كانت الأربعينيات من القرن الماضي مجالاً خصباً وثرياً وثميناً لاستعراض ثقافات عديدة، واتجاهات كثيرة، وتوجهات أيديولوجية واضحة وحادة، ثقافات ساخرة، استطاعت أن تعلن عن نفسها بقوة دون مواربة، كنا خارجين من حرب عالمية وعرة، تصارعت فيها قوي عظمي، ولم تكن بلادنا إلا مناخاً لتجريب ثقافات هذه القوي العظمي، كان عبدالرحمن بدوي يذهب إلي الجامعة مرتدياً رابطة عنق تشبه رابطة عنق هتلر، وداعياً قوياً لأفكاره، ومتشيعاً أشد التشيع للنازية، ومعلياً من شأن أفكاره النيشوية، وبالتالي كان له أتباع ومريدون ومتأثرون، ومن يقرأ وسيم خالد في كتابه »الكفاح السري ضد الإنجليز« والذي قدمه أنور السادات، سيكتشف أثر الفاشية والنازية علي هذا الجيل في ذلك الوقت، وبالتالي الإعلاء من شأن حركات الإرهاب، والتي كانت مصنفة ضمن أجندة الحركة الوطنية المصرية، وكان هناك »الإخوان المسلمين« وعلاقاتهم العديدة بجميع الأطراف، الجيش والملك، ونفذت حركتهم في داخل الجامعة، وكان حسن البنا قبل اغتياله له حضور شبه مقدس بين جماعته، وله أثر شبه سحري في تنظيمه المتغلغل، وتبدي هذا الأثر في مطبوعات الجماعة الفنية والغامضة الواضحة في آن واحد. كان هناك أيضاً الشيوعيون بجميع تحزباتهم واختلافاتهم فكانت البدايات علي أيدي »جماعة الفن والحرية« جورج حنين وأنور كامل وكامل زهيري ورمسيس يونان والأخوين التلمساني وفؤاد كامل وغيرهم.. وأصدروا مجلة »التطور« هذه المجلة التي لعبت دوراً في إيقاظ بعض الأفكار التي يثيرها البعض في أوائل القرن، ثم تطورت حركات الشيوعيين وتنوعت فصدرت مجلات وكتب، كان أبرزها مجلة »الفجر الجديد« التي صدرت لمدة عامين بإشراف ورئاسة تحرير أحمد رشدي صالح، وعاونه رهط من المثقفين الشباب- آنذاك- مثل علي الراعي ونعمان عاشور وأحمد صادق سعد وغيرهم. وبين كل هؤلاء لابد من تيار ثقافي وفكري وسياسي حر، وغير مؤدلچ.. وغير حاد القسمات، ولكنه ينهل من جميع تلك التيارات والثقافات، ولابد من رجل أكثر انفتاحاً يقود هذا التيار، فكان المؤهل للعب هذا الدور هو الكاتب والأديب والصحفي محمد زكي عبدالقادر، الذي أصدر مجلة »الفصول« في يونيو 4491، وجعل من أهدافها »العمل علي نشر الثقافة العامة سعياً لإيجاد رأي عام مستنير، وتوجيهاً للتفكير والنشاط لحل مشاكلنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتأييداً للمبدأ الذي يسود العالم اليوم، وهو تقليص الفروق بين الطبقات وتحقيق العدالة الاجتماعية«، ولم تقتصر الفصول علي إصدار مجلة، بل أصدرت عدداً من الإصدارات السياسية والاقتصادية، لكن- كانوا نجوم الحياة السياسية آنذاك- مثل مريت غالي ووحيد رأفت وزهير جرانة وإبراهيم مدكور، وغيرهم. وبالطبع لا يمكن التعرض للمادة الفنية التي انطوت عليها المجلة التي ظلت تصدر لعدة سنوات، وزادت أعدادها، وتنوعت الأقلام فيها، ولكن الأهم أنها كانت مدرسة وحضانة لعدد من الكتّاب الذين لمعوا بعد ذلك، ولعل مجلة الفصول كانت البداية الأولي لهؤلاء الكتّاب، مثل كتابات عبدالرحمن الشرقاوي وفتحي غانم ومحمود أمين العالم، وغيرهم.
جدير بالذكر أن الكاتب أحمد بهاء الدين وهو في الجامعة كان قد التحق بها، وتوسم فيه زكي عبدالقادر الخير، فأولاه مهمة تحريرها والإشراف عليها، وهو الذي استدعي هؤلاء الكتّاب الشباب، واستكتبهم وكان أحمد بهاء الدين يكتب الشعر آنذاك، وينشر بعض أشعاره في هذه المجلة، ومن أجمل ما كتب قصيدة تحت عنوان: »وللصبر في أسه مصرع« يقول فيها: عزيز علي الحريا أدمع .. يسيل عصيك والطيع وفي القلب- من صبره- حرقة .. وللصبر- في يأسه- مصرع يجالد دهراً عظيم الأذي .. وما عاد في قوسه منزع يعيش بليل طويل المدي .. كأن نهاره لا يطلع وإني كالتبر في منجم .. عليه التراب فما يسطع يداس، فكل جاهل فوقه .. يدب وكم أحمق يرتع وإني لكالنور في كوة .. عليها الستائر ما ترفع فيا قلب رشدك إن الذي .. يُمثله الظن لا ينفع ستحيا وتشفي وتشهد ما .. يميت النفوس وما يوجع ولم تكن المجلة- بالطبع- تنتصر لكتابات الشباب فقط، بل كانت تنطوي علي كتابات في الفن والفلسفة والفكر والسياسة بأقلام أحمد لطفي السيد ومريت غالي وفتحي رضوان ونور الدين طراف وغيرهم، واستطاعت المجلة أن تقوم بتعريف القراء علي كتّاب عالميين مثل سومرست موم، وه.ج ويلز، واندريه موروا وغيرهم.. وبالطبع لم تكن المجلة تنشر مقالات ودراسات وتحقيقات صحفية محايدة، بل كانت أيضاً تقوم بدور المناهضة لأوضاع سياسية فاسدة، واقتصادية متردية، وديمقراطية فاشلة، ففي العدد 64 أبريل 8491 نقرأ مقالاً عنوانه »مُنعت من السفر إلي براغ« للفنانة والناشطة السياسية إنچي أفلاطون، والتي أعيدت من المطار، فتقول في مقالها: »حتي إذا ما بلغت المطار في يوم السفر، ونقلت حقائبي إلي الطائرة، استوقفني بوليس المطار وأبلغني أن لديه أمر من وزارة الداخلية يمنعني من الرحيل وسحب جواز السفر«. ودوما سنجد المجلة تقوم بدور التذكير بالقادة الوطنيين، والأحداث الوطنية الكبري، ولم يقتصر دورها علي القطر المصري فقط، بل امتد أيضاً إلي السودان، فنجد موضوعات تخص وحدة شعبي وادي النيل، وكانت قضية وادي النيل- آنذاك- قضية حيوية، ومن القضايا الموجودة دوماً علي أجندة الحركة الوطنية.
المجلة كانت تنزع ناحية الليبرالية الغربية، ولكن بمذاق مصري خالص، رغم الترجمات العديدة المنبثقة في المجلة، وهذا لأن الليبرالية لم تكن قوية، وكانت ليبرالية هشة، والدليل الأكبر علي هشاشتها أنها لم تستطع المقاومة أمام ضباط يوليو، وازيحوا من المشهد بعنف، وكأن لم يكن لهم أثر، بل عملوا علي التعاون مع النظام الجديد، وهذا ليس عيباً، بل إنه دليل علي أن الليبرالية المصرية لم تكن أصيلة تماماً، ولم تستطع أن تتخلي عن الأثر الأوروبي الواضح في الأداءات السياسية والثقافية والفكرية، ولكن هناك بعض التوجهات والمجهودات التي حاولت الخروج من هذا الأثر، فكانت مجلة الفصول، وربما الرسالة والثقافة، ولكن بأشكال مختلفة، وبدرجات متنوعة.. وهنا كان التأكيد علي التعريف بالدور الوطني لعبدالقادر الحسيني، والفنان مختار، والزعيم سعد زغلول.. ضمن مواد المجلة دوماً.