سعر الدولار اليوم يقفز عالميًا بعد الهجوم الإيراني الجديد (قائمة أسعاره الجديدة)    أسعار الخضروات والأسماك والدواجن اليوم 16 يونيو بسوق العبور للجملة    بعد عمله اليومى.. محافظ قنا يتجول بدراجة فى شوارع المحافظة    أسعار الحديد والأسمنت اليوم الاثنين 16-6-2025.. هبوط كبير تجاوز 900 جنيه    رئيس جهاز حماية المستهلك يلتقي وزير الطيران المدني لبحث سُبل التعاون بين الجانبين    إعلام عبري: مقتل 4 إسرائيليين جراء إصابة مباشرة بصاروخ إيراني في بيتح تكفا    وصول بعثة الأهلى لفندق الإقامة فى نيوجيرسى.. صور    ليس تريزيجيه.. ميدو يحمل هذا اللاعب مسؤولية إهدار ركلة جزاء الأهلي ضد إنتر ميامي    وزير الثقافة يشهد العرض المسرحي «كارمن» بمسرح الطليعة ويشيد بصناعه | بالصور    منتخب السعودية يستهل مشواره في الكأس الذهبية بالفوز على هاييتي بهدف    ميدو يتحدث عن أمنيته ل الأهلي في كأس العالم.. ويوجه رسالة بشأن زيزو (فيديو)    مدرب بالميراس: مباراة بورتو ستساعدنا على التحضير لمواجهة الأهلي    قوات الحرس الثورى الإيرانى تُسقط 3 طائرات إسرائيلية فى زنجان وسنندج    ترامب: بوتين مستعد للوساطة.. واتفقنا على إنهاء التصعيد في الشرق الأوسط    الضربة الاستباقية الإسرائيلية ضد إيران بين الفشل والنجاح    عادل عقل: تعادل بالميراس وبورتو يشعل مجموعة الأهلى.. وفوز كبير للبايرن بمونديال الأندية    وسائل إعلام إسرائيلية: عدة مواقع في تل أبيب تعرضت لدمار كبير    إيران تشن أوسع هجوم صاروخي على إسرائيل حتى الآن    أحمد السقا يرد على تهنئة نجله بعيد الأب.. ماذا قال؟    ارتفاع قتلى الهجوم الإيراني على إسرائيل إلى 16 قتيلا    3 أيام متواصلة.. موعد إجازة رأس السنة الهجرية للموظفين والبنوك والمدارس (تفاصيل)    مراجعة اللغة الفرنسية الصف الثالث الثانوي 2025 الجزء الثاني «PDF»    انكسار حدة الموجة شديدة الحرارة.. الأرصاد تعلن مفاجأة بشأن طقس الساعات المقبلة    فيديو.. الأمن الإيراني يطارد شاحنة تابعة للموساد    مجموعة الأهلي.. نتيجة مباراة بالميراس وبورتو في كأس العالم للأندية    نجوى كرم تطلق ألبوم «حالة طوارئ» وسط تفاعل واسع وجمهور مترقب    بعد تعرضها لوعكة صحية.. كريم الحسيني يطلب الدعاء لزوجته    أحمد سعد يشعل حفل الجامعة الأمريكية، ويحيي الأوائل    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. الأثنين 16 يونيو 2025    إمام عاشور: أشكر الخطيب.. ما فعله ليس غريبا على الأهلي    وفاة تلميذ متأثرًا بإصابته بلدغة ثعبان في قنا    صرف الخبز البلدي المدعم للمصطافين في عدد من المحافظات    حريق داخل مدينة البعوث الإسلامية بالدراسة    مصرع طفلتين في حريق بمنزل أسرتهما بالزقازيق    ضبط موظف تحرش براقصة أرجنتينية في العجوزة والأمن يفحص    تنسيق الجامعات 2025.. تفاصيل الدراسة في فارم دي صيدلة إكلينيكية حلوان    شركة مياه الشرب بكفر الشيخ تُصلح كسرين في خط مياه الشرب    ختام فعاليات اليوم الأول من برنامج "المرأة تقود" بكفر الشيخ    بى إس جى ضد أتلتيكو مدريد.. إنريكى: نسير على الطريق الصحيح    ليلى عز العرب: كل عائلتى وأصحابهم واللى بعرفهم أشادوا بحلقات "نوستالجيا"    لا تسمح لطرف خارجي بالتأثير عليك سلبًا.. توقعات برج الجدي اليوم 16 يونيو    حدث بالفن | وفاة نجل صلاح الشرنوبي وموقف محرج ل باسكال مشعلاني والفنانين في مباراة الأهلي    رصاص في قلب الليل.. أسرار مأمورية أمنية تحولت لمعركة في أطفيح    أمين الفتوى: الله يغفر الذنوب شرط الاخلاص في التوبة وعدم الشرك    هل الزيادة في البيع بالتقسيط ربا؟.. أمين الفتوى يرد (فيديو)    عانى من أضرار صحية وتسبب في تغيير سياسة «جينيس».. قصة مراهق ظل 11 يوما دون نوم    سبب رئيسي في آلام الظهر والرقبة.. أبرز علامات الانزلاق الغضروفي    لدغة نحلة تُنهي حياة ملياردير هندي خلال مباراة "بولو"    صحة الفيوم تعلن إجراء 4،441 جلسة غسيل كلوي خلال أيام عيد الأضحى المبارك    الثلاثاء.. تشييع جثمان شقيق الفنانة لطيفة    عميدة إعلام عين شمس: النماذج العربية الداعمة لتطوير التعليم تجارب ملهمة    "نقل النواب" تناقش طلبات إحاطة بشأن تأخر مشروعات بالمحافظات    3 طرق شهيرة لإعداد صوص الشيكولاتة في المنزل    وزير الشئون النيابية يحضر جلسة النواب بشأن قانون تنظيم بعض الأحكام المتعلقة بملكية الدولة في الشركات المملوكة لها    بوستات تهنئة برأس السنة الهجرية للفيس بوك    تنسيقية شباب الأحزاب تحتفل بمرور 7 سنوات على تأسيسها.. وتؤكد: مستمرين كركيزة سياسية في الجمهورية الجديدة    جبل القلالي يحتفل بتجليس الأنبا باخوميوس أسقفًا ورئيسًا للدير (صور)    بمناسبة العام الهجري الجديد 1447.. عبارات تعليمية وإيمانية بسيطة للأطفال    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«صانع المفاتيح»
سارق نار الفانتازيا الذهنية
نشر في أخبار الأدب يوم 07 - 07 - 2012

من رؤية فنية واضحة ومفتوحة بوسع الآفاق، تنطلق رواية "صانع المفاتيح" للمبدع أحمد عبد اللطيف، والحاصلة حديثاً علي جائزة الدولة التشجيعية لعام 2012. مع هذا العمل، يمكن أن نحلّق في عوالم مفارقة، حيوات أوجدتها "الفانتازيا الذهنية" المعنية بحلم الممكن لا الكائن، والقادرة علي دمج العلائق بين الواقعي واللاواقعي، بين الحقيقة والحلم، عوالم تخلخل الحدود وتجعلها في حالة من الاندماج المنسجم، ربما نشعر بالغرابة، لكن المؤكد أنه سيتملكنا الشغف، عالم من الدهشة يصنعه تقديم الأفكار المتمردة في تقنيات شكلية مميزة.
يعتد عبد اللطيف بمفهوم "الخلق الفني"، الخلق الذي يلامس الواقع ليسرق ناره، كما تقول الأسطورة اليونانية، حيث يأخذ النور والوهج ثم يرتفع بهما إلي السماء. يبرع في هدم المتحفي ليعيد صياغة عناصره وتركيبها علي نسق آخر، مستعيناً بملكات خيال منطلقة، فتتخلق عوالم مغايرة، قادرة علي خلق الصور، وهو ما تعنيه الفانتازيا في اللاتينية، حيث يتجلي الخلق إبداعاً وليس إعادة إنتاج، ولا يعني هذا قطيعة مع الواقع بل طرح إبداعي يعيد رؤية الواقع ويعيد تفسيره. هكذا نري "صانع المفاتيح" رؤيةً وتشكيلاً فعل مواكبة ومجاوزة وسبق، لا اقتفاء نهج وضرورة المرور بمراحل فكرية حتمية خاصة في ظل هذه الثقافة الكونية المتسارعة.
انطلاقاً من ثقافة متسعة ودراية راسخة بالموروث الحكائي العربي الذي اعتمد علي منطق الفانتازيا، ودراساته للغة الإسبانية وأدب أمريكا اللاتينية، وترجمة الكثير من الأعمال الإبداعية والفكرية لكبار الكتاب، تشكلت لدي الكاتب رؤية فنية خاصة للإبداع، لا متأثراً أو مقلداً بل مبدعاً مبتكراً، مغموساً حتي النخاع في العناصر الخاصة لثقافة ومعطيات مجتمعه المصري، خلقت هذه الإطلالات الواعية المثقفة ذهنية خيالية تجمع جرأة الأفكار وتناسبها مع الواقع الثقافي الخاص.
يحتفي الكاتب في "صانع المفاتيح" بالجوانب الميتافيزيقية وعوالم التصوف في الجانب المعرفي، ويبصر بهما مناطق إضاءات فنية تبعده عن مركزية العقل البشري أو منطقه الصارم بمسافة تتيح له أن يغازله بتشكيلات فنية ومنطق معرفي آخر، يتتابع جيئة وذهاباً بين الخيال والعقل، فعل مراوحة ومزاوجة واشتباك وقفز، وكلها رؤي وتقنيات تصنع عوالم من الجدل الثري، ويقع نص "صانع المفاتيح" في محيط تعريف "الفانتازيا الذهنية"، أي القدرة علي تجلية تقاطع الواقع بالخيال. كما يرتكز علي الثقافة الشعبية التي تحتفي بالأحلام وتفسيرها ونبوءات العرافات ويمتح من الموروثات الدينية والأسطورية والملحمية، وكلها آليات تشكل بامتياز "تيار الواقعية السحرية" في الأدب. ويؤلف من المعطيات السابقة مادة فنية ثرية تشكّلت بتنوع ملحوظ في "صانع المفاتيح" وعمله الأحدث"عالم المندل" القائم في الأساس علي الحلم والمندل وقراءة الكف، رغم أن كلاً منهما له عالمه شديد الخصوصية.
يعتمد الروائي علي فكرة فانتازية وليدة التجاوز، فصانع المفاتيح الذي سأم وضاق بكل مظاهر الحياة التي شوهت قريته لاستشراء الفساد فيها، يصنع مفتاحاً يغلق به سمع الإنسان، ويتطور الأمر وتصبح هناك مفاتيح تغلق البصر واللسان، لم يرتض هو أن يصنعها، لكن صبيه وفّرها لأهالي القرية فأصبحت قرية أقرب إلي الموتي. يوظف من أجل تنمية هذه الفكرة الموروثات الثقافية المتنوعة بما يتسق مع العالم الروائي، ويتكئ علي الخيال الذي يقع علي الواقع، يسائله ويضعه تحت عدسات ذات أبعاد مبتكرة، تخلق صوراً جديدة للعالم، تفسره تحت معطيات وأحداث وأفكار غير ما عهدها الإنسان. اللافت للنظر أن بمقدور الروائي صناعة عجينة إبداعية روائية ثقافية متعددة العناصر، واشتغالها بعناية فائقة، مازجاً بين عناصرها دون أن يشعر قارئه أن هناك انفصالاً ما بين الفكرة الفانتازية والعالم الواقعي الذي تتعاطي معه ويوفر لتشكيله النصي خبرات تكنيكية وآليات تكوين علي نحو مميز. هذه البنية الفانتازية تحوي جانباً متخيلاً يأخذ خيطاً عجائبياً بجانب الخيوط والمحكيات الأخري الواقعية أو الاجتماعية التاريخية، كما أنها ليست بنية تناصية. يضفرها المبدع مع محاور نصه، فلا يظهر الفصل بين فوق الطبيعي والطبيعي، بين الغرائبي الخارق وقوانين العقل في بناء العوالم الحكائية والدلالية والمعرفية. فالواقعي والمتخيل، المادي والروحي، الألفة والغرابة، الطبيعي والشاذ، الزهد والطمع، اليأس والتمرد، والثورة والرضوخ، الموروث والمتغير، تتفاعل جميعها فيما بينها وتتداخل مشيدة عالماً متكاملاً يحمل أسئلة وجودية أزلية، ورفضاً واعتراضاً علي أوضاع مجتمعية مستعيناً ببنية الفانتازية الرمزية.
تتلخص محاور العمل الرئيسية في ضيق صانع المفاتيح بكل ما يسمع من انحرافات المجتمع، يصنع المفاتيح التي تغلق الحواس، يعتريه الشعور بالراحة نسبياً هو ومن استخدم المفاتيح من أهل القرية، يتأمل الخلق والوجود، ثم يبني مدرسة للأطفال في نظرة استشرافية للمستقبل، يثور الشباب علي قرية لا تسمع ولا تري ولا تتكلم، تهيمن القوي المسيطرة علي الأمر ويسجن صانع المفاتيح. يتداخل هذا المحور المتخيل بالعمل مع محاور النص الأخري وأحداثه وشخوصه التي تشبه أو توازي ما يمكن أن نراه بالواقع، وتعد هذه المحاور المضفورة مع الفانتازي تناسُل مولودات نصية وحكائية وتصورات وأحداث، وتوليف عناصر مع أخري، ومن هنا يتجلي الدمج التام بين الفانتازي والواقعي في النص وهو ما يحقق ما أطلق عليه "الفانتازيا الذهنية"، فالنص لا يعتمد علي بنية منفصلة استهوت المبدع، لكنه يعتمد علي مفهوم خاص للفن وزوايا جديدة لتناوله.
يطرح عبد اللطيف في "صانع المفاتيح" وكذلك في"عالم المندل" سؤالاً إشكالياً: هل الفانتازيا لعبة فنية، تجريب يمارسه الفنان ويتكئ فيه علي الغرائبية لخلق عالم مدهش؟ أم أن الفانتازيا رؤية فنية وتقنيات شكلية لا تنفصل عن أزمات الإنسان والكشف لمناطق الغيبوبة التي وقعت فيها الحضارات البشرية تحت الأساطير والنصوص التي أخذت صفة التقديس؟ أتصور أنها رؤية فنية وإبداعية خلقت آفاقها المتسعة، وكان حضورها أكثر زخماً بعد انهيار الأنساق الفلسفية المتسقة، وتقوض التيارات الأدبية ذات الملامح. في ظني أن عبد اللطيف يقدمها كنهج إبداعي يشير إلي أزمة القيم العميقة ومقولاتها التي صارت تحت طائلة التفكيك اتجاهاً يعوّل علي الثقافاتالخاصة بموروثاتها الفلكلورية وروحانياتها المميزة. الفانتازيا في الرواية الجديدة لا تحكي العالم وإنما تناوشه، وتعريه، وتختزله، وتدمر التصورات الذاتية عن العلائق والأشياء والبشر، لتفتح عوالماً بديلة يتحاور فيها الخيال والعقل والواقع، إن صح أن هناك واقعاً، خارج ذواتنا وعقولنا ووجداننا، وهو ما تحقق بوضوح في "صانع المفاتيح".
تجلت الفانتازيا وتنوعت معالجاتها في أدب أمريكا اللاتينية ودارت حول تكوين الديكتاتور وكشف ممارساته، عبرت عن الطغيان العسكري، عرّت أوضاع سياسية واجتماعية طالت الشعوب قهراً بلا رحمة أو هوادة، ومن خلالها أوجد ماركيز وفوينتس ويوسا وساراماجو عوالماً تكشف هذا الواقع الرديء، وبعثت توقاً إلي إمكانات أخري ومعطيات أكثر تحرراً. وفي "صانع المفاتيح" كان الفساد والانحدار الأخلاقي والقيمي محركين استدعيا فانتازيا النص، وفي "عالم المندل" كان القهر الاجتماعي وتحكم الخرافة والشعوذة في مقدرات المجتمع والأفراد هما ما أوجدا هذا الحلم الحقيقي الذي عاشته الفتاة التي صارت ذكراً بيولوجياً، إنه السعي إلي المستحيل، الذي يناوشه دائماً الفنان الحقيقي.
يتملك عبد اللطيف هاجس بفكرة التحوّل، ففي "صانع المفاتيح" تتحول القرية إلي مدينة، وتتحول الشخصيات من السمع إلي الصمم ومن البصر إلي العمي ومن الكلام إلي البكم، وفي "عالم المندل" تتحول الفتاة إلي ذكر، وتصير إناث المدينة رجالاً ويصبح الرجال إناثاً. يبرز الكاتب فكرة التمرد علي المستقر، يتعامل معه علي مستويين: فعل إبداعه الخاص ورؤيته للفن، فهو أولاً يعلو بمفهوم التحول المستند علي قدرة الإنسان المبدع علي الخلق أو الصنع، علي تغيير الثابت وسلطة المستقر الراسخ ليخلق عالماً آخر من المحتمل أن يكون، كأنه فنان بروح متصوف، يعيد هندسة الكون ويلهو بحنكة في عناصر تكوينه، ومن منطقة الخلق الفني وقدرته علي التجريب يغوص بالواقع ويرتفع به ليعيد فنياً ترتيب وصياغة ما قد يبدو فيه عشوائياً. ثانياً، يخلق نماذجاً بشرية في النصوص قادرة علي فعل التحول والتمرد علي ما هو كائن، نماذج من شأنها أن تفعل، تغير موازين القوي حتي ولو علي مستوي التخيل أو الرمز. يقول عبد اللطيف في مدونته: "كتابة الأدب أدب لا يقبل الشخصيات ذات البعد الواحد، بل يتطلب خيالاً لصنع ثلاثة أبعاد للشخصية، الطول والعرض والعمق، وهو ما يعني ببساطة: الكائن، ليس بوصفه جسداً، بل تركيبة نفسية وعقلية وروحية معقدة تماماً". تضافر هذا الوعي لديه مع المفهوم الخاص الذي آمن به للسرد، مفهوم لا يستند علي كلاسيكية الحكاية ولا المحاكاة، بل خلق نماذجاً من شخوص منحوتة من الداخل غالباً، خاصة وأن بعضهم يتمتع ببعض مزايا وسمات الشخصية التراجيدية أو الملحمية. تتميز شخوصه في "صانع المفاتيح" باحتوائها علي المناطق الحائرة، القلقة، الشخوص ذات الأبعاد المتعددة، ذوات بشرية يحتدم فيها الصراع ويتناوب بين الغرائز والأطماع والقيم الإنسانية.
بين الواقع والملحمة، يقدم الكاتب شخصية صانع المفاتيح ويهبها بعض الملامح الأسطورية بداية من اسمه ومهنته وقدرته علي الخلق دون مثال والتحكم في الحواس البشرية، كما تتبدي طقوسه وثقافته شديدة الثراء، تتراوح بين عالم مادي أرضي، وعالم صوفي متعال من خلال مناجاته لله وقراءته لمؤلفات ابن عربي، وتأملاته في الجبل، انفصاله عن العالم عن طريق غلق السمع، ثم رغبته في بناء مدرسة لتعليم أطفال القرية والخروج بهم من الطبيعة الحيوانية. يهيئ الكاتب لشخصيته منذ أولي فقرات الرواية طقساً غرائبياً يدخله حثيثا في المفارق نسبيا، ذلك حين يحكي أنه يمشي نائماً، ويحلم بعوالم سريالية، وتتنبأ له إحدي العرافات بالغني ثم الموت محبوساً. كما يرسم له طفولة مفارقة، فهو معجز لكنه إعجاز يخالف ما تواتر عن المعجزات وقت ولادة الأنبياء والصالحين يقول: "عندما ولد صانع المفاتيح، لم تحدث معجزات، فلا الأبقار ولدت، ولا الأرانب تكاثرت، ولا امتلأت صدور المرضعات لبناً، ولا جاء وقت الحصاد قبل أوانه، مع ذلك فرح أهل القرية فرحاً جماً". كأنه بذلك يرمي بسهامه مفككاً لمقولات النصوص والموروثات الدينية في سردية حديثة. ويصور سبق الطفل في قدراته وملكاته في النمو، وجمال خلقته، ثم يبرز به جانباً عاطفياً حين تعلق بقطة وعشقها، لكنها ماتت فيتحول لطفل متوحش، إلي أن يستقيم سلوكه مرة ثانية، ويعود إلي طبيعته السمحة حين يفهمه والده أن قطته بالجنة.
ملامح متعددة يوفرها الكاتب لبطله الرئيسي، تجعل منه ذاتاً أرضية وسماوية في اللحظة ذاتها، كما يحمل المبدع الشخصية ظلالاً متعددة، وفي كل ظل هناك إحالات لعدد من الأنبياء أو بعض المتصوفة، وطريقة سلوكهم، وهو ما يمنح الشخصية الجانب الأسطوري وملامح المقدس، ليس علي شاكلة السابق لكن أقرب إلي شخصية أرضية ذات صفاء، ويعد هذا التكوين النفسي والتاريخي للبطل متسقاً مع الحدث الفانتازي الذي أقدم عليه.
الشخصيات الأخري تتضمن جانباً فنياً وفكرياً متجرداً نزقاً، ف "لاللي" يتبدي كلاعب ماهر يحرك العالم وكأنه يتحكم بعرائس الماريونت، يلهو بضعف البشر وشذوذهم، بجهلهم ومرضهم، بجانب ما يحتشد به من رغبة في الاستحواذ والأطماع، ولا يعدم القارئ أن يجد لديه جانباً إنسانياً خيراً خاصة مع الدكتور في بداية حياته. و"الدكتور" يمارس نزع قرنيات أعين المرضي النفسيين، ويبيعها لمن يستطيع أن يدفع، كما يحاول أن يجد له منطقاً يبرر به أطماعه، فتستحوذ عليه أحلام معذبة ويعاني من وسواس التطهر المتكرر بعد كل عملية يجريها، ويرفض مضاجعة زوجة البواب لأنها، كما يقول الدكتور، المتعة الوحيدة للرجل المسكين. يستيقظ ضميره فيري جانباً خيراً بداخله، طمسه في السابق إحساس بالدونية والفقر والعوز، فيتزوج من جميلة لعلمه أن الجميع قد طاله التشوه بصوره المتعددة. هكذا نلاحظ اهتمام الكاتب برسم الشخصية: ثقافتها، ومعطيات بيئتها، وكهوفها النفسية، وما يستجد عليها من متغيرات، كما يضع يديه بمهارة علي نقاط التوتر في الشخصيات وزوايا التحول، وهو ما يميز شخصيات نصوصه فهي فاعلة وإن بدت مقهورة، شخصيات لا ترضخ للكائن، تتطلع للتغيير حتي وإن بدا فانتازياً فهو أول الغيث.
يطول التحوّل أيضاً المكان، فالقرية مكعب متعدد الأوجه، يبرز أحدها أحياناً ليجعلها قرية صغيرة حقيقية واقعية، ووجه آخر يبرز فيه بنيتها بين القرية والمدينة، وأتصور أنه من خلاله يشير إلي التحولات التي حدثت للمجتمع المصري الزراعي المستقر، ووجه ثالث يشير إلي مكان ملحمي أسطوري، ووجه رابع ديني مقدس. وأري أن تشكيل المكان علي هذا النحو الملحمي الأسطوري والمقدس يتسق مع فانتازية النص ويمثل ركناً ركيناً في الوصول بالفكرة محور العمل إلي طبيعتها الفنية الخاصة.
يحتدم في "صانع المفاتيح" صراع الكاتب فيما يختص ببعض الأساطير الدينية والرغبة في تفكيكها، يخوض فيما يبدو مقدساً وهو معني بتفكيك المقولات، خلخلتها والنيل منها برشق أحد سهام فكره أو تصوراته فيها. يقول عن "الدكتور": "وهو صغير، بدأ يعتقد أن الله لا ينظم الأرزاق، بل إنه يلقيها من سمائه، ومن يسبق يأخذ" ص55، ثم يكمل فقرته في لباس ساخر، كما أنه يقرن صناعة المفاتيح والانتهاء منها بقصة الخلق التوراتية، وبدلاً من تمام الخلق في ستة أيام ينهي يوسف المفاتيح في ستة أشهر، ثم يصعد إلي الجبل للتأمل، وكأن الإله أراد أن يستريح بعد الخلق في العهد القديم، وأتصور أن الروائي يشير إلي الجانب الفني في الموروث لا الفكري. علي مستوي آخر وفي كثير من تقنيات السرد، يتكئ علي المقولات المقدسة، وعلي المذكور في نصوص العهد القديم والجديد، والتناص مع كثير من نصوص القرآن، كما يصدر نصه بالآية القرآنية "صمٌّ بكمٌ عميٌ" وهي ما تجمع عناصر الفكرة المحورية المتخيلة بالنص. إن تفكيك المقولات الدينية ودحضها فكرياً، ثم استخدام التقنيات الفنية والتشكيلية التي تتناص مع الموروث الديني في إنماء النص والتطور به لهو موقف ينبئ عن حالة من الجدل المستمر بين المبدع ومعتقداته الفكرية، وبين ما يستقر بوجدانه وثقافته التي تراكمت وشكَّلت في لا وعيه العميق، بين الرؤية الفكرية وتشكيلها، ولهذا الجدل الدائر بين الفكر وآليات التشكيل أثراً في تخلق نص حيوي لا يدعي يقين، لكنه يثير تساؤلات ويترك قارئه في فضاءاتها.
يبني أحمد عبد اللطيف ويهدم، يبني "صانع المفاتيح" الأسطورة البسيطة الأرضية، ويهدم أساطير أخري كثيرة اكتوي بها البشر طويلاً، وتصبح اللغة أداته الطبيعية لإيجاد صيغ أسلوبية ناصعة تصيب الهدف بدقة، لغة تعرف مقاصدها وتذهب إلي عمقه دون مراوغة. تتبدي أساليب الروائي ناجزة حتي وإن تنوعت الأحداث والأفكار وجاءت واقعية أو متخيلة أو وقائع حلمية، وهو ما يكشف عن رؤية وثقافة ناضجة عند المبدع. وهو أيضا ما يأخذ بيد قارئه لكشف حالة الشخوص الفكرية.
وتظل منطقة الصدمة والتساؤل في كتابته، غرائبية الفن وأشكال طرحه، هاجس عبد اللطيف الذي أتصور أنه معني بتنوع نصوصه من حيث المحتوي وتقنيات أدائه، بل والتوحد بهما معاً وهو ما يمكن أن نراه في روايتيه ومشاريعه الروائية القادمة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.