العام 7391، والمكان مصر، حيث احتدام الصراع بين كافة الأقطاب السياسية، والملك فاروق مازال يتلمس طريقه إلي الفرش، بعد وفاة والده، والساسة تتحدد مواقفهم تبعا لمواقفهم العديدة من الانجليز ومن الملك، والمجلات - ايضا - مثل الرسالة للزيات، والمجلة الجديدة لسلامة موسي، والبلاغ لعبدالقادر حمزة، وغيرها من الصحف والمجلات التي تتحدي وتناوش وتطرح أشكالا من الثقافات المختلفة، والألوان الحادة، منها الأصفر المحاليء، ومنها الأحمر اليساري الذي بدأ يظهر علي الساحة، ومنها القومي المصري، والقومي العربي، وفي ظل هذا الزحام الفكري والثقافي والإبداعي، حيث توفيق الحكيم كان قد أصدر روايته الرائدة »عودة الروح«، ومازالت مصر تبحث عن انتمائها بين الفرعونية والإسلامية، والعقاد يخوض معاركه السياسية، وكان في هذه الفترة قد لانت، باستعاده عن حزب الوفد، ومحمد حسين هيكل وطه حسين راحا يكتبان الاسلاميات... في ظل هذا الجو برر نجم أحمد حسين، أو الرئيس أحمد حسين زعيم حزب مصر الفتاة، كما كان يخاطبه زملاؤه، وفي هذا العام قام أحمد حسين بحملة صحفية في جريدة »الضياء« أزعجت الحكومة، فقررت الحكومة بدورها تقديمه للمحاكمة بعد اعتقاله ثلاث مرات، ولفقت له خمس قضايا، وشرع هو في نظرها ابتداء من 51 يونيو سنة 7391، ولكن محكمة الجنايات التي كانت مشكلة برئاسة حسن بك فريد أكتفت بنظر قضيتين فقط. وإذا كان أحمد حسين وحزبه السياسي كان لهما ميول عميقة نحو العنف والكفاح المسلح، وترسيخ فكرة الاغتيالات والتأثر البالغ بالنظرية الهتلرية، والتأكيد علي فكرة القومية، فكان الجناح الثقافي الذي أنشأ دارا لنشر فكر الحزب، وأسماها دار الثقافة العامة، وصدر أول كتاب عام 7391، وبالتحديد »كتاب الشعر«، وأصدرت السلسلة - في ذلك الوقت - أربعين كتابا، وتوقفت لدخول مديرها ومنشئها الكاتب محمد صبيح عبدالقادر، والذي كتب - تقريبا - معظم الاصدارات، وواصل إصدارها مرة أخري عام 7591، وأعطاها طابعا إسلاميا قوميا شرقيا عاما، بعيدا عن الثقافة الغربية، وهو يحدد اتجاهه في ذلك فيقول: (يعلم الله أنا لانكره أن تقرأ وأن تتعلم من أي مكان، وعلي يدي أي انسان يساوي فكره شيئا.. وقد دعانا الاسلام إلي أن نلتمس العلم في أقصي الأرض، ولكن ما كرهناه هو الافتعال.. هو سير الثقافة في ركاب القوة الخارجية.. وحدث ما توقعناه.. فقد هدأ النقع الذي ثار وحجب الرؤية عن الابصار، وعادت تتردد الدعوة إلي أن تظهر شخصيتنا، وتبين معالمها.. ووجدت هوي في كل قلب، وصد في كل نفس، أنا الشرق.. أنا محمد والمسيح وخالد وصلاح الدين... أنا ابن سينا وابن رشد والغزالي.. أنا أبوحنيفة والشافعي ومالك وابن حنبل أنا هؤلاء ومئات مثلهم.. يجري في عروقي من دمائهم دم.. وفي عقلي من ضيائهم نور، وفي نفسي من كفاحهم إشراق، تقريبا هذا شبه بيان كتبه محمد صبيح في مقدمة كتابه: (عن القرآن) عندما أعاد إصداره في نوفمبر 7591، باعتباره الكتاب الأول الذي صدر عام 7391، وقد صدر في سلسلة الإعلام: الملك فؤاد، ومحمد عبده، وتشرشل، والملك فيصل الأول، وشيانج كاي شيك، وطارق بن زياد، وأبومسلم الخراساني، كما صدرت كتب عن قنال السويس، والأزهر، ونهر النيل، وعن الأماكن صدرت كتباً عن تركيا والهند والعراق وايران واليابان، وصدر كتاب »إيماني« للرئيس أحمد حسين، وغاندي لفتحي رضوان، وصور اسلامية لعبدالحميد المشهدي، وكتاب عن صلاح الدين الأيوبي لمصطفي الوكيل، وكنت في السودان لمحمد صبيح، وهذا الكتاب الأخير هو تأكيد وتوطيد علي العلاقة العميقة بين شعبي مصر والسودان، ورغم هذه العلاقة إلا أن العلاقة الثقافية لم تكن عميقة، فجاء هذا الكتاب تلبية لحاجة ماسة له، واستكمالا للفكرة الأساسية التي صدرت من أجلها عشرات الكتب من الدارما يقول الكاتب في مقدمته: (كنت في السودان) أليس من المضحك، أن يظهر في اللغة العربية كتاب لمؤلف معروف أو مجهول يحدث فيه قراءة عن قصة رحلته إلي السودان، في الوقت الذي تزين فيه المكتبة الأفرنجية مؤلفات عن رحلات محفوفة بالمخاطر، محوطة بالألغاز إلي بلاد مثل بلاد والتبت أو أرض الأسكيمو أو.. إلي موسكو!، ويستطرد: (بل أليس مما يزيد في سخرية المتعجلين، أن يظهر كتاب بأي لغة عن رحلة في السودان أن يكتب في صيف عام 6491 في حين أن صمويل بيكر وستانلي كتبا عن رحلاتهما إلي أعالي النيل قبل خمس وسبعين سنة! ويستطرد الكاتب مؤكدا علي الأهمية التي تستدعيها رحلته، ويحض علي الترحال إلي هناك، ويلوم البعض علي عدم الاهتمام بهذا النصف الحيوي والمهم لوادي النيل، حتي لايضيع وتبتلعه العزلة.. واستكمالا أو تأكيدا للسلسلة الاسلامية يأتي كتاب الفاروق عمر، ودائما يغري عمربن الخطاب الكتاب ليكتبوا عنه، ويؤلفوا فيه كتبا، لتبيان العدل الاسلامي القويم، هكذا كتب العقاد ومحمد حسين هيكل وغيرهم، لذلك جاء هذا الكتاب ليكون صرخة مدوية في وجه الظلم، ويلخص صبيح لشكل الحكومة العمرية، وهي تقوم كما يقول علي أربعة أركان، وهم (العدل والحرية الفردية، والمساواة والإخاء، والشوري).. وهو يضرب مثلا في مقدمته عندما استشار عمر المسلمين فيمن يتولي قيادة الجيوش الفاتحة في الشمال، فأشار عليه العامة أن يتولي هو القيادة، وهم كثرة المسلمين، واشار عليه الخاصة - وهم قلة - بأن يكل هذا الأمر إلي من يختار من أمراء الحزب، وأن يبقي هو، وبعد أن ادار عمر الأمر في رأسه قرر أن يبقي ويسند الجيش لغيره من المسلمين، وبذلك يقرر صبيح أن الحكومة العمرية هي حكومة العادل المستبد، ونستطيع أن نقول أن هذا الرأي هو الرأي الذي ساد في تلك الفترة. ورغم أن معظم الإصدارات حاولت بشكل أو بآخر أن تخدم الفكرة الإسلامية، إلا أن كان عرض هذه الفكرة متنوعا، وكان مصحوبا بالحس الشرقي العام، وفي ذلك السياق لم تستطع السلسلة أن تتفادي شخصية مثل شخصية ستالين، الذي أصدرت عنه كتابا تحت عنوان: (ستالين - الدكتاتور الأحمر) وكان العداء للشيوعية في ذلك الوقت، وفي كل وقت علي أشده، وكانت الحكومات تضع خططا لمواجهتها، مثلما تواجه وباء الكوليرا، ولايقل هذا الكتاب مواجهة عن مواجهة الحومات، الذي يعتقد: (إذا كان الشيطان قد باخي في أوروبا وأفرخ ثعبان الشيوعية، فإن الشرق بعد المطرقة، التي تهوي بها علي رأسه، ليستريح علي الأقل من شره ان لم يرح مته الدنيا كلها.. وهكذا نجد كلمة الشرق تبث هنا وهناك في كافة مطوبعات الدار، ولكنه الشرق الاسلامي عموما، هذا قبل ثورة الصين عام 9491 الشيوعية بقيادة ماوتسي تونج.. وجاء كتاب ستالين حقا مدججا بقدر كبير جدا من العداء، ولكن المؤلف يعترف ان سم هذا الثعبان قد طال بعضا من الشباب العرب، فيقول: (بقيت كلمة أخيرة، نوجهها إلي اخواننا، وأبناء عمومتنا شباب بعض البلاد العربية، الذين عرفناهم، وسمعنا عنهم، وأدركنا أن بريق روسيا »السوفياتية« خطف أبصار عدد منهم، وقلب لهم، فراحوا يتحدثون عن الشيوعية في غير فقه عميق، ولاتفكير ناضج،. إذن فالسلسلة كانت تعبر عن اتجاه ايدلوجي محض، ولم تكن هناك الروح الديمقراطية التي اتسمت بها بعض الدور الأخري، ولكن للحق كانت هذه الايدلووجيا في خدمة فكرة معينة، بعيدا عن خدمة السلطان، والنظم القائمة، وان كانت هناك مشتركات في الأفكار، لكن دون تخطيط، ودون مقصد، ودون اتفاق.