رئيس ضمان جودة التعليم: الجامعات التكنولوجية ركيزة جديدة فى تنمية المجتمع    إتاحة الاستعلام عن نتيجة امتحان المتقدمين لوظيفة عامل بالأوقاف لعام 2023    قطع المياه عن نجع حمادي.. وشركة المياه توجه رسالة هامة للمواطنين    الحكومة: نرصد ردود فعل المواطنين على رفع سعر الخبز.. ولامسنا تفهما من البعض    «حماس» تصدر بيانًا رسميًا ترد به على خطاب بايدن.. «ننظر بإيجابية»    محامي الشحات: هذه هي الخطوة المقبلة.. ولا صحة لإيقاف اللاعب عن المشاركة مع الأهلي    رونالدو يدخل في نوبة بكاء عقب خسارة كأس الملك| فيديو    أحمد فتوح: تمنيت فوز الاهلي بدوري أبطال أفريقيا من للثأر في السوبر الأفريقي"    هل يصمد نجم برشلونة أمام عروض الدوري السعودي ؟    حسام عبدالمجيد: فرجانى ساسى سبب اسم "ماتيب" وفيريرا الأب الروحى لى    هل الحكم على الشحات في قضية الشيبي ينهي مسيرته الكروية؟.. ناقد رياضي يوضح    محامي الشحات: الاستئناف على الحكم الأسبوع المقبل.. وما يحدث في المستقبل سنفعله أولًا    مصارعة - كيشو غاضبا: لم أحصل على مستحقات الأولمبياد الماضي.. من يرضى بذلك؟    اليوم.. بدء التقديم لرياض الأطفال والصف الأول الابتدائي على مستوى الجمهورية    32 لجنة بكفر الشيخ تستقبل 9 آلاف و948 طالبا وطالبة بالشهادة الثانوية الأزهرية    استمرار الموجة الحارة.. تعرف على درجة الحرارة المتوقعة اليوم السبت    اعرف ترتيب المواد.. جدول امتحانات الشهادة الثانوية الأزهرية    صحة قنا تحذر من تناول سمكة الأرنب السامة    أحمد عبد الوهاب وأحمد غزي يفوزان بجائزة أفضل ممثل مساعد وصاعد عن الحشاشين من إنرجي    دانا حلبي تكشف عن حقيقة زواجها من محمد رجب    الرئيس الأمريكي: إسرائيل تريد ضمان عدم قدرة حماس على تنفيذ أى هجوم آخر    "هالة" تطلب خلع زوجها المدرس: "الكراسة كشفت خيانته مع الجاره"    حدث بالفن| طلاق نيللي كريم وهشام عاشور وبكاء محمود الليثي وحقيقة انفصال وفاء الكيلاني    أبرزهم «إياد نصار وهدى الإتربي».. نجوم الفن يتوافدون على حفل كأس إنرجي للدراما    مراسل القاهرة الإخبارية من خان يونس: الشارع الفلسطينى يراهن على موقف الفصائل    عباس أبو الحسن يرد على رفضه سداد فواتير المستشفى لعلاج مصابة بحادث سيارته    "صحة الإسماعيلية" تختتم دورة تدريبية للتعريف بعلم اقتصاديات الدواء    ثواب عشر ذي الحجة.. صيام وزكاة وأعمال صالحة وأجر من الله    أسعار شرائح الكهرباء 2024.. وموعد وقف العمل بخطة تخفيف الأحمال في مصر    العثور على جثة سائق ببورسعيد    الأمين العام لحلف الناتو: بوتين يهدد فقط    سر تفقد وزير الرى ومحافظ السويس كوبرى السنوسي بعد إزالته    نقيب الإعلاميين: الإعلام المصري شكل فكر ووجدان إمتد تأثيره للبلاد العربية والإفريقية    كيف رفع سفاح التجمع تأثير "الآيس" في أجساد ضحاياه؟    "حجية السنة النبوية" ندوة تثقيفية بنادى النيابة الإدارية    ضبط متهمين اثنين بالتنقيب عن الآثار في سوهاج    «الصحة»: المبادرات الرئاسية قدمت خدماتها ل39 مليون سيدة وفتاة ضمن «100 مليون صحة»    وكيل الصحة بمطروح يتفقد ختام المعسكر الثقافى الرياضى لتلاميذ المدارس    وصايا مهمة من خطيب المسجد النبوي للحجاج والمعتمرين: لا تتبركوا بجدار أو باب ولا منبر ولا محراب    الكنيسة تحتفل بعيد دخول العائلة المقدسة أرض مصر    للحصول على معاش المتوفي.. المفتي: عدم توثيق الأرملة لزواجها الجديد أكل للأموال بالباطل    القاهرة الإخبارية: قوات الاحتلال تقتحم عددا من المدن في الضفة الغربية    «القاهرة الإخبارية»: أصابع الاتهام تشير إلى عرقلة نتنياهو صفقة تبادل المحتجزين    «ديك أو بط أو أرانب».. أحد علماء الأزهر: الأضحية من بهمية الأنعام ولا يمكن أن تكون طيور    الداخلية توجه قافلة مساعدات إنسانية وطبية للأكثر احتياجًا بسوهاج    ارتفاع الطلب على السفر الجوي بنسبة 11% في أبريل    «صحة الشرقية»: رفع درجة الاستعداد القصوى لاستقبال عيد الأضحى    وزير الصحة يستقبل السفير الكوبي لتعزيز سبل التعاون بين البلدين في المجال الصحي    مفتي الجمهورية ينعى والدة وزيرة الثقافة    الأونروا: منع تنفيذ برامج الوكالة الإغاثية يعنى الحكم بالإعدام على الفلسطينيين    الماء والبطاطا.. أبرز الأطعمة التي تساعد على صحة وتقوية النظر    «الهجرة» تعلن توفير صكوك الأضاحي للجاليات المصرية في الخارج    رئيس الوزراء الهنغاري: أوروبا دخلت مرحلة التحضير للحرب مع روسيا    «حق الله في المال» موضوع خطبة الجمعة اليوم    بمناسبة عيد الأضحى.. رئيس جامعة المنوفية يعلن صرف مكافأة 1500 جنيه للعاملين    السيسي من الصين: حريصون على توطين الصناعات والتكنولوجيا وتوفير فرص عمل جديدة    الحوثيون: مقتل 14 في ضربات أمريكية بريطانية على اليمن    أسعار الفراخ اليوم 31 مايو "تاريخية".. وارتفاع قياسي للبانيه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أنا العالم: تداخل بين الواقعية
السحرية والفانتازيا!
نشر في أخبار الأدب يوم 11 - 06 - 2016

مابين فعل الكتابة والحرية، مابين النعناع والياسمين، مابين الإبداع والاقتدار، بين يوسف وريم والعالم من حولهما ينسج "هاني عبد المريد" عالما يتميز بفضاء روائي خاص يتوسل بالعوالم العجائبية، والواقعية السحرية، والفانتازيا، والتقاطات غيمية من الواقع لينشئ كيانا روائيا ممتزجا مميزا، يحمل بصمة إبداعه الخاص المغاير للكتابة العادية المتداولة؛ حيث يرصد الغريب والبيني، النادر استيعابه جليا بهذا العالم؛ لما يكتنفه من غموض وعلاقات خفية لا تلتقطها إلا طاقة فنية تبحث عن الاختلاف، وترتاد عوالم من التجريب الروائي، تسرد الحياة بمنطق البحث عن تجدد رؤيتنا لها، وإضافة رتوش سحرية في تناولنا لهذا الوجود.
أنا والعالم والكتابة:
الرواية حالة إنسانية مركبة، ترويها المشاهد مجتمعة حالة بعثرتها، بما تتضمنه من بعض المشاهد المربكة، والصفحات المدسوسة من الرقيب، وذلك اتساقا مع شخصية العمل "يوسف" الذي شعر بصدع جوهري لحظة وفاة عبد الجليل والده، ومع استفحال شعوره بالوحدة وانعزاله في هذا العالم، يلح طارق صديق والده أن يذهب للدكتور:" شاكر" الطبيب النفسي الذي يشخص حالته بالاضطراب العصبي، و يدعوه للكتابة.
واستجابة للدعوة، الكتابة والشاعرية التي لا تعد هاجس يوسف الأساسي فقط بل هاجسا أرق عائلته كلها فيما قبل، حيث افتقاد العائلة لشاعر، كان أول ما خطه يوسف في الورقة البيضاء "أنا العالم"(1) الجملة التي اختارها الروائي لتكون عنوان النص، ول"أنا العالم" لأول وهلة دلالة علي الوحدة العميقة التي يشعر بها وسط كل من هم حوله بعد وفاة عبد الجليل، يقول يوسف :" فراغ لا شيء سواي، العالم فراغ ممتد أمام عيني إلي مالا نهاية"(2). يستمر الطبيب النفسي يقنع يوسف بأن الكتابة هي ما سوف يقهر مخاوفه، إلي أن يعترف يوسف :".. أنه عندما يسألني أحد لماذا تكتب سأجيب علي الفور، أنني أكتب كي أبدد مخاوفي وشعوري بالوحدة، أكتب حتي لا ينتهي العالم"(3).
فعل الإبداع والكتابة محور أساسي في نص "أنا العالم" ومن أجله يتشكل هذا الكيان رؤية وتقنيات، صهر الخطاب الروائي بعناصره مجتمعه بداية من البناء اللغوي وتماسكه وتعبيره عن اختلاف تكوين النص الحكائي، وطريقة بناء الشخوص بالخطاب وأبعادهم الحقيقية أو الورقية المتخيلة، و قصد فلسفة الحكي علي هذا السياق، وفضاء العمل مكانيا وزمانيا، فمنذ بداية النص يساءل البطل نفسه والعالم: "أتعجب أشد العجب من هؤلاء الكتاب والمفكرين عندما يواجهون سؤالا يتعلق بوجودهم مثل: لماذا تكتب ؟"(4) وبعيدا عن الإجابات المعلبة سابقة التجهيز من قبيل: أكتب لأني لا أستطيع عمل شيء آخر، أو لإخماد طاقة الكذب بداخلي تبدو الكتابة لدي البطل فعل وجود، طاقة تتعلق بحياته ذاتها، تجعله يقاوم الوحدة، ويخلق نماذج بشرية مختلفة، ويتخيل عوالم غير تقليدية فينشر التجدد الذي ينعش الحياة ويجعلها تحتمل، يخلخل التكلس، ويرمي بشرره لحرق الجمود والاعتياد.
يقرن يوسف فعل الكتابة بنبات النعناع وعطره وما يبعثه من انتعاش يتجدد، حتي أنه يعد فعل التجدد هذا ملازما لكيانه روحا وجسدا لدرجة أن النعناع ينبت فوق جسده وصدره، فالإبداع الحقيقي هو ما يبعث الانتعاش الذي يحارب الخمول والكآبة والموت. وكما يعد النعناع "رمزا للكتابة وشعريتها" يشكل وسيلته للحياة بالعالم، لا يبيعه لكن يعيش بكسرة خبز وكوب من النعناع علي حد الكفاف، ويقايضه بكافة احتياجاته الأخري، كما ينبغي لكل مبدع ومثقف لا يتكسب بوجوده، كما أن النعناع بلونه الأخضر رمز للخصوبة والتجدد أي الكتابة والنظر بعمق لهذا العالم.
كما يقترن الياسمين بريم حبيبته، رائحة الحب والانجذاب، الجسد الوافر الجميل، رائحة العشق والقوة والنظر إلي العالم في صوره الجوهرية لا أعراضه، ريم التي تتغافل عن كل ما يبدر من يوسف وينم عن اضطراباته وهواجسه، ريم التي تسعد السعادة.
ويشتبك فعل الكتابة في محاور النص جميعها بفعل الحب، والرغبة في الحياة والمعرفة، فسؤال الكتابة يستدعي بذات يوسف مباشرة سؤال الحب، وكأن الكتابة والحب كيان ووجود متداخل بإدراكه. مباشرة بعد لماذا تكتب؟ يتساءل يوسف: "لماذا أحبك هكذا ريم ؟"، الأكثر أهمية وهو ما يدلل علي هذا الاقتران الحميم بين الكتابة والحب أن التجليات والاحتمالات المختلفة للإجابتين عن سؤالي لماذا تكتب؟ ولماذا أحبك هكذا ريم؟ تستمر مع كل فصول السردية بتنويعاتها الشكلية.
اقترنت الكتابة وتحققها لدي يوسف وريم بفعل الحب، باتحاد الجسد مع الروح أو الوجدان، بفعل العشق والوجود والتواصل، فعندما نشرت قصة يوسف لأول مرة عبّر الروائي عن سعادة يوسف وريم بمشهد من أجمل مشاهد النص، يقول بعد أن قرءاها سويا وبعد أن تجردا من ملابسهما:".. أكتب تحت قفاها "تقربا للصحراء"، ثم توجهت للكتف الأيمن لأنقش من الجريدة القصة كلها، ظللت لما يقرب من ساعة محنيا فوق جسدها، وكأني أقوم بفعل مقدس، لا أعرف لماذا بدت هكذا في غاية الإثارة، وقفت في نهاية الحجرة نظرت لجسدها عن بعد، الحروف السوداء بدت مجسمة عليها، وكأنها أحرف بارزة، علي جسد مضئ، عند أعلي كاحلها الأيسر وقعت باسمي..، سارت أمامي، شعرت أن جسدها يبدو هكذا طبيعيا، يبدو أكثر إقناعا،شعرت بأنه صار أكثر اكتمالا بنقش حروفي عليها، كانت تسير عارية، وكان جسدها يرتج، فأشعر وكأن شخصيات القصة تتقافز فوق جلدها مبتهجة"(5).
للجسد مفهوم متسع لدي ريم حيث تقول إنه عنوان الروح، ولا تأبه بما قاله يوسف لها ذات مرة:".. قلت لها إنني لا يمكن أن أحبها، وأنها بالنسبة لي مجرد جسد، فقط جسد يعجبني، ويجعلني أذوب في تفاصيله، وجدتها تنهل من شفتي هذه المرة، تنهل بشوق يصل حد القسوة، ثم تنظر في عيني بعينين لم أجد مثل صفائهما من قبل، قالت إن الجسد عنوان الروح..ومشت"(6).
ولا تعد هذه الكنايات والرموز "النعناع والحب والكتابة" التي يحملها المشهد رؤية رومانسية تنسحب من الحياة وقضاياها قدر ما تشير وترمز لبعض المعاني والصور بطريقة إيحائية فنية، نهج يأنف من المباشرة بلغة مستهلكة مبذولة طالما أشارت لهذه القيم والمعاني. السردية بتقنياتها المختلفة تتوسل بالطرق الرمزية والتصويرية المشهدية والكنائية؛ لتهب المتلقي نكهة جديدة للحياة وتجسد المعاني المجردة غير المادية بطريقة إيحائية تلعب علي الحواس والروح معا، ربما بدت منعشة وحيوية لتستفز طاقات المتلقي في مشاركة الروائي لفعل الإبداع.
المعمار النفسي العجائبي للنص:
يقسم الكاتب الرواية إلي: النص السردي الأم "أنا العالم"، نص القصة القصيرة (تقربا للصحراء) (7) ثلاثة مشاهد مربكة (8)، ست مرات لكتابة "صفحات مدسوسة من الرقيب"(9)، كما أن هناك مقطعا من نص مسرحي (10) يؤديه عبد الجليل في عرض مونودرامي حول خوف الحاكم الطاغية من كل ما يحيط به، ومن ثم لا يستطيع النوم، كما أن هناك نص رسالة بالسردية يرسلها يوسف لريم(11).
ويتوافر نوع من الابتكار والتجريب في هذا التشكيل؛ لرغبة الروائي في لعبة مبتكرة بالسرد، واتساقا مع طبيعة الاضطراب النفسي الذي يعاني منه يوسف السارد للنص، و لدفع الروائي أيضا لبعض الأصوات النسبية " المتمثلة في صوت الرقيب والآخرين"، للتعبير عن منطق مغاير لصوت السارد الوحيد الذاتي للغاية في ثنايا فقرات السردية، ولتنويع عالم النص الذي يبدو نفسيا عجائبيا.
كما تهب "المشاهد المربكة" أبعادا وأفكارا رمزية جديدة للنص تدلل علي قدر من العنف الذي يحكم العلاقات العادية واليومية بالمجتمع، وكثير من الاضطراب الذي لا تعاني منه شخصية العمل فقط، بل هذا العنف الذي أصبح سمة عامة في المجتمع بأكمله، فلماذا الضرب بالسيف أو الأيدي أوالتدافع أوالبصق علي الجميع؟؟ كلها مشاهد لا تبرير للعنف بها.
ويتخير الروائي إعادة إحياء الموروثات الأسطورية بصور تعتمد علي الرمز والإيحاء، وتهب تعدد التأويل، كما يخلق العوالم التي تغذي تلك الأساطير الموروثة، أو التي يصنعها
هو بشطحات فنتازية تبرزها بصورة فنية وتشكيلات جديدة، فتدفع بدماء الاختلاف بها أيضا وتجعلها أكثر حيوية في الذائقة.
فيقوم الروائي بنقض ثباتية الأشكال الروائية التقليدية من مقدمة وذروة وحبكة وتسلسل زمني وغيرها، بل يخلّق نوعا روائيا مغايرا، يقوم علي عدة عناصر وركائز بنائية تنتمي للعبة التجريب، لا تبدو هذه الركائز مصفحة أو متماسكة التشييد، بل يتعمد أن تصبح رخوة ومتشكلة وغائمة وبينية التكوينات لطبيعتها العجائبية الأسطورية تارة، وتارة أخري للحالة الحلمية السريالية المضطربة التي تسيطر علي يوسف سارد العمل وبطله، وهو ما يدفع بالشكل والمحتوي إلي التميز، ففي كل الفصول المعنونة بالأرقام هناك معالجة أو طرح لإحد الموروثات الأسطورية العجائبية أو التي يكتنفها غموض حالة السحر.
وإمعانا في خصوصية السردية ورغبة في جعلها مختلفة يقوم الروائي بتحديث نسبي للأساطير بدفع بعض العناصر الفانتستيك بداخل هذه الموروثات؛ لتأخذ مذاقها الخليط بين الموروث الأسطوري أو ما نطلق عليه الواقعية السحرية، والفانتازيا بتجاور الفكرة المتخيلة وتداخلها مع الإرث السحري.
فكأن الكاتب يعيد دفع الحيوية للموروث السحري ويجدله بالفنتازي، ومن هنا يغازل الوعي الجمعي الذي لم تزل موروثاته تشكل بنسبة كبيرة كيفية وطريقة إدراكه للحياة، و من ثم خصوصية وجدانه. وفي الوقت ذاته يضف إليها رؤية متجددة تعلو علي الواقعي دون أن تغادره بصورة جذرية، بل توجد ببعض المشاهد إشارات باطنية تلمس الواقع وقضايانا الذاتية والمجتمعية، والآلام المخزونة باللاوعي بغموض محبب وفني.
تتزوج "غالية" والدة "يوسف" ب"قادر" بعد وفاة زوجها "عبد الجليل" والد يوسف وأخوته المشوهين جميعهم، وتذكر أمامه أمنيتها منذ صغرها باقتناء قط برتقالي اللون، وينفذ لها قادر تلك الأمنية، يحكي يوسف موضحا قسوة زواجها علي نفسه، وحتمية هذا الزواج إما لرغبتها، أو لتحمل والدته عن كاهله عبء أخوته يقول :" هل كانت تعلم غالية أهمية القطط عند أجدادنا الفراعنة، إن القط كان رمزا للوداعة (باستيت)، وعند الغضب يتحول للشراسة (سخمت)، هل عشقها للقطط مجرد مصادفة، أم أنها كانت تعلم أن هذا التضاد مناسب جدا لوضعها، ولصورتها، التي ظلت تكتمل داخلي مع الوقت، جزءا جزءا حسب كل موقف، وكأنني أعيد تجميع صورة ممزقة"(12). يقرن يوسف بين القطط وطبيعتها، و طبيعة شخصية غالية وما تركته لديه من تناقض واضح بين الحب والوداعة وحنينه إليها بعد انتقالها إلي البلدة الصغيرة، وعلاقتها حتي بأنفاس أبيه بعد وفاته، ثم القسوة والغدر الذي شعر بهما رغما عنه بعد زواجها، ويعد هذا تماسا صنعه الروائي للجانب الأسطوري مع الواقعي، ثم تتمادي خيالات يوسف وأوهامه ويخلق حاله متخيلة، فيصور إقامة غالية الدائمة مع القطط في العشة ببيت قادر، يقول: "عاشت بين قططها، حتي صارت تتصارع معهم علي الطعام، وصارت تعرف لغتهم، بل إن قادر أنقذها أكثر من مرة من تحت قط ثمين، ظل يطاردها مهتاجا. أحد أقاربنا قابلني مصادفة، أقسم وهو يحني رأسه، أنه حتي العلاقة الحميمة يمارسها قادر معها داخل العشة، بعدما يمشي كقط علي يديه وركبتيه، منتفخا، معتزا بنفسه، يتوقف فجأة، ينظر أمامه بشراسة، يمد عنقه ثم: "ميو.. ميووو" حينها تموء القطط جميعها، بينما ينزوي القط العاشق لغالية، ليشاهدها مستسلما في انكسار، وهي ترضخ تحت قادر كما يليق بقطة ناعمة" (13). هذا التداخل الذي يعبر به يوسف عن الواقعي بالأسطورة القديمة أو ما نسميه بالواقعية السحرية ثم الإضافة بالبعد الفنتازي في السردية هو ما يهبها جانبا كبيرا من التمايز الذي أشير إليه في تضافر التيارين معا.
وتختلف الواقعية السحرية عن الفانتازيا في أنها تقوم بالأساس علي الموروثات الثقافية والاجتماعية، إنها بحث عما هو عجائبي وغرائبي داخل الواقع نفسه، فنبوءات العرافات والمتصوفة الذين يسيرون علي الماء، والطيبون الذين يطيرون في السماء، والتوابيت التي تهرول إلي القبر، وفتح المندل، وقراءة الفنجان، كلها من خصائص الثقافة العربية التي تُنسب، في حال استخدامها في الأدب إلي تيار الواقعية السحرية، لذا يندرج المحور الخاص بحكايات جدته في إطار هذا التيار. حيث المزج بين الواقع المادي والميتافيزيقي ويعد المشهد الخاص بوفاة جدته ورفضها الدفن وعودتها إلي الخشبة مرات بعد إنزالها المدفن لأنها كانت قد أوصت ابنها أن يدفنها بجوار البحر من المشاهد المميزة بالرواية والتي تعبر عن هذا التيار في لغة وتقنيات مجدولة بعناية يحكي يوسف عن أبيه:".. الواقفون لم يعلموا شيئا عن وصيتها، لم يعلن عبد الجليل ذلك لأحد، هم فقد وجدوه يقترب من رأسها، ينحني عليها ويقبلها، ظل يهمس لها ببعض الكلمات، وكأنه يرجوها ألا تفضحه، وأن تسامحه، وتقدر قلة حيلته، وربما أزعجها عجزه، وشعوره بالخزي أمامها، ربما لم تحب أن تراه منكسرا بهذا الشكل، ما رآه الناس أن جثمانها تواري، لم يعد موجودا أمامهم، وأغلق القبر. هل دخلت قبرها كافية خيرها شرها، هل تصرفت هي ودست جثمانها في مكان ما بجوار البحر، لا أحد يعرف،.. ولكن ما حصل أننا صرنا منذ ذلك اليوم كلما مررنا بقبر الجدة، نسمع بوضوح صوت وشيش البحر، وتمتلئ صدورنا برائحة اليود." (14)، كأنها هي من استقدمت البحر إليها..
كما يتضمن السرد اللعب علي الأحلام التي تنتمي أيضاً إلي نفس التيار.
وتتشكل السردية عبر بعض الفقرات والمشاهد التي تعتمد في بنائها علي الفانتازيا، وهي كلمة مشتقة من اللاتينية واليونانية وتعني "القدرة علي خلق الصور"، والخلق يعني إبداعها وليس إعادة إنتاجها.. بهذا المعني يمكن أن نفهم القطيعة بين الفانتازيا والواقعية. لكن هذه القطيعة لا تعني أن الأدب الفانتازي لا يمكن إحالته إلي الواقع، بل يمكن ذلك.. لأنه في حقيقته إعادة رؤية للواقع، وإعادة تفسير.
يقول يوسف في تفسيره لطبيعة عائلته التي تعتمد علي الأسطورة والمجاز ولغة التعامل بين أفرادها:" خاصة وأن عائلتنا يحكمها العديد من الأساطير، التي بالطبع لم نكن نتعامل معها بوصفها أساطير، بل هي حقائق مؤكدة، خاصة لدي الأجيال السابقة، هذه الأساطير دوما ما تداوي جروحنا، وتسد نواقصنا وعيوبنا، بل وتنظم العلاقة بيننا وبين الأشياء، وبيننا وبين بعضنا البعض."(15)وتلك هي فلسفة الأساطير التي تكمل رؤية يوسف الكاتب والإنسان للحياة، ويشير إليها الروائي في القص متعمدا.
هنا يجب أن أشير إلي أن فكرة الثباتية والقاعدية في الفن فكرة أصولية، لا تتسق مع طبيعة الفن وفلسفته العميقة، لذا أري أن التجدد والبحث عن التحديث المستمر طابع جوهري في الإبداع؛ لأنه نتيجة لتفاعل جدلي قائم في حالة من الحيوية والديناميكية الدائمة بين الفنان والطبيعة بموجوداتها، والسلطة، و الأوضاع الاقتصادية، والثقافية.
هذا القص ينقل الحكي من الواقعي بصراعاته التي نعرف أطرافها إلي مشاهد فنية تتضمن قوي خارج حدود العقل، بل تتسم بالعجائبية، لا نعرف لها بداية وهل هناك تطور لحكاية ما، أو كيف ستنتهي؟ كلها عوالم تشكيلية تطرح للعقل والوجدان البشري منظورا أكثر اتساعا بالحياة.
هناك نهج سردي لافت للنظر يوجده الروائي بهذا النص كأن يرمي باسم أحد الشخوص في السرد في تعليق أو إشارة ويترك المتلقي لا يعرف عنه شيئا، حتي أنك تعاود الصفحات لتتأكد أنك تتابع جيدا، فتتأكد أنه لم يرد شيء من قبل، ثم تكمل القراءة لتجد أنه قد وصفه لاحقا، ووضعه في إطار الحكاية والسردية متأخرا كما فعل مع طارق المعالج النفسي(16)، وكما فعل أيضا مع ريم في أول الصفحات(17)، ونتساءل لماذا ؟ فأعود أذكركم أننا نقذف بهذا العالم علي هذا النحو، نلقي بالوجود ثم تبدأ الحكايات.
كما أن بناء النص يتشكل عبر استدعاءات ومواقف تشبه التداعي الحر في العلاج النفسي، يكتبها يوسف تحقيقا لرغبة الطبيب المعالج دون ترتيب ذهني واضح؛ لذا هناك لا نسقية القفزات في الحكي، والمشاهد المربكة التي تستدعيها ذاكرة يوسف وتعبر عن همومه ومخاوفه.
و كان من الطبيعي أن يكون السرد بضمير المتكلم اتساقا مع هذا العالم الذي يقصه البطل حول نفسه، فنصه بالأساس معنون ب "أنا العالم " فلا أحد، ولا ضمير آخر غيبي يستطيع أن يلتقط هذه الروح الفردية، وذاتية الرؤية التي ترصد هذه الغرائبيات، وتكمل حيواتها بخلق تخيلي مفارق لمنطق الأشياء بالواقع، ثم تلتقط تلك الاشياء والصفات النفسية الدفينة لذاتها، وتتحسس خصوصية الشخصيات الورقية التي اصطنعتها، ومن ثم خلقت بها هذه العوالم العجائبية بكل اختلافاتها.
ولاستخدام الضمائر بالسرد طبيعة خاصة فالكاتب يبدأ القص بفقرة ثم لأنه يريد أن يربط هذا الحكي باستدعاء موقف أو قدرة خاصة من قدرات جدته، نجد لعبة بالضمائر يبدأها بضمير الغائبة، ليحكي عن الجارة، ثم عن قراءات جدته علي الغصن، ثم يعود للجارة والضمير العائد عليها، ثم يعود إلي ذاته وحكايته عن ريم وحبه لها. يقول :" قدمها كانت بيضاء جميلة، أصابعها مستوية بلا كالو وبلا عين سمكة.. يومها أتت الجدة بالغصن الأخضر، ظلت تقرأ عليه ما بدا لي كهمهمات لم أتبينها،.. تخيلت لو أنا وريم في مثل وضعهما الأن.."(18).
يبدو رسم المشاهد وتجسيدها، وطبيعة الاضطراب النفسي، وطريقة التداعي، محركا ومؤثرا فاعلا في كل شبكة الضمائر بالنص.
المكان الرخو المتشكّل بأنا العالم:
ينقسم المكان بالرواية إلي بلدة ومدينة وتتبدي العلاقة بينهما من خلال الجد، جد يوسف الذي مات وهو مؤرق بأن العائلة لم تنجب شاعرا، رغم أنهم يستخدمون المجاز كثيرا(58)، بعد موت الجد أصبح يوسف وريثه في مد الصلات مع البلدة البعيدة وأهلها.
يقول يوسف:"بلدتنا صغيرة، وحيدة كنقطة علي أطراف العالم، مظلمة، موحشة، كمكان تسكنه الأشباح.. بلدتنا تطرد معظم أبنائها بمجرد أن يمتلكوا القدرة علي الفرار، لتبقي مكانا للعجائز المعاقين، تحتفظ فقط بعادات وتقاليد صارمة، تعمل مكان القوانين، لتبدو أيضا كمكان خرب يهجره الناس وتسكنه العادات البالية، عدد الأشجار والنخيل قليل، القطط والكلاب والماشية في تناقص مستمر.. قريتنا يلفها الظلام والخفافيش والملل."(53).
يري قادر عم يوسف:" أن الملل ليس لقلة العباد والدواب والأخبار، الملل يخرج من داخل الناس والأشياء بالبلدة، الملل يسكن روح المكان "(54).
يعد بيت جد يوسف في المدينة عالمه وموطن نعناعه، لكنه كشأن كل ما بالنص خاضع للتحولات، التغيرات التي تنتابه نتيجه لفقد البشر وتوالي الأحداث لا في كينونته ذاتها، يقول يوسف: "بيت جدي تتغير ملامحه من فترة لأخري، ملامحه لا تعني الملامح الشكلية فهو لم يتغير شكلا منذ وعيت علي الدنيا، لكنني أقصد، تغير الطعم والرائحة، تغير شعورك بالحوائط والممرات كلما رحل أحد، يبدو لي البيت كأنه يفقد شيئا، أو كأنه يدخل هو الآخر مرحلة جديدة من وجوده"(55). التغيرات التي تلحق بالمكان هي تغيرات نفسية ولذا تبدو رخوة متغيرة.
لا يمكن تحديد زمن الرواية بالضبط رغم أن الحكي في الزمن الحاضر، لكن النص كله يتشكل عبر استدعاءات يدونها يوسف تلبية لرغبة طبيبه المعالج؛ لذا هناك ذبذبات زمنية تتراوح بين الحاضر والماضي بمستويات مختلفة، كما أن الفقرات الخاصة بالرواية عن جدته، ووصف مماراساتها، وطبيعة شخصها، يجعلنا نشعر أننا في مطلق الزمن الماضي والحاضر والقادم إلي مالانهاية، وهو ما يرسخ للجانب الميتافيزيقي بهذا النص.
هل من الطبيعي أن تظل الدراسات النقدية التحليلية في الثقافة العربية صامتة تجاه هذه الأشكال البنائية وما خلفها من رؤية فكرية وفلسفية للفن، وطبيعته، ودوره بالحياة، أم أنه يجب الإشارة لهذه الآليات وبحثها فنيا، ومواجهة الرفض النابع من عدم اعتياد الذوق العام لهذه الأعمال والنصوص، أو للاستسهال الذي تلجأ له الكثير من الأقلام النقدية؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.