رغم سيطرة البعد التقني، وتوابعه الاقتصادية علي مشهد الزلزال الذي ضرب درة الصناعة اليابانية (تويوتا)، إلا أن ثمة غيابا - أو تغييباً - للمنظور الثقافي خلال المعالجات التي تصدت للأزمة، ربما يعكس عدم تقدير دقيق لما قد يصيب الصورة الذهنية، التي ترسخت للنموذج النهضوي الياباني، وكانت »تويوتا« مساهما رئيسا في تعزيزه، ليس فقط بحجم الانتاج والاسواق ورأسمال يفوق موازنات بعض الدول، ولكن أيضا عبر الاربعة عشر مبدأ للادارة التي طورتها الشركة وتجاوز الاهتمام بها الشركات الطامحة للتفوق الي الدول التي تتطلع للتقدم. الادارة اليابانية متميزة، التكنولوجيا اليابانية لا تنافس، المنتج الياباني يتقدم كالفاتحين ، الياباني يعمل بلا كلل و... و.... واجمالا ثمة معجزة صنعتها اليابان في اقل من ربع قرن بعد، هزيمتها المهينة، عقب قصفها - للمرة الاولي والاخيرة - بالقنابل الذرية. كان وراء المعجزة - إلي جانب عوامل عديدة - تفرد ثقافي، وشعور عميق بالهوية القومية، قادا لتماسك وانسجام مجتمعي، واخضاع للرغبات الفردية لصالح الجماعة، فسادت روح الفريق الواحد من العائلة وحتي الدولة، مرورا بالمدرسة والشركة. داخل هذا النسق، كان المكون الثقافي اساسيا في تشكيل »الثقافة الصناعية« وفي القلب منها »الثقافة الشركاتية« ذات الخصائص المتميزة، والتي اسهمت في الصعود الياباني، حتي لامس حدود القمة عالميا، وبرغم انكسارات وازمات تواصلت رحلة الصعود، ثم يحدث السقوط المدوي ل»تويوتا« التي كان ينظر اليها باعتبارها جوهرة المعجزة اليابانية. أين يكمن الخلل؟ هل بات علي اليابان ضرورة القيام بمراجعة المقومات التي كانت ضمانة لتفوقها؟ أم هل أصبح علي اليابانيين إعادة التفكير في ثوابتهم المتكئة علي ميراث ثقافي عريق يبدو أن اعراض الشيخوخة بدأت تدب في اوصاله؟! وإذا لم تنتبه اليابان الي خطورة الاسئلة المطروحة، فهل يعني ذلك ان ماحدث ل »تويوتا« قابل للتكرار ،وانه يؤشر لبدايات تراجع ،ثم انحدار للنموذج الذي انتج كل هذا النجاح؟ فضيحة سحب »تويوتا« لعشرة ملايين سيارة من اسواق عدة، كان لامريكا النصيب الاكبر منها، فرصة لم تفوتها مجلة »نيوزويك« الامريكية الشهيرة، لتصف ماحدث بأنه »تقويض لروح اليابان!« وان بكاء رئيس شركة تويوتا اثناء اعتذاره امام الكونجرس - وهو قبطان الصناعة اليابانية - انما يرمز الي حضيض جديد تبلغه اليابان(!)، التي تعيش حالة تراجع، وسط تفوق الصين عليها، وان اليابان كان بإمكانها التمسك بأثر واحد من هيبتها السابقة المتمثلة في »تويوتا«، باعتبارها المعيار الذهبي لجودة التصنيع التي اشتهرت بها اليابان طوال نصف قرن، وأصبحت الآن موضع تشكيك. ربما يعكس رأي »النيوزويك« نوعا من الكراهية الدفينة، تعود جذورها الي ذكريات بيرل هاربور، حيث كانت اليابان الدولة الوحيدة في العالم التي استطاعت ان تضرب قوات امريكية علي أرضها، ولاشك أن »عُقد الكراهية« تساهم في رسم ملامح العلاقات بين الدول والثقافات المختلفة، ولعل ازمة تويوتا كانت بمثابة فرصة ليمنّي الامريكان انفسهم بإزاحة احدي القوي المنافسة لزعامتهم عن الطريق! أزمة تويوتا - اذن - من هذا المنظور تمثل لحظة كاشفة لمأزق ثقافي مسكون بعُقد سكيولوجية علي الجانبين: اليابان من ناحية، والولايات المتحدة من ناحية أخري، ومن حولهما، أو معهما، القوي المتصارعة حول تشكيل ملامح نظام دولي مايزال في حالة سيولة حتي الآن. ريادة اليابان في التفوق الصناعي كانت وليدة عوامل عديدة وكان بينها فهم طبيعة السوق، الادارة الجيدة، التفوق التقني..و.. و.. ولكن قبل ذلك شكل المكون الثقافي في القاعدة التي آنطلقت