلة عدد من المثقفين, كما هو معتاد أحيانا. لم يكن هناك تفاصيل من أي نوع سوي أنني والمجموعة سوف نذهب إلي شرم الشيخ لأداء هذه المهمة, وكان في ذلك بعض من الحيرة لأن العادة جرت أن يكون اتصال كهذا من جانب الدكتور أسامة الباز, المستشار السياسي للرئيس, حيث يمكن إجراء نوع من المناقشة حول تفاصيل كثيرة. ولما كانت مثل هذه المهام التي لا تكثر تفاصيلها يصعب تنفيذها مع من لا نعرفهم, فقد وجدت في الأصدقاء الدكتور محمد السيد سعيد رحمه الله, والدكتور جمال عبد الجواد مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية الآن, استعدادا للسفر. وهو ما حدث في اليوم التالي مباشرة, ووصلنا إلي مطار شرم الشيخ في باكر صباح, لكي لا نجد أحدا في انتظارنا, وخرجنا ونحن لا نعرف ماذا نفعل بعد ذلك علي وجه التحديد ؟!. تذكرت في ذلك الوقت أنني حضرت قبل أشهر مؤتمر شرم الشيخ لمكافحة الإرهاب, وكان الرئيس مقيما في فندق موفينبيك, واقترحت علي زملائي أن نذهب إلي هناك بحثا عن أحد يمكن أن يدلنا علي طريق مقابلة الزائر المهم. ولكن الفندق كان أشبه بمدينة أشباح وليس مقرا لرئيس مصر, وفجأة انفرج الموقف عندما ظهر السيد صفوت الشريف ومعه باقة من رجال الإعلام; ولم يكن مرحبا فقط, وإنما اصطحبنا معه مشكورا إلي جناحه بالفندق حيث كان الإفطار, ومن بعده حديث أخبرنا فيه بمكان الرئيس ومعه الزائر في فندق آخر, ثم تركنا وذهب, وبعد مغامرات عدة للوصول إلي الفندق الآخر وجدنا السيد صفوت الشريف مرة أخري واقفا في انتظارنا, لكي يخبرنا بأننا سوف نقابل الرئيس شخصيا قبل مقابلة الزائر. وهكذا وجدنا أنفسنا أمام مقابلة لم نتوقعها مع رأس الدولة نفسه, وأكثر من ذلك تتاح الفرصة للحديث معه. دخل ثلاثتنا علي الرئيس, وفي لحظة جري علي ذهني ما قاله هنري كيسنجر عن ماوتسي تونج حين وصف مكانه في حجرة اللقاء كما لو كان من فرط الهيبة, المركز الذي يتمحور حوله الكون, فقد كان ذلك ما شعرت به, ولكن الرئيس وفورا بعد المصافحة, وكأنه يعرف ما يلم بضيوفه حال قدومهم, كسر كل ذلك بسؤال بدا غريبا لأول وهلة: د. عبد المنعم, هل عماد أديب لبناني؟ قلت فورا, لا يا سيادة الرئيس, إن عماد أديب مصري صميم, وهو واحد من أنجال الأستاذ عبد الحي أديب, الأديب وكاتب السيناريو الشهير لكثير من الأفلام المصرية, وهو كذلك صديق عزيز. وفي لحظتها بدت كل دلائل السعادة علي الرئيس مبارك, وقال إنني أرحته كثيرا, فقد كان عماد أديب قد أجري حوارا رائعا مع بنيامين نتنياهو كال له فيه ضربات سياسية وإعلامية بالغة, ويبدو أن الرئيس كان يتمني أن يكون صاحب هذه المهارة مصريا, وفي لحظة بدت الوطنية المصرية مجسدة في أمر بسيط, أن يكون المصريون متقدمين وأصحاب مهارات عالية, ولا يوجد لديهم ما يخشونه أو يهابونه أو يهربون منه, حتي ولو كان استعماريا عاتيا مثل رئيس الوزراء الإسرائيلي. استمر اللقاء خمسا وعشرين دقيقة, كان الرئيس فيها ودودا, وطرح موضوعات عدة حول لقائنا مع الزائر, لم نشعر فيها ولو للحظة أنه يعطي تعليمات أو توجيهات, ولكن كان فيه درس لم نتعلمه في صفوف جامعة القاهرة, أو الجامعات التي درسنا فيها في الولاياتالمتحدة, وهو أن هناك طرازا رفيعا من السياسيين يصلون إلي لب الموضوع علي طريقة الخط المستقيم الذي هو أقصر الطرق بين نقطتين في الطريق أو في الحديث. ما جري بعد ذلك من مقابلة مع الزائر المهم حضرها أيضا الأستاذ نبيل زكي, يمكن أن يكون موضوع حديث آخر, ولكن لم يتكرر اللقاء مع الرئيس مرة أخري إلا وسط جماعة من المثقفين أو الإعلاميين, أو من خلال كلمات قليلة يقولها الرئيس ساعة المصافحة في مناسبات رسمية, وفي عدد من المرات حسدت الأستاذ مفيد فوزي لأنه كان يحصل علي حديث مع الرئيس في السادس من أكتوبر من كل عام. ولكن, وبشكل ما, فإن الرئيس مبارك كسرالفرعونية السياسية مرة بطريقة شخصية حينما كان تواضعه, ودماثة خلقه, وحسن اقترابه من الناس في بساطة, ودون زعامة مغلفة بالإلهام حيث كان عبد الناصر الزعيم الملهم, أو المسحة الإيمانية حيث كان السادات الزعيم المؤمن, وإنما الزعامة المباشرة التي تعني القيادة والاتصال في أبسط وأصفي معانيها. الشخصية والزمن والعصر, ومصر ما بعد التحرير والخلاص, جعل مبارك يضع الأساس المصري لمرحلة ما بعد الفرعونية, وكان بعض من جذورها قد ولد في عصر الرئيس السادات من خلال الانفتاح الاقتصادي, وتعددية الأحزاب, وظهور المجتمع المدني. وذات مرة سألتني رولا خلف الصحفية المعروفة في صحيفة الفاينانشيال تايمز عما سوف يذكر في التاريخ عن الرئيس مبارك وكانت إجابتي في جانب منها متعلقة بتلك اللحظة التي تولي فيها السلطة إثر اغتيال زعيم تاريخي بيد آثمة, وحالة من التمرد منذرة بتهديد للوطن, فكان بهذا المعني منقذا; يعيد الاستقرار بسرعة لبلد تعرض لزلزال مفاجئ, ثم يتمكن من إعادة مصر إلي نطاقها العربي الذي كانت علاقاتنا الدبلوماسية قد قطعت مع معظم دوله, إثر زلزال سابق, ثم يتمكن من مواجهة موجة إرهاب عاتية( لم تتخلص منها دول أخري عاتية حتي اليوم) أرادت أطرافها أن تعيدنا إلي عصور الظلام أو الفوضي, ثم يرسي علاقة عمل مستقرة مع قوي إقليمية, أو علاقة إستراتيجية متوازنة مع قوي دولية, بما ينأي بمصر عن تلك المغامرات غير المحسوبة التي تحول مسار تاريخ مصر كل فترة. كان هناك جانب آخر حول ما فعله خلال فترات حكمه, يتعلق بمصر ذاتها, وفي هذا الجانب كان مبارك بالفعل ممثلا لمرحلة ما بعد الفرعونية, حينما وضع رأس الدولة ليس فقط موضع التساؤل والمساءلة من خلال مؤسسات ووسائل إعلام مختلفة, وقوية ونشطة وساخنة في أحيان كثيرة, وإنما كان أيضا موضوعا للمنافسة. وفي تاريخ مصر كله لم يحدث أن كان رأس الدولة الفرعون موضوعا للمنافسة السياسية, وعليه مثل غيره أن يقدم برنامجا سياسيا يختلف عليه الناس ويتنافسون معه ببرامج أخري, فحتي خلال ما سمي بالفترة الليبرالية في التاريخ المصري فإن الملك فؤاد أو فاروق لم يكن موضوعا للتساؤل أو المساءلة, وكانت الإقالة هي الثمن الذي يدفعه الحزب الحاكم إذا ما تجاوز الخط والميزان, والحبس للكاتب الذي يمس الذات المصونة إذا ما خان اللفظ وتجاوزت الكلمة. وربما كان واحدا من أهم ملامح مرحلة ما بعد الفرعونية هو عودة السياسة إلي مصر حيث السياسة في جوهرها عملية تنافسية لاستغلال وتوزيع الموارد المادية وغير المادية في الدولة ما بين قوي اقتصادية واجتماعية لها تعبيراتها في جماعات منظمة. فمنذ أكتوبر1981 وهذه العملية تتدعم عاما بعد عام, سواء من خلال الأحزاب أو الحركات الجماهيرية أو منظمات المجتمع المدني, أو الإعلام المطبوع 21 صحيفة يومية غير الجرائد والمجلات الأسبوعية الذي يتابع ويحاسب ويراقب, أو الفضائي التليفزيوني الذي ينصب برلمانا شعبيا للسلطة والحكم كل ليلة, أو الافتراضي الذي بلغ به الظن بالقوة أن يكون له القدرة علي تجاوز كل القوانين والدساتير وفرض مرشح لرئاسة الجمهورية. وببساطة عادت السياسة إلي مصر بعد انقطاع طويل حيث يحدث الحراك السياسي بين الأفكار والشخصيات والجماعات, والمساومة الاقتصادية بين الدولة وموظفيها, أو الدولة والقطاعين العام والخاص, والقطاع الخاص وعماله. ووسط كل ذلك تنمو طبقة وسطي واسعة تشكل تدريجيا كتلة حرجة من المواطنين لها طموحاتها وأحلامها المشروعة. الملمح الثالث لما بعد الفرعونية هو إضافة التنمية إلي الأمن باعتبارهما جوهر جهود الدولة إزاء مواطنيها; ولفترة طويلة, وربما بسبب الاستعمار الطويل, والهيمنة والغزوات الأجنبية والاحتلال, فإن الخوف علي مصر كان المحرك الأساسي لجهود الدولة, فمبارك لم يغفل هذا الجانب أبدا, ولكنه أضاف له التنمية ليس فقط باعتبارها المصدر المادي للأمن, ولكنها باعتبار التقدم والرخاء هدفا قوميا يجب السعي إليه من خلال أدوات سياسية مثل المواطنة, وممارسة الحريات العامة, وأدوات اقتصادية مثل اقتصاد السوق. وإذا كان الخوف والشعور بالتهديد هو قضية الأمن فإن الأمل والتقدم هما قضية التنمية. لقد ذكرت تفاصيل كل ذلك في أوقات ومقالات أخري, ولكن عودة الرئيس مبارك بصحة وعافية إلي أرض مصر بسلامة الله, تعطي رسائل ودعوات المواطنين عبر موقع الأهرام معني ودلالة يتعديان ما هو أكثر من التمنيات والامتنان. وليس سرا علي أحد أننا مقبلون علي مرحلة مهمة من تاريخ مصر تجري فيها انتخابات تشريعية ورئاسية لا بد أن تكون بمثابة قفزة جديدة تتجاوز وتتفوق علي ما حدث منذ خمس سنوات عندما جرت التعديلات الدستورية الأخيرة, فرغم ما يبدو من قصر المدة فإن ما حدث فيها يجعلنا نعيش في عصر غير العصر, فلم يكن الإعلام بمثل ما عليه الحال الآن, وما كانت التنمية التي جرت خلال الأربع سنوات الأخيرة قد ولدت ما ولدت من أجيال وطبقة وسطي وأشكال ووسائل للتعبير تتجاوز أشكالا ووسائل قديمة, وما كانت مصر بمثل هذا الزخم والطاقة التي تدفع في اتجاه استكمال مرحلة ما بعد الفرعونية التي بدأها الرئيس مبارك, وآن الأوان أن تصل إلي غايتها في دولة طبيعية مثلها مثل دول العالم المتقدمة الأخري: ديمقراطية, وقوية, وعفية. [email protected] المزيد من مقالات د.عبد المنعم سعيد