عليَّ أن أتماسك، فأحضروا ليّ مقعدا فجلست قريباً من منضدة التحقيق، كان ضابط النقطة قد أمر بإفساح مكان لي، فاقتربت أكثر، كانت الجثة مسجاة بجوار الحائط، وقد غطيت بملاءة نشع خلالها الدم، حاولت أن أستند علي ظهر المقعد، فتبين أن المقعد بلا ظهر، كدت أسقط، أسرع إليّ أقارب، فربتوا علي كتفي وبكوا. نهرهم الضابط المحقق، فازدادوا بكاء، بكيت أنا الآخر، فتقلص الضوء وتشابك في عيوني ثم انداح عني، احتضنني شيخ الخفراء وقبلني، فانهمر الناس بكاءً وصراخاً، مسحت التراب من وجهي، واستعاذ الآخرون بالله. طلب الضابط المحقق من العساكر _ والخفراء - أن يبعدوا الناس عن المكان، لازالت جثة أبي مسجاة بجوار الحائط مغطاة بالملاءة، والتراب يتراكم معذبا فوق سحنتي، قال شيخ الخفراء: - إن الأمر هذه المرة لن يمر ببساطة. أيده الضابط المحقق، وقدم لي أحدهما سيجارة لم أستطع الإمساك بها، ومال عليّّ إمام المسجد فطلب مني أن أكون رجلا، وقال إنه رأي كل شيء، وإن الله معي. فأيده الضابط وشيخ الخفراء، وكان رجال الشرطة يطاردون الناس ليبعدوهم عن دائرة التحقيق، أخذت شهيقا طويلا مرتجفا، شدت أشعة الشمس حرارتها، الذباب يحوم ويتجمع علي بقع الدم، فازدادت رغبتي في البكاء، أحزنني أني لم أكن موجوداً، وأني لم أسبل عينيه وأقرا علي رأسه الشهادة... تذكرت أبي وهو يأخذني إلي أرضنا ليلاً كي نسقي الزرع، ويشدو بسيرة أبي زيد الهلالي ودياب بن غانم، ذات مساء أرسلني أبي لأخذ جوال كيماوي من أحد الجيران، كنت ألهو وأجري متلوياً كالقطار في الشارع المظلم عندما اصطدمت بعفريت كان يلهو مثلي في خطوط متعرجة، صرخت وعيون العفريت تنطلق انزعاجاً عاوياً، خرج الجيران منزعجين ودثروني بآيات حامية من القرآن الكريم، بدأ أحدهم في صفق جسدي بيديه كي يخرج العفريت مني، وظللت أنتفض وأرتعد إلي أن جاء أبي واحتضنني وظللت أبكي وأرتجف للصباح. أزلت بعض الغبار من فوق عيوني، في النهاية فأبي قد قتل بثلاث رصاصات في صباح يوم الجمعة، أحسست برغبة تجتاحني أن أجلس علي الأرض، سمعت صوت أمي يشرخ الدنيا مولولا ملتاعا، جري إليها شيخ الخفراء وأسندها حتي اقتربت من الضابط، لم أكن قد رأيت أمي منذ أسابيع، البكاء والحزن دكها، انهمكت أنا أيضا في البكاء. نظرت إلي الجسد المسجي، في - لحظة - تحول من مخلوق ينصح، ويعاتب، ويزكي، ويتمعن في النجوم لتحديد الوقت، ويصاهر، ويتسوق، ويقوم مبكرا، وينام فور صلاة العشاء... إلي جثة مفتتة الرأس، مثقوبة الصدر، يتجمع حولها الرجال، باكين ملتاعين غاضبين، معفرة رؤوسهم بالوحل، وتلتف حولها النساء، ملتاعات، مشويات الفؤاد، منتحبات معفرات رؤوسهن بالطين والنيلة. كان نشع الدم فوق الملاءة قد أسود وكلح، وظهر التبرم علي وجه الضابط، قالت أمي المستندة علي ذراع شيخ الخفراء وأحد أبناء عمي: - إن أبي اغتيل، وإن أبي قد قتل بطريقة لم نرها من قبل، بل وأضافت أن يوم مقتل أبي كان يوما تشيب له الولدان، فقد قام مبكرا ليودع ضيوف مجلس صلح، أتوا في المساء من قرية مجاورة، ليضعوا حداً لخلاف قائم بينهم وبين جيران لنا، وأدي ركعتي الضحي، وقرأ بعض الآيات، وهش الكتاكيت من ساحة الدار، وشرب من الزير، ثم اتجه فتوضأ خوفاً من أن يكون قد نقض وضوءه، ثم جلس يتناول طعام الإفطار، وانفتح باب الدار بعنف، ووقف ( صابر ) علي العتبة، نظر إليه أبي واللقمة في منتصف المسافة بين الطبلية وفمه، صوب صابر بندقيته، وانهال بالرصاص في الرأس والرقبة، صرخت أمي رعباً، وانكفأ أبي علي الطبلية، فجذبه صابر من ملابسه وألقاه علي عتبة الدار، وأطلق دفعة أخري من الرصاص في صدره، ظلت أمي مذهولة مفتوحة الفم والعيون، ثم سقطت بجوار الحائط. في التحقيق، بدا واضحا أن الناس يحبون أبي، وظلت - الزنابير تطن في الجو، والنخل محملاً بأكداس الرطب الأسود، والضابط جالسا في البقعة الدائرية التي صنعها للتحقيق في مدخل البيت، والشمس تفح بالغبار والنار، والناس يتجمعون، والموت راقد علي جسد أبي، والحزن جاثم فوق الصدور، وملاءة الموت تغلف الجسد المسجي، والعفريت يلهو، وعيونه تنطلق انزعاجاً عاوياً، والضابط يحقق ويلعن، وشيخ الخفراء والعساكر يبعدون الناس، وأقاربي يبكون، والحرارة أصبحت سعيراً، والذباب يحوم ويتكاثر، ودخان السيجارة يصنع في الجو زرقة كابية، وصراخ أمي يشرخ الدنيا ونظراتها تطالبني بالثأر، فظللت أبكي وارتجف.