شوارع كوم الدكة بالإسكندرية لم تكن ديكوراً خلفياً هذه المرة، بل كانت محور الحدث، في "مهرجان الإسكندرية الأول للموسيقي التراثية". مبادرة حملت اسم "اسكندراما" استطاعت تغيير شكل الحياة في كوم الدكة لخمس ليال متعاقبة. الأولي للغناء الصوفي وقام بها موسي الإسناوي من جرجا، وأمسية للسيد كامل من السويس، وأبو الوفا السوهاجي الصعيدي السكندري، شوقي الريدي من فرقة البمبوطية ببورسعيد، والحاج محمد البحيري الذي أدّي عدداً من أغاني الدلتا. اسم المبادرة كان يمثل تحية لمهرجان "اسكندراما" المسرحي الذي كان يقام منذ سنوات علي يد مؤمن عبده وسامية جمال، اللذين توفيا في حريق قصر الثقافة ببني سويف. كانت هي المبادرة الأولي لجمعية لا تزال في طور الإشهار، باسم "كوم الدكة للتنمية والثقافة" يديرها الشاعران ياسر عبد القوي ومحمد رجب، واللذان قاما بتنظيم المهرجان أيضاً. ويبدو أنها لن تكون الأخيرة. تمت المبادرة بالجهود الذاتية، كما يؤكد ياسر عبد القوي، باستثناء دعم من معهد جوتة، بالإضافة إلي التطوع، تطوع أناس للمشاركة في التكاليف، وقبل المغنون القادمون مقابلاً رمزياً لهم، وتكفل محل "فراشة" قريب من مكان المهرجان بتوفير الكراسي بأجر قليل. الحضور كان بلا مقابل بالطبع، وهذا كان يزيد من ثقل المسئولية. يقول ياسر، إذا لم يدفع الحضور شيئاً فهم قد ينصرفون في أي لحظة إذا لم يعجبهم العمل، لا يعودون ملزمين بإكمال السهرة لآخرها. ولكن الناس لم ينصرفوا، ظلوا باقين يستمتعون بالغناء في الشارع، أمام مقر فرع دار صفصافة بالإسكندرية، والتي يديرها عبد القوي أيضاً. كوم الدكة حي عريق بالإسكندرية، أقدم الأحياء بالأحري، اسمه الأصلي راقودة بحسب النطق العربي، أو راكوتس بحسب النطق اليوناني. كان دائما حيا فقيرا، حي أولاد البلد، المرتفع عما حوله والذي يتوسط حيّين غنيين، الحي اللاتيني المخصص للأجانب الأوروبيين، وحي محرم بك الذي يسكنه الباشوات، يقول عبد القوي إن ميلاد الموسيقار بحي كوم الدكة لم يكن أهم أحداثه، أهم أحداثه كان غناء العمال والموسيقي الشعبية ونداءات الباعة التي استوحي منها درويش ألحانه. ويقول محمد رجب: "الناس هنا تعتبر سيد درويش معجزة، ولكن أنا لا أري هذا. جيران درويش كانوا نجارين وحدادين وما شابه ذلك، هؤلاء هم من صنعوا المعجزة". هناك ثلاثة أحياء في الإسكندرية تحتفظ بالمعمار القديم، يقول عبد القوي، كوم الدكة والأنفوشي وكرموز، أكثرها تقبلاً للعمل الثقافي كوم الدكة. جزء مهم مثلاً من تمريناته في كلية الفنون الجميلة التي تخرج فيها هو الرسم بداخل هذا الحي. كل هذا رجّح فكرة أن تتم المبادرة داخل كوم الدكة. لم تكن الصورة وردية تماماً، بعض المناوشات حدثت بين منظمي المهرجان وبين بعض المتزمتين من أبناء الحي، يروي عبد القوي أن المناوشات لم تكن كثيرة، أقصي ما أمكن للمتزمتين القلائل أن يفعلوه هو العبوس لدي المرور أمام الحفل، أما الشاعر محمد رجب فيقول إنّ الشرط الوحيد لإقامة الحفلات كان البدء فيها بعد صلاة التراويح برمضان، وهذا لم يمثل عائقاً، "كنا ننتظر. ما المشكلة؟" وبالتالي فأقصي ما أمكن لشيخ الجامع أن يفعله هو إطالة مدة الصلاة قليلاً. قبل هذا كانت هناك بعض المخاوف. تحدث رجب مثلا مع بعض الأهالي عن خوفه من أن يحدث "قلق" في الحفل ناتج عن غضب المحافظين من الغناء والرقص في الشارع، فأجابه بعض الأهالي، ذوي الطبيعة الشعبية: "خلي حد يقول للمغني انزل وانت تشوف هنعملوا فيه إيه". الاحتفال كان مشهوداً، في البدء كانت الشبابيك مكتظة بمشاهدي الحفل، وفي اليوم الثاني والثالث نزل المشاهدون إلي قلب الحفل، الجمهور الغالب كان من كبار السن، الذين كانوا يسمعون هذا النوع من الغناء في شبابهم، عندما كان هو السائد. المغني أبو الوفا السوهاجي كان قد توقف عن الغناء منذ فترة طويلة. لم يصدق الكثيرون أنه قادم لإحياء الليلة، يتأمل عبد القوي غناءه: "هو من أصول صعيدية، ويعيش في الإسكندرية منذ وقت طويل. الغناء الصعيدي السكندري له طابع مختلف عن الصعيدي الأصلي، قد يكون في الإيقاع، في نوعية الموسيقي، أو في الآلات المستعملة". الحضور كانت تغلب عليه الطبقات الشعبية، يبدو هذا مثار فخر لياسر الذي يقول: "حتي الآن لم أكتشف بعد الطبقة المتعلمة في كوم الدكة، ربما كانوا موجودين، ولكنني لم أكتشفهم". هذا يبدو مصدر فخر، لأنه يؤكد علي نجاح المهرجان والذي كان يأمل "العمل للناس"، وليس "العمل علي الناس"، وبالأخص الطبقات الشعبية منهم. آخر يوم من المهرجان تضمن غناء يقوم به أهالي كوم الدكة أنفسهم. في اليوم قبل الأخير طلب بعض الأهالي الغناء فاتفق معهم المنظمون علي تأجيل هذا للغد، وقد كان: لساعة إلا ربع ظل الأهالي يتناوبون واحدا إثر الآخر علي الميكروفون. لم يكن هذا هو التفاعل الوحيد، بجانب الرقص والمشاركة في الغناء مع المغنين الضيوف، فقد كانت تدور حوارات بين الجمهور وبينهم أيضاً. مغن ما يتغني بالنساء فترد عليه إحدي الحاضرات، وهكذا.