كان رب الأسرة عبدالمؤمن النقاش يعمل بالتدريس، ولما مات، لم يترك لأبنائه الثمانية شيئا يعينهم على مصاعب الحياة، وكان لا بد من عائل يأخذ بالأيدى، ويعبر بها مراحل الحياة المختلفة والمليئة بالأعباء، وقعت هذه المهمة على عاتق الشقيق الأكبر رجاء، ليكون كما قالت أخته الكاتبة والمفكرة فريدة النقاش «البطل المطلق فى قصة حياتنا، ما كانش مجرد أخويا الكبير، كنا أسرة فقيرة، صعدت فى الحياة الاجتماعية بصعوبة، وكان لا بد من تضحية أحدنا. لذلك بدأ رجاء فى العمل وهو فى السادسة عشرة، يعطى دروسا خصوصية لمن هم أصغر منه سنا، ويعمل فى الصحف بالقطعة، وكتب أول مقالة له فى مجلة الرسالة وهو فى السابعة عشرة». كان رجاء النقاش الغائب الحاضر فى الندوة التى أقيمت بمكتبة مبارك العامة بمناسبة صدور ثلاثة كتب جديدة له، أعدتها بعد وفاته زوجته الدكتورة هانيا عمر، وأصدرتها دار نهضة مصر، هى «الموت فى قميص نوم»، «هل تنتحر اللغة»، «ثلاث نساء من مصر». وتكمل فريدة «لم يكن مجرد ناقد أدبى، كان ناقدا للحياة والمجتمع والفكر، أستطيع بدون مبالغة أن أضعه فى مقام طه حسين، والعقاد، والجيل الذى تلاهما من المفكرين والنقاد، حيث كان مدافعا عن فكرة حاجة العرب إلى مصر، واستطاع أن يكتشف جذور التواصل العميق بين ثقافتى الشرق والغرب، وأن يرد القيم العليا التى تضمنتها الثقافة العربية، ويدين الخصومة المفتعلة بين الصحافة والأدب». الندوة شهدت كثافة فى الحضور الذى كان من بينه الكاتب محمود سالم، والشاعران فاروق شوشة وحلمى سالم، وأسرة رجاء النقاش، وأدارها الكاتب الكبير د. علاء الأسوانى الذى حكى واقعتين، يرى الأسوانى أن لهما دلالة على معدن رجاء النقاش وتميزه بالموضوعية والاحترام، أولهما عندما نشر النقاش مقالا فى مجلة الدوحة إبان رئاسته تحريرها، لمحمود السعدنى كان قد كتبه عن صديقه الكاتب الراحل عباس الأسوانى. وكانت المقالة تضم ما لا يرضى عائلة الأسوانى، التى سارعت بإرسال العديد من الردود إلى مجلة الدوحة، ثم أرسل علاء ردا موضوعيا، إلى رجاء النقاش، وكان وقتها الأسوانى الصغير لا يعمل بالكتابة، ولم يكن اسمه معروفا، ففوجئ بالرد الذى أرسله منشورا بنفس المكان الذى كتبه السعدنى، مما اعتبره الأسوانى درسا فى الصحافة المحترمة. الواقعة الثانية، كانت مع صدور رواية عمارة يعقوبيان، عندما فوجئ د. علاء الأسوانى بمقالة نقدية كتبها النقاش، يحتفى فيها بالرواية، دون سابق معرفة أو لقاء، ووصف الأسوانى هذه المواقف بأنها دليل على التوحد بين النقاش وبين ما يكتبه، مشيرا إلى أن بعض الكتاب يقدمون أنفسهم عبر كتاباتهم بشكل محترم، ولكن انطباعك عنهم يختلف تماما مع الاقتراب منهم. من النقاط المهمة التى أشار لها الأسوانى، أن هناك نوعين من النقد، الأول نظرى، وفيه يتعامل الناقد مع النظريات، أما النوع الثانى فهو تطبيقى، وفيه يطوع الناقد هذه النظريات، ويستخدمها فى عمله. «كان رجاء النقاش من هذا النوع، وعندما اقتربت منه إنسانيا، وجدته رجلا عظيما، صاحب مشروع، وهو من أهم نقاد الأدب فى الخمسين عاما الأخيرة، كان متضامنا فى أزمة المجتمع، ملتزما بالقضية العربية، ينتهج الحداثة مع احترام الأصول، وكان يستعمل الصحافة حتى يدرك الناس أهمية العمل الأدبى، بشكل يمكنهم من معرفة القضايا الحقيقية الموجودة فى بلادهم». الشاعر فاروق شوشة تكلم عن إحدى مميزات رجاء التى ساهمت فيما وصل إليه، وهى أن ذكاءه جعله لا ينتمى لحزب أو جماعة سياسية بعينها «بل كان حريصا على التغريد وحده، مما جعله ينجو من أى أيديولوجيا، فكان فنانا، ومفكرا حا، غير مقيد بسلاسل العقيدة أو الرؤية الضيقة، وظل يحمل احترام الجميع، يمينا ويسارا، كبارا وصغارا». فى نهاية الأمسية عرض فيلم تسجيلى عن الراحل، جاءت فيه كلمات الأصدقاء، فى حفلى تكريمه، وتأبينه، وفى الذكرى السنوية الأولى لوفاته، كان أكثر مشاهده تأثيرا، صورة رجاء النقاش، بجانب صورة لمحمود درويش، مع صوت يقرأ سطور الأخير «عزيزى رجاء.. كنت ومازلت أخى الذى لم تلده أمى، منذ جئت إلى مصر باحثا عن أفق، وجدت فى كنفك حرارة البيت، وحنان العائلة، أخذت بيدى، وأدخلتنى فى قلب القاهرة الإنسانى والثقافى، فعلمتنى كيف أتلف، وكيف أكون أنا وسواى فى آن واحد».