في رسالة امتنان واعتراف بالجميل كتب محمود درويش إلي رجاء النقاش:"عزيزي كنت ومازلت أخي الذي لم تلده أمي منذ جئت إلي مصر، أخذت بيدي وأدخلتني إلي قلب القاهرة الإنساني والثقافي..وكنت من قبل قد ساعدت جناحي علي الطيران التدريجي، فعرفت قراءك علي وعلي زملائي القابعين خلف الأسوار.. عمقت إحساسنا بأننا لم نعد معزولين عن محيطنا العربي". رسالة درويش التي ألقيت في احتفال نقابة الصحفيين بالنقاش كانت تنعي زمن كان فيه النقاد هم المصدر الأساسي لأي اسم جديد، كان كافيا جدا أن يكتب محمد مندور أو رجاء النقاش أو لويس عوض مقالا عن أحد الكتاب فيكون ذلك بمثابة تدشين للكاتب واعتراف كاف للكاتب والقارئ علي حد سواء. كانت المجلات الثقافية، والكتابات النقدية السبيل الوحيد لظهور أي اسم جديد..وكانت تكفي. لكن في زمن لم يعد فيه الامتنان كافيا، من يملك سلطة تقديم اسم جديد؟ في زمن عز فيه النقد، ورحلت الأسماء الكبيرة، وقلت المجلات الثقافية، من يحمل ذلك العبء الآن؟ هل هناك جهة محددة يمكن أن نثق في اختيارها لاسم بعينه؟ المؤسسة الرسمية لا تعتبر ذلك ضمن أولوياتها، حتي سلاسلها المخصصة للكتابات الأولي تكتفي فقط بالنشر لبعض الأسماء فقط، وبعد مرور فترة زمنية تكفي لينسي الكاتب ما كان قد قدمه للنشر، تنتظر حتي ييأس الكاتب أو تتغير أفكاره أو فكرته عما كتب، وقد يكون خلال هذه السنوات قد شق طريقة بعيدا عنها. أصبح علي الكاتب أن يشق طريقة وحده، ينجح أحيانا ويفشل في كثير من الأحيان، كان ذلك مقدمة لدخول بعض الأفكار التي انتشرت ولاقت قبولاً كبيراً لدي شريحة من الكتّاب، كالوكيل الأدبي مثلا، الفكرة/المصطلح تعني أن تتولي جهة ما أمر الكاتب في كل ما يتعلق بعمله الابداعي، وليس هذا فقط بل تقدمه ك"صورة" لجمهوره المنتظر، لكنها وقفت عند حدود كونها مصطلحا جديدا. ظل الوكيل الأدبي عند حدود الفكرة في حين أصبح النشر باعتباره أحد أهم الوسائل للوصول للقارئ بعيد المنال، ليس فقط لقلة المجلات المتخصصة في الثقافة، ولكن لقلة القراء المهتمين بهذا النوع من المجلات، مآزق النشر لا تنتهي ولا تتوقف فقط عند حدود التلقي، بل تمتد حتي المبدع نفسه، فبعضهم -خاصة مبدعي الأقاليم- لديه تصورات خاصة عن فكرة النشر، كثير منهم يأخذ قرار المقاطعة إذا تأخر نشر نصه أسابيع، يعتبر تأخر النشر موقفا، وبعضهم يتجاوز ذلك ويعتبر عدم النشر مؤامرة لتحجيم موهبة كبيرة وتعطيلها! العلاقة الطردية بين الكتّاب الجدد والنقد أصبحت تحكم تواجدهم في الندوات التي تعتبر عنصراً مهما من عناصر تقديم الكتاب، فالجيل الجديد من الكتاب لم يعد يهتم كثيرا بالنقد ويظهر هذا بوضوح في كل أحاديثهم، تلك العلاقة تساهم إلي حد كبير في إحجامهم عن حضور الندوات، حتي أصبحت في كثير من الأحيان تدار بمبدأ المجاملة، فالحضور ربما يفيدك فيما بعد عند صدور كتابك إما بحضور من "جاملتهم" بحضورك أو ربما برد الجميل كتابةً في إحدي المجلات! لكن العلاقة مع النقد ليست وحدها السبب في إحجام الكتاب عن الندوات فأماكن التجمعات الثقافية تراجع دورها كثيرا في مسألة طرح الأسماء الجديدة، الأماكن الرسمية كالمجلس الأعلي للثقافة، وهيئة القصور الثقافة، واتحاد الكتاب تتعامل مع الأمر بطريقة "الواجب" تكتفي فقط بمناقشات مجمعة كل حين، إما في معرض الكتاب أو علي هامش مؤتمر من مؤتمراتها التي لا تنتهي. أماكن أخري كثيرة فقدت بريقها القديم ولم يبق منها إلا الأطلال. نادي القصة الذي يحتل موقعاً فريداً بوسط القاهرة في شارع قصر العيني علي بعد خطوات من ميدان التحرير أصبح مجرد لافتة، يرفض شباب الكتّاب مجرد دخوله، ويعتبرونه أمراً لا يليق بأديب ناشئ طامح للتجديد والتغيير والمغامرة. وهو بالنسبة لمعظمهم مكان أنيق ومهمل ومجهول، حتي حين يظهر في المكان كاتبا جديدا لا يعرف طريقة للخروج، كما حدث مع محمد الفخراني الذي ظهر في المكان، لكن لم يعرفه أحد إلا بعد نشر "فاصل للدهشة" بعيدا عن النادي. ذلك المكان الذي كان المستقبل الدائم والمرحب بكل المبدعين العرب، أُهمل وسكنته العفاريت، صحيح أن أعضاء مجلس الإدارة يحاولون منذ فترة إحياء الجمعية عن طريق مواصلة ندوتها الأسبوعية كل أربعاء وإقامة مسابقة أدبية سنوية، إلا أن الفكرة التي ترسخت لدي كثير من المبدعين أن تلك الأماكن هي كيانات تتبني مواهب ضعيفة، وأن الأديب الحقيقي يجب أن يبتعد عنها لأنه ليس من المعقول أن يتولي تقييمه من هو اقل منه موهبة. الأمر نفسه يتكرر مع أتيلييه القاهرة الذي كان له دوره البارز في هذه المسألة، ذلك التجمع الثقافي الذي أنشاه مجموعة من الفنانين المصريين والأجانب بعد عام واحد من قيام ثورة يوليو 52، علي غرار أتيلييه الإسكندرية الذي أنشأه الفنان محمد ناجي. كانت الفكرة الأساسية أن يكون الأتيلييه ملتقي للأدباء والفنانين، وساحة فكرية يتحاورن فيها ويعرضون أفكارهم. ارتبط اتيليه القاهرة بمجموعة من الفنانين والمثقفين الكبار منهم :محمد ناجي، وراغب عياد، وجورج حنين، ورمسيس يونان، ولويس عوض، وتحية حليم، وراتب صديق، وجاذبية سري، وانجي أفلاطون، وكامل زهيري، ومحمود أمين العالم، وادوار الخراط. وساهم في خلق أسطورة "وسط البلد" كتجمع ثقافي، وعبر تاريخه الطويل ساهم في المعارك السياسة والثقافية التي كانت منتشرة في مصر آنذاك، لكنه وللأسف تحول تدريجيا بفضل المعارك الشخصية الصغيرة إلي مجرد "قهوة" تراجع دوره كتجمع ثقافي وانفض عنه الجميع ولم يعد جاذبا لأحد. حتي في الفترات التي استقر فيها المكان، نظم أسامة عرابي مجموعة كبيرة من الندوات لكن لم يكن هناك اهتمام كبير بالأسماء الجديدة، كان التركيز علي مجموعة من الأسماء الكبيرة المعروفة، اللهم إلا ندوة ضمت مجموعة من الأسماء الجديدة مرة واحدة. لكن في وسط هذا كله تظل "ورشة الزيتون" المكان الأبرز والأكثر تأثيراً في هذا الإطار، الورشة التي أصبحت أحد أهم المعالم الثقافية في القاهرة بفضل نشاط الشاعر شعبان يوسف، ساهمت كثيرا في طرح مجموعة من الأسماء الجديدة، يقول شعبان أن الورشة لم تتوقف عن تقديم الأسماء الجديدة، وتعمقت هذه الفكرة منذ الألفية الثالثة، فعلي سبيل المثال ناقشت في عام 2003 سلسلة روايات وصلت إلي 23 رواية للكتاب: محمد إبراهيم طه، ومحمد طلبه، وحمدي أبو جليل، ومحمد داوود، وبهاء عبد المجيد، ونجوي شعبان، وأصدرت ثلاثة أعداد من مجلة الورشة احتفي كل عدد برواية جديدة لكاتب جديد فأصدرت عددا عن رواية "لصوص متقاعدون" لحمدي أبو جليل، وعددا عن "نوة الكرم" لنجوي شعبان، وثالث عن "سقوط النوار" لمحمد إبراهيم طه. الورشة ذلك المكان الصغير في المساحة الكبير في القيمة ساهم باعتراف مجموعة كبيرة من الكتاب في لفت الانتباه إلي كتاب كثيرين روائيين وشعراء وكتاب قصة، وبعضهم تحدث عن دورها سواء بشكل منفصل أو ضمن أحاديث منهم: هويدا صالح، وفاطمة ناعوت، وسهي زكي، وسيد الوكيل، فضلا عن كبار الكتّاب.