حماس: الكرة الآن في ملعب إسرائيل    أبرزها «السيطرة على أوضة اللبس».. نجم الزمالك السابق يكشف مزايا عبدالله السعيد    رسميًا.. الرجاء المغربي يعلن التعاقد مع هدف الزمالك    محامي أسرة ضحية حادث «الجيت سكي» بالساحل الشمالي يطالب بإعادة تحليل المخدرات للمتهمة    4 أبراج تتصرف بعشوائية وتكره التخطيط المسبق.. هل أنت منهم؟    مصدر للبروتين.. 4 أسباب تدفعك لتناول بيضة على الإفطار يوميًا    الشعب الجمهوري يشيد بجهود القيادة السياسية في دعم الشعب الفلسطيني    تفاصيل صفقة الصواريخ التي أعلنت أمريكا عن بيعها المحتمل لمصر    ارتفاع حصيلة القتلى ل 14 شخصا على الأقل في اشتباك حدودي بين تايلاند وكمبوديا    فقدان الاتصال بالسفينة "حنظلة" خلال توجهها لكسر الحصار عن غزة    تنسيق الجامعات 2025، شروط الالتحاق ببعض البرامج المميزة للعام الجامعي 2025/2026    سليمان وهدان يرد على المشككين: حزب الجبهة الوطنية جاء ليُحرك الجمود السياسي    وسيط كولومبوس كرو ل في الجول: صفقة أبو علي تمت 100%.. وهذه حقيقة عرض الأخدود    "قلب أبيض والزمالك".. حامد حمدان يثير الجدل بصورة أرشيفية    الحمامي ورشدي وسهيلة يتأهلون إلى نصف نهائي بطولة العالم لناشئي الإسكواش    منهم هدف الأهلي.. ثنائي مرشح للانضمام إلى الزمالك (تفاصيل)    محمود محيي الدين: الاقتصاد المصري تجاوز مرحلة الخطر وخرج من غرفة الإنعاش وهذه نصيحتي للحكومة    العظمى في القاهرة 40 مئوية.. الأرصاد تحذر من حالة الطقس اليوم الجمعة 25 يوليو 2025    العثور على رضيعة حديثة الولادة أمام مستشفى الشيخ زويد    جوجل تعوّض رجلًا التقط عاريًا على "ستريت فيو"    القبض على طرفي مشاجرة بالأسلحة البيضاء في الجيزة    سليمان وهدان: المستأجر الأصلي خط أحمر.. وقانون الإيجار القديم لم ينصف المواطن    أحمد سعد: ألبوم عمرو دياب مختلف و"قررت أشتغل في حتة لوحدي"    يوسف حشيش يكشف كواليس صعبة بعد ارتباطه ب منة عدلي القيعي    ميريهان حسين على البحر وابنة عمرو دياب مع صديقها .. لقطات لنجوم الفن خلال 24 ساعة    "صيفي لسه بيبدأ".. 18 صورة ل محمد رمضان على البحر وبصحبة ابنته    سعاد صالح: القوامة ليست تشريفًا أو سيطرة وإذلال ويمكن أن تنتقل للمرأة    سعاد صالح: النقاب ليس فرضًا أو سنة والزواج بين السنة والشيعة جائز رغم اختلاف العقائد    ذكر وطعام مجاني، الطرق الصوفية بالإسكندرية تحتفل بالليلة الختامية لمولد أبو العباس (صور)    محافظ الإسكندرية يبحث استعدادات تطبيق منظومة التأمين الصحي الشامل (صور)    وكيل النواب السابق: المستأجر الأصلي خط أحمر.. وقانون الإيجار القديم لم ينصف المواطن    فلكيا.. مولد المولد النبوي الشريف 2025 في مصر و3 أيام إجازة رسمية للموظفين (تفاصيل)    جريمة قتل في مصرف زراعي.. تفاصيل نهاية سائق دمياط وشهود عيان: الجاني خلص عليه وقالنا رميته في البحر    "كنت فرحان ب94%".. صدمة طالب بالفيوم بعد اختفاء درجاته في يوم واحد    نقلة نوعية في الأداء الأمني.. حركة تنقلات وترقيات الشرطة وزارة الداخلية 2025    سعر الدولار اليوم أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية الجمعة 25 يوليو 2025    سعر المانجو والموز والفاكهة بالأسواق اليوم الجمعة 25 يوليو 2025    سعر طن الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الجمعة 25 يوليو 2025    ما هي عقوبة مزاولة نشاط تمويل المشروعات الصغيرة بدون ترخيص؟.. القانون يجيب    مبارتان وديتان للزمالك عقب نهاية معسكر العاصمة الإدارية    بدأت بفحوصات بسيطة وتطورت ل«الموضوع محتاج صبر».. ملامح من أزمة أنغام الصحية    إليسا تشعل أجواء جدة ب«أجمل إحساس» و«عايشة حالة حب» (صور)    الثقافة المصرية تضيء مسارح جرش.. ووزير الثقافة يشيد بروح سيناء (صور)    في ختام معسكر الإسكندرية.. مودرن سبورت يتعادل وديًا مع زد بدون أهداف    داليا عبدالرحيم تنعى أسامة رسلان متحدث «الأوقاف» في وفاة نجل شقيقته    «دعاء يوم الجمعة» للرزق وتفريج الهم وتيسير الحال.. كلمات تشرح القلب وتريح البال    دعاء يوم الجمعة.. كلمات مستجابة تفتح لك أبواب الرحمة    طارق فهمي: أكثر من 32 حركة احتجاج في تل أبيب ترفض الواقع الإسرائيلي    ماذا قال مندوب مصر بالأمم المتحدة في جلسة مجلس الأمن بشأن الوضع في الشرق الأوسط؟    لتخفيف حرقان البول في الصيف.. 6 مشروبات طبيعية لتحسين صحة المثانة    حقيقة رسوب 71% من طلال أولى طب بقنا و80% بأسنان في جامعة جنوب الوادي    انطلاق مؤتمر جماهيري حاشد بقنا لدعم مرشحة الجبهة الوطنية وفاء رشاد في انتخابات الشيوخ    أسباب تأخر إعلان الحد الأدنى للمرحلة الأولى لتنسيق الجامعات 2025    وزير الطيران المدني يشارك في فعاليات مؤتمر "CIAT 2025" بكوريا الجنوبية    خالد الجندي: مساعدة الناس عبادة.. والدنيا ثمَن للآخرة    "الصحة" تتخذ خطوات للحد من التكدس في المستشفيات    جامعة الإسكندرية تبحث التعاون مع التأمين الصحي الشامل لتقديم خدمات طبية متكاملة    رئيس الوزراء يتابع جهود منظومة الشكاوى الحكومية خلال النصف الأول من 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عطاء النقاش.. فنان سينمائي لم يعد يعرفه أحد!
نشر في القاهرة يوم 14 - 12 - 2010

في أواخر الخمسينات وبالتحديد سنة 1958 ظهر مقال في مجلة الآداب البيروتية بعنوان «السينما المصرية من درب المهابيل إلي باب الحديد» وكان الكاتب شابا لم يبلغ عمره ستة عشر عامًا بعد واسمه عطاء النقاش، وأهمية هذا المقال تكمن في مضمونه الفني حيث كان أول مقال يتحدث عن فن السينما كفن له جمالياته الفنية الخاصة به وله تكنيك مختلف عن بقية الفنون الأخري، وربما كان هذا المقال هو أول مقال في اللغة العربية يتحدث عن تقنيات خاصة بفن السينما، وفي العام التالي حصل عطاء النقاش علي شهادة الثانوية العامة حيث كان قد بدأ تعليمه في مدرسة منية سمنود بالدقهلية ثم في مدرسة محمد فريد الإعدادية في شبرا بعد انتقال الأسرة إلي القاهرة ثم في مدرسة أبي الهول الإعدادية فالمدرسة السعيدية الثانوية بالجيزة والتحق بقسم اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. ولكن الأسرة فوجئت بعطاء يلتحق أيضًا بمعهد مجهول الهوية أيامها هو معهد السينما، وعم قلق عميق أفراد الأسرة خوفًا من تلك المغامرة غير المضمونة العواقب، فكيف لهذا الشاب المراهق الذي لم يبلغ السابعة عشرة أن يترك كلية الآداب المضمونة المستقبل ليلتحق بمعهد لا يعرف أحد عنه شيئًا، وبذلت محاولات كثيرة لإثنائه عن هذا الاختيار المدهش ولكنه صمم ووعد الأسرة بأنه لن يترك كلية الآداب وسوف يواصل الدراسة في الجهتين الكلية والمعهد معا وأصر علي هذا الموقف وبقيت عقبة أمامه هي أن يدفع مصاريف المعهد الذي جاء ترتيبه الأول علي جميع المتقدمين في امتحان القدرات، وكان مبلغ هذه المصاريف هو خمسة عشر جنيهًا وهو مبلغ باهظ أيامها، ولكن أحد أصدقاء عطاء النقاش وهو المخرج الكبير توفيق صالح تطوع بدفع هذه المصاريف فقد كان لعطاء نشاط كبير في الوسط السينمائي أيامها وكان واحدًا من أبرز أعضاء ندوة الفيلم المختار التي كانت تقدم عروضها في حدائق قصر عابدين وكان يشرف علي نشاطها أحمد الحضري والراحل فريد المزاوي فتعرف فيها عطاء علي معظم العاملين في الحقل السينمائي أيامها ومن بينهم توفيق صالح الذي كان أيضًا عضوًا مهمًا في ندوة نجيب محفوظ قبل أن يلغيها الأمن وكان عطاء يحضر هذه الندوة، وقد تطوع توفيق صالح لهذا العمل لإيمانه بموهبة عطاء ومستقبله التي كانت قد بدأت تتفتح في ندوات الفيلم المختار وفي ظهوره الدائم في استديوهات السينما. وفي طفولتنا كان عطاء كثيرًا ما يراهنني علي أن آتي له باسم أي فيلم في دور العرض لم يشاهده وكان يحكي لي قصة أي فيلم أختاره.
ومضت الأيام ونجح عطاء في كلية الآداب وفي معهد السينما أيضًا وكان ترتيبه الأول علي الدفعة الأولي من طلبة المعهد، ومن حسن الطالع أن معظم أساتذة المعهد كانوا يعرفون عطاء معرفة جيدة من خلال نشاطاته في التجمعات السينمائية الفنية وفي المؤسسات التي أنشأتها الوزارة أيامها لدعم صناعة وفن السينما، وقد حصل عطاء بتفوقه علي منحة تفوق مقدارها اثني عشر جنيهًا كل شهر إلي جانب الإعفاء من مصاريف الدراسة.
نبوغ مبكر
ومن حسن طالعه أيضًا أن الراحل الكبير محمد كريم وكان يتولي عمادة المعهد كان هذا الرجل الكبير يري في عطاء موهبة تستحق الرعاية فكان يترك له حرية وضع جداول الامتحانات بما يتلائم ولا يتعارض مع مواعيد امتحاناته في كلية الآداب، وكان عطاء أثناء الدراسة يعمل مساعدًا للإخراج مع أساتذته وخاصة مع أستاذه المقرب الراحل حلمي حليم الذي كان عطاء صديقًا له ومقربًا منه حتي كانت السنة الثالثة من الدراسة ونجح عطاء في امتحان التيرم الأول لكلية الآداب، ولكن الأستاذ محمد كريم استقال من عمادة المعهد آنذاك لخلافات إدارية وحل محله الأستاذ جمال مدكور فلم يقبل من عطاء إلا التفرغ إما للمعهد أو الكلية فاختار عطاء المعهد بعد معركة مع إدارة المعهد لم تنته لصالحه وتخرج عطاء في المعهد سنة 1963 وكان ترتيبه الأول علي المعهد كالمعتاد وعين معيدًا فيه وبدا أنه موهبة سوف تتفجر عن نبوغ كبير في مجاله حتي أن الراحل الكبير صلاح جاهين قال عن عطاء «إن هذا الفتي هو مستقبل السينما في مصر»، وفي سنة 1964 قررت الوزارة إعطائه منحة لمدة عام واحد قدمتها الولايات المتحدة الأمريكية فسافر هو والمخرج الكبير الراحل أشرف فهمي في نفس اليوم وعلي نفس الطائرة.
ليلة السفر
وقد كانت فرحة أسرتنا بهذا الشاب عظيمة فسهرنا ليلة السفر جميعًا حتي الصباح وكان معنا ليلتها الأستاذ المخرج الراحل حلمي حليم ومهندس الديكور اللامع الأستاذ صلاح مرعي الذي كان صديقًا مقربًا من عطاء، وفي الصباح الباكر من يوم الخميس 6 أغسطس سنة 1964 كنا جميعًا نقف في شرفة مطار القاهرة لنودع عطاء المسافر لطلب العلم وكانت تملؤنا جميعًا فرحة غامرة وأحلام عظيمة عن مستقبل هذا الابن النابغ خاصة وقد كنا أسرة فقيرة لا تملك شيئًا يحقق طموحاتها إلا التعليم والعمل الجاد، وقد كانت هذه آخر مرة رأيت فيها عطاء عندما التقت أعيننا وأنا أقف في شرفة المطار أنظر إليه وهو يتعثر علي سلالم المطار المؤدية إلي سيارة الأتوبيس التي ستقله إلي الطائرة المسافرة إلي أمريكا وكانت عيناه كما أذكر مليئة بالخوف والارتباك.
وسافر عطاء علي أمل أن يعود بعد سنة هي مدة المنحة، ومن الولايات المتحدة كانت تصلني خطاباته مليئة بالشكوي من تضييع الوقت وأنهم يعيدون عليه ما ظل يدرسه في المعهد لمدة أربع سنوات وربما ما هو أقل منه قيمة، وكان يزامله في هذه الدورة سبعون طالبًا من عدة بلاد يابنيون ولاتينيون وأمريكيون وأفريقيون، وفي نهاية العام عقد لهم امتحان لاختيار أصلحهم لمواصلة الدراسة في فن السينما بالجامعات الأمريكية فكان هو الأول من بين خمسة أفراد من هذه المجموعة والحق بكلية السينما بجامعة كاليفورنيا بشرط أن تقوم الحكومة المصرية بدفع نفقاته في الدراسة والمعيشة في السنتين اللتين سوف تستغرقهما الدراسة ووافقت الحكومة المصرية وحولت المنحة إلي بعثة نظرًا لارتفاع تقديراته الدراسية وأرسلت له مصاريف السنة الأولي واجتازها بنجاح.
بيروقراطية الإدارة
ولكن جاءت السنة الثانية ولأسباب بيروقراطية محضة تأخرت مصاريف الدراسة عن عطاء فكانت سنة قاسية وشاقة حتي أوقفت الجامعة دراسته وطرد من مسكنه ولولا أن إحدي زميلاته الأمريكيات تولت تسديد ديونه، وبقيت مشكلة الدراسة بالجامعة حتي تمكنا هنا في مصر من تذليل العقبات التي حالت دون إرسال نفقات السنة الثانية من البعثة، وحصل عطاء علي شهادة «الماستر أوف آرت» التي تزيد درجتها علي الماجستير هذه الشهادة التي أهلته للتدريس بجامعة كاليفورنيا في كلية السينما واستمرت هذه الفترة لمدة سنتين أرسل خلالها عطاء لعمل فيلم تسجيلي عن الفنون الشعبية في أمريكا اللاتينية وكانت تكلفة هذا الفيلم مائة ألف دولار وعرض الفيلم بأمريكا وكانت مدة عرضه ساعتين، واستمر يعمل أستاذًا بالجامعة حتي عرض عليه في أواخر الستينات ثلاثة عروض للعمل أولها هو أن يقوم بإنشاء كلية للسينما في إحدي الولايات وإدارتها وثانيهما هو أن يعمل كسيناريست في شركة كلومبيا للإنتاج السينمائي والثالث هو أن يعمل في قسم السينما في شركة (ibm) لإنتاج أجهزة الكمبيوتر، حيث كان الكمبيوتر أيامها شيئًا مبهمًا ومعقدًا لمعظم الناس ولكنه قبل هذا العرض لأنه كان يقوم بإنتاج وتطوير برامج الكمبيوتر المستخدمة في السينما اليوم كما كان يقوم بإخراج الأفلام التي تشرح عمل الأجهزة التي تنتجها الشركة وشارك في تطوير هذه الأجهزة التي تنتجها الشركة وتطوير إسهامها في توليف الأفلام وظل يعمل في هذه الشركة حتي أصبح رئيسًا لقسم السينما في هذه الشركة وظل يعمل بهذه الشركة لمدة تزيد علي ربع قرن ثم استقال وأنشأ شركة صغيرة للدعاية والإعلان وحقق منها مكاسب مكنته من التقاعد قبل وفاته بثلاث سنوات.
كآبة النكسة
لماذا لم يعد عطاء النقاش إلي مصر خلال هذه الفترة الطويلة والوقائع تقول إنه بعد سفره بسنتين تزوج بالفتاة الأمريكية التي قدمت له العون في أزمة تأخر إدارة البعثات في إرسال نفقات الدراسة والمعيشة وأنه أنجب منها ابنه الأول إيهاب، وكانت النكسة قد حطت بكآبتها علي البلاد والعباد وتعقدت الظروف بشكل عميق وكان عليه أن يختار بين أن يترك زوجة وطفلاً بلا مورد مادي حقيقي في مصر حتي تستقر أموره المادية وبالطبع كانت زوجته ستفضل ساعتها أن تعود إلي بلادها وسوف تصبح عودتها ساعتئذ أمرًا غاية في الصعوبة بعد ذلك، والأمر الثاني الذي منعه من العودة إلي مصر هو عمله بشركة تجري تجارب شديدة الأهمية بالنسبة لفن السينما ومعني عودته أن تتوقف مشاركته في هذه التجارب وهو الأمر الذي كان يتمني ألا يتخلي عنه والأمر الآخر الذي تسبب في توقف مشروع عودته هو تردي الحال الاجتماعية والاقتصادية في مصر بينما هو قد حقق وضعًا اجتماعيًا عاليًا في المجتمع الأمريكي، المهم في ذلك كله هو أنه لم يتمكن من العودة حتي جاءت سنة 1974 وجرت مراسلات بينه وبين أبينا تتضمن مشروعًا لترتيب عودته وبدأ أبي رحمه الله في البحث عن سكن لعطاء ولكن أبي توفي فجأة والغريب أن وفاة أبي كانت بنفس الطريقة التي توفي بها عطاء وهي أزمة قلبية مفاجئة المهم أن مشروع عودة عطاء توقف حتي سنة 1979 حين قرر هو أن يصفي ما يملكه في الولايات المتحدة وأن يعود إلي مصر هو وزوجته وأبناؤه الثلاثة والذين كانوا يتلقون العلم في أرقي المدارس الأمريكية وحين أرسل لي بكشف حسابته بعد أن يبيع ما يملكه «منزل وسيارة وبعض الاستثمارات القليلة» كانت النتيجة أمامي محزنة فقد كان المبلغ الذي سوف يتبقي له ليعود إلي مصر ويشتري لنفسه ولأسرته سكنًا ملائمًا له وينفق علي هذه الأسرة وعلي تعليم الأولاد حتي يرتب أموره في المعهد وفي حقل السينما كان هذا المبلغ لا يكاد يكفي شيئًا، وكانت مخاطرة كبيرة أن أنصحه بالعودة في مثل تلك الأوضاع، وأشار هو علي أن أسأل صديقه الذي كان وكيلاً لوزارة الخارجية المصرية حينذاك وهو الأستاذ السفير حمدي الطويل وأن أعرض عليه خطابه وأحواله المادية وأعرف رأيه وقد فعلت وقال لي الأستاذ حمدي الطويل أرسل إلي عطاء علي لساني أن الأوضاع في مصر قد اختلفت تمامًا وأن مستوي المعيشة في مصر قد أصبح أغلي منه في الولايات المتحدة خاصة بعد تحول الاقتصاد إلي الانفتاح، وتلاشت الآمال في عودة عطاء ولكن أولاده قد تلقوا تعليمًا علي أرقي مستوي ربما في العالم كله، فالثلاثة الكبار منهم قد تخرجوا في أرقي معهد أمريكي للتكنولوجيا وأكبرهم إيهاب يعمل الآن مهندسًا مشرفًا علي محطة الأقمار الصناعية لشركة فوكس والثاني طارق يعمل أستاذًا للبيولوجي في جامعة بنسلفانيا والصغري ياسمين تعمل أيضًا أستاذة للبيولوجيا في جامعة ماساشوستس والابنة الصغري له ليلي مازالت في الثالثة عشرة، فهل كان من المنطقي أن يضحي أب بمثل هذا المستقبل لأبنائه ليعود إلي مصر ليلاقي مستقبلاً غير مضمون له ولأولاده أظن أن الإجابة المنطقية هي لا. كانت هذه هي حكاية هذا الرجل الذي خرج من مصر إلي أكبر بلاد العالم تقدمًا ليدرس ويعود إليها ليقدم ما تعلمه متوقعًا أن توفر له بلاده نوعًا من الحياة الكريمة ولكن الظروف جميعها قد خذلته وخذلتنا.
إخراج الحرافيش
ولابد هنا أن أذكر أن المخرج الكبير الراحل يوسف شاهين قد زاره ذات مرة في ثمانينات القرن العشرين وعرض عليه أن يعود ليخرج فيلمًا عن رواية «الحرافيش» علي أن يقوم يوسف شاهين بإنتاج الفيلم وبالفعل بدأ عطاء النقاش في كتابة السيناريو لهذه الرواية ولكن نظرًا لطول أحداث الرواية ولبطء الاتصال بين يوسف شاهين وعطاء فقد تراجع يوسف شاهين عن إنتاج هذا العمل وقسمت الرواية إلي عدة أفلام أخرجها مخرجون آخرون.
ومن الأشياء التي يجب أن تسجل للراحل عطاء النقاش هو أنه أول من قدم نقدًا سينمائيا علميًا مدروسًا وليس قائمًا علي الانطباعات وعلي نقد الحدوتة السينمائية أو تحليلها وفقط وكان أول مقال له في هذا الاتجاه قد نشر كما أسلفنا في مجلة الآداب البيروتية، ولقد ظل بعد ذلك يكتب شهرية سينمائية في مجلة الكاتب التي كانت تصدر عن وزارة الثقافة المصرية في الستينات واستمر في هذا العمل لمدة تزيد علي عام كما أنه نشر في هذه المجلة نفسها دراسة ربما كانت الأولي والوحيدة عن المخرج السويدي العالمي «إنجمار برجمان» وهي دراسة تفصيلية مغنية لأفلام «برجمان» شملت كل أفلام هذا المخرج حتي منتصف السبعينات وقد نشرت هذه الدراسة علي حلقتين في مجلة الكاتب المشار إليها، وله أيضًا دراسة أخري عن مخرج من أهم مخرجي السينما الأمريكية وهو «ستانلي كوبريك» شملت تحليلاً وشرحًا وافيًا لمعظم أفلام هذا المخرج الكبير. وسوف نقوم إن شاء الله بإصدار هذه الدراسات في كتاب في القريب العاجل.
دلالة عميقة
وربما كان من المهم هنا الإشارة إلي واقعة عميقة الدلالة حدثت في أوائل سنة 1968 عندما كان الراحل الكبير أحمد بهاء الدين يرأس تحرير مجلة «المصور» وكان يكتب مقالاً أسبوعيًا في افتتاحية المجلة يستغرق الصفحتين الأوليين في المجلة وبعد حدوث النكسة بشهور قلائل نشر الأستاذ بهاء في نفس مكان مقاله الأسبوعي مقالاً لعطاء النقاش يتناول فيه بالتحليل بعض أهم أفلام السينما الإسرائيلية وقدم الأستاذ بهاء لهذا المقال بما يعني أنه نظرًا لأهمية المقال فإنه يتخلي عن مكانه لينشر هذا المقال المهم، وهذه سابقة تشير إلي أهمية هذا المقال الذي كان أول إشارة إلي وجود سينما إسرائيلية يجب أن يتعرف عليها العرب كجزء من معرفتهم بعدوهم.
قيمة رمزية
وأخيرًا فإن كان لعطاء النقاش قيمة ما فإنها قيمة رمزية للمواهب المصرية التي تنبغ في بلاد غير بلادها وتمنعها الظروف العامة أو الشخصية والتي تشتبك معها كثيرًا فإن هذه الظروف المعقدة تحول بين هذه المواهب وبين تقديم جهدها لخدمة بلادها، ولكننا لابد أن نعرف أن أعذارًا قوية لهذه المواهب المختطفة والمقتلعة من جذورها قد حالت بينها وبين دورها المنشود. وقد كان عطاء الذي ولد في 1/9/1942، ومات وهو في قمة نشاطه وتمام صحته حيث فاجئته أزمة قلبية وهو يلعب التنس يوم 1/12/2010، كمثال لهذه المواهب التي اجتهدت في عملها وحياتها كلها حتي النفس الأخير.
إنني أكتب هذا لأذكر الذين مازالوا أحياء من أساتذة عطاء ومن زملائه بقدر الآمال والطموحات التي كانوا ينتظرون أن يحققها عطاء النقاش، وإنني لأشعر بالأسي لأن بلادنا قد خسرت مواهبه اللامعة وقد كانت في حاجة إليها في الظروف التي تمر بها، ولكنني أيضًا أتذكر هنا دماء العلماء العرب من النوابغ التي أريقت في حوادث غامضة في شتي بقاع الأرض وأحيانًا علي أرض بلادهم، كما أتذكر هنا أيضًا شهادة شهود العيان الذين رأوا، أن أول ما فعلته القوات الأمريكية عند دخولها إلي مدينة الموصل بالعراق إبان الغزو الأمريكي أن هذه القوات كان أول ما فعلته أن توجهت إلي جامعة الموصل وكان أول ما هدمته من هذه الجامعة هو المباني التي تشغلها معامل الجامعة، فليس غريبًا بعد هذا أن تسير حياة عطاء وأمثاله من الموهوبين من أبنائنا في هذه الطرق الغامضة والملتوية وأن تفقد بلادنا كل يوم واحدًا من أمثاله إما قهرًا أو حزنًا أو غيلة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.