«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«صانع المفاتيح»
سارق نار الفانتازيا الذهنية
نشر في أخبار الأدب يوم 07 - 07 - 2012

من رؤية فنية واضحة ومفتوحة بوسع الآفاق، تنطلق رواية "صانع المفاتيح" للمبدع أحمد عبد اللطيف، والحاصلة حديثاً علي جائزة الدولة التشجيعية لعام 2012. مع هذا العمل، يمكن أن نحلّق في عوالم مفارقة، حيوات أوجدتها "الفانتازيا الذهنية" المعنية بحلم الممكن لا الكائن، والقادرة علي دمج العلائق بين الواقعي واللاواقعي، بين الحقيقة والحلم، عوالم تخلخل الحدود وتجعلها في حالة من الاندماج المنسجم، ربما نشعر بالغرابة، لكن المؤكد أنه سيتملكنا الشغف، عالم من الدهشة يصنعه تقديم الأفكار المتمردة في تقنيات شكلية مميزة.
يعتد عبد اللطيف بمفهوم "الخلق الفني"، الخلق الذي يلامس الواقع ليسرق ناره، كما تقول الأسطورة اليونانية، حيث يأخذ النور والوهج ثم يرتفع بهما إلي السماء. يبرع في هدم المتحفي ليعيد صياغة عناصره وتركيبها علي نسق آخر، مستعيناً بملكات خيال منطلقة، فتتخلق عوالم مغايرة، قادرة علي خلق الصور، وهو ما تعنيه الفانتازيا في اللاتينية، حيث يتجلي الخلق إبداعاً وليس إعادة إنتاج، ولا يعني هذا قطيعة مع الواقع بل طرح إبداعي يعيد رؤية الواقع ويعيد تفسيره. هكذا نري "صانع المفاتيح" رؤيةً وتشكيلاً فعل مواكبة ومجاوزة وسبق، لا اقتفاء نهج وضرورة المرور بمراحل فكرية حتمية خاصة في ظل هذه الثقافة الكونية المتسارعة.
انطلاقاً من ثقافة متسعة ودراية راسخة بالموروث الحكائي العربي الذي اعتمد علي منطق الفانتازيا، ودراساته للغة الإسبانية وأدب أمريكا اللاتينية، وترجمة الكثير من الأعمال الإبداعية والفكرية لكبار الكتاب، تشكلت لدي الكاتب رؤية فنية خاصة للإبداع، لا متأثراً أو مقلداً بل مبدعاً مبتكراً، مغموساً حتي النخاع في العناصر الخاصة لثقافة ومعطيات مجتمعه المصري، خلقت هذه الإطلالات الواعية المثقفة ذهنية خيالية تجمع جرأة الأفكار وتناسبها مع الواقع الثقافي الخاص.
يحتفي الكاتب في "صانع المفاتيح" بالجوانب الميتافيزيقية وعوالم التصوف في الجانب المعرفي، ويبصر بهما مناطق إضاءات فنية تبعده عن مركزية العقل البشري أو منطقه الصارم بمسافة تتيح له أن يغازله بتشكيلات فنية ومنطق معرفي آخر، يتتابع جيئة وذهاباً بين الخيال والعقل، فعل مراوحة ومزاوجة واشتباك وقفز، وكلها رؤي وتقنيات تصنع عوالم من الجدل الثري، ويقع نص "صانع المفاتيح" في محيط تعريف "الفانتازيا الذهنية"، أي القدرة علي تجلية تقاطع الواقع بالخيال. كما يرتكز علي الثقافة الشعبية التي تحتفي بالأحلام وتفسيرها ونبوءات العرافات ويمتح من الموروثات الدينية والأسطورية والملحمية، وكلها آليات تشكل بامتياز "تيار الواقعية السحرية" في الأدب. ويؤلف من المعطيات السابقة مادة فنية ثرية تشكّلت بتنوع ملحوظ في "صانع المفاتيح" وعمله الأحدث"عالم المندل" القائم في الأساس علي الحلم والمندل وقراءة الكف، رغم أن كلاً منهما له عالمه شديد الخصوصية.
يعتمد الروائي علي فكرة فانتازية وليدة التجاوز، فصانع المفاتيح الذي سأم وضاق بكل مظاهر الحياة التي شوهت قريته لاستشراء الفساد فيها، يصنع مفتاحاً يغلق به سمع الإنسان، ويتطور الأمر وتصبح هناك مفاتيح تغلق البصر واللسان، لم يرتض هو أن يصنعها، لكن صبيه وفّرها لأهالي القرية فأصبحت قرية أقرب إلي الموتي. يوظف من أجل تنمية هذه الفكرة الموروثات الثقافية المتنوعة بما يتسق مع العالم الروائي، ويتكئ علي الخيال الذي يقع علي الواقع، يسائله ويضعه تحت عدسات ذات أبعاد مبتكرة، تخلق صوراً جديدة للعالم، تفسره تحت معطيات وأحداث وأفكار غير ما عهدها الإنسان. اللافت للنظر أن بمقدور الروائي صناعة عجينة إبداعية روائية ثقافية متعددة العناصر، واشتغالها بعناية فائقة، مازجاً بين عناصرها دون أن يشعر قارئه أن هناك انفصالاً ما بين الفكرة الفانتازية والعالم الواقعي الذي تتعاطي معه ويوفر لتشكيله النصي خبرات تكنيكية وآليات تكوين علي نحو مميز. هذه البنية الفانتازية تحوي جانباً متخيلاً يأخذ خيطاً عجائبياً بجانب الخيوط والمحكيات الأخري الواقعية أو الاجتماعية التاريخية، كما أنها ليست بنية تناصية. يضفرها المبدع مع محاور نصه، فلا يظهر الفصل بين فوق الطبيعي والطبيعي، بين الغرائبي الخارق وقوانين العقل في بناء العوالم الحكائية والدلالية والمعرفية. فالواقعي والمتخيل، المادي والروحي، الألفة والغرابة، الطبيعي والشاذ، الزهد والطمع، اليأس والتمرد، والثورة والرضوخ، الموروث والمتغير، تتفاعل جميعها فيما بينها وتتداخل مشيدة عالماً متكاملاً يحمل أسئلة وجودية أزلية، ورفضاً واعتراضاً علي أوضاع مجتمعية مستعيناً ببنية الفانتازية الرمزية.
تتلخص محاور العمل الرئيسية في ضيق صانع المفاتيح بكل ما يسمع من انحرافات المجتمع، يصنع المفاتيح التي تغلق الحواس، يعتريه الشعور بالراحة نسبياً هو ومن استخدم المفاتيح من أهل القرية، يتأمل الخلق والوجود، ثم يبني مدرسة للأطفال في نظرة استشرافية للمستقبل، يثور الشباب علي قرية لا تسمع ولا تري ولا تتكلم، تهيمن القوي المسيطرة علي الأمر ويسجن صانع المفاتيح. يتداخل هذا المحور المتخيل بالعمل مع محاور النص الأخري وأحداثه وشخوصه التي تشبه أو توازي ما يمكن أن نراه بالواقع، وتعد هذه المحاور المضفورة مع الفانتازي تناسُل مولودات نصية وحكائية وتصورات وأحداث، وتوليف عناصر مع أخري، ومن هنا يتجلي الدمج التام بين الفانتازي والواقعي في النص وهو ما يحقق ما أطلق عليه "الفانتازيا الذهنية"، فالنص لا يعتمد علي بنية منفصلة استهوت المبدع، لكنه يعتمد علي مفهوم خاص للفن وزوايا جديدة لتناوله.
يطرح عبد اللطيف في "صانع المفاتيح" وكذلك في"عالم المندل" سؤالاً إشكالياً: هل الفانتازيا لعبة فنية، تجريب يمارسه الفنان ويتكئ فيه علي الغرائبية لخلق عالم مدهش؟ أم أن الفانتازيا رؤية فنية وتقنيات شكلية لا تنفصل عن أزمات الإنسان والكشف لمناطق الغيبوبة التي وقعت فيها الحضارات البشرية تحت الأساطير والنصوص التي أخذت صفة التقديس؟ أتصور أنها رؤية فنية وإبداعية خلقت آفاقها المتسعة، وكان حضورها أكثر زخماً بعد انهيار الأنساق الفلسفية المتسقة، وتقوض التيارات الأدبية ذات الملامح. في ظني أن عبد اللطيف يقدمها كنهج إبداعي يشير إلي أزمة القيم العميقة ومقولاتها التي صارت تحت طائلة التفكيك اتجاهاً يعوّل علي الثقافاتالخاصة بموروثاتها الفلكلورية وروحانياتها المميزة. الفانتازيا في الرواية الجديدة لا تحكي العالم وإنما تناوشه، وتعريه، وتختزله، وتدمر التصورات الذاتية عن العلائق والأشياء والبشر، لتفتح عوالماً بديلة يتحاور فيها الخيال والعقل والواقع، إن صح أن هناك واقعاً، خارج ذواتنا وعقولنا ووجداننا، وهو ما تحقق بوضوح في "صانع المفاتيح".
تجلت الفانتازيا وتنوعت معالجاتها في أدب أمريكا اللاتينية ودارت حول تكوين الديكتاتور وكشف ممارساته، عبرت عن الطغيان العسكري، عرّت أوضاع سياسية واجتماعية طالت الشعوب قهراً بلا رحمة أو هوادة، ومن خلالها أوجد ماركيز وفوينتس ويوسا وساراماجو عوالماً تكشف هذا الواقع الرديء، وبعثت توقاً إلي إمكانات أخري ومعطيات أكثر تحرراً. وفي "صانع المفاتيح" كان الفساد والانحدار الأخلاقي والقيمي محركين استدعيا فانتازيا النص، وفي "عالم المندل" كان القهر الاجتماعي وتحكم الخرافة والشعوذة في مقدرات المجتمع والأفراد هما ما أوجدا هذا الحلم الحقيقي الذي عاشته الفتاة التي صارت ذكراً بيولوجياً، إنه السعي إلي المستحيل، الذي يناوشه دائماً الفنان الحقيقي.
يتملك عبد اللطيف هاجس بفكرة التحوّل، ففي "صانع المفاتيح" تتحول القرية إلي مدينة، وتتحول الشخصيات من السمع إلي الصمم ومن البصر إلي العمي ومن الكلام إلي البكم، وفي "عالم المندل" تتحول الفتاة إلي ذكر، وتصير إناث المدينة رجالاً ويصبح الرجال إناثاً. يبرز الكاتب فكرة التمرد علي المستقر، يتعامل معه علي مستويين: فعل إبداعه الخاص ورؤيته للفن، فهو أولاً يعلو بمفهوم التحول المستند علي قدرة الإنسان المبدع علي الخلق أو الصنع، علي تغيير الثابت وسلطة المستقر الراسخ ليخلق عالماً آخر من المحتمل أن يكون، كأنه فنان بروح متصوف، يعيد هندسة الكون ويلهو بحنكة في عناصر تكوينه، ومن منطقة الخلق الفني وقدرته علي التجريب يغوص بالواقع ويرتفع به ليعيد فنياً ترتيب وصياغة ما قد يبدو فيه عشوائياً. ثانياً، يخلق نماذجاً بشرية في النصوص قادرة علي فعل التحول والتمرد علي ما هو كائن، نماذج من شأنها أن تفعل، تغير موازين القوي حتي ولو علي مستوي التخيل أو الرمز. يقول عبد اللطيف في مدونته: "كتابة الأدب أدب لا يقبل الشخصيات ذات البعد الواحد، بل يتطلب خيالاً لصنع ثلاثة أبعاد للشخصية، الطول والعرض والعمق، وهو ما يعني ببساطة: الكائن، ليس بوصفه جسداً، بل تركيبة نفسية وعقلية وروحية معقدة تماماً". تضافر هذا الوعي لديه مع المفهوم الخاص الذي آمن به للسرد، مفهوم لا يستند علي كلاسيكية الحكاية ولا المحاكاة، بل خلق نماذجاً من شخوص منحوتة من الداخل غالباً، خاصة وأن بعضهم يتمتع ببعض مزايا وسمات الشخصية التراجيدية أو الملحمية. تتميز شخوصه في "صانع المفاتيح" باحتوائها علي المناطق الحائرة، القلقة، الشخوص ذات الأبعاد المتعددة، ذوات بشرية يحتدم فيها الصراع ويتناوب بين الغرائز والأطماع والقيم الإنسانية.
بين الواقع والملحمة، يقدم الكاتب شخصية صانع المفاتيح ويهبها بعض الملامح الأسطورية بداية من اسمه ومهنته وقدرته علي الخلق دون مثال والتحكم في الحواس البشرية، كما تتبدي طقوسه وثقافته شديدة الثراء، تتراوح بين عالم مادي أرضي، وعالم صوفي متعال من خلال مناجاته لله وقراءته لمؤلفات ابن عربي، وتأملاته في الجبل، انفصاله عن العالم عن طريق غلق السمع، ثم رغبته في بناء مدرسة لتعليم أطفال القرية والخروج بهم من الطبيعة الحيوانية. يهيئ الكاتب لشخصيته منذ أولي فقرات الرواية طقساً غرائبياً يدخله حثيثا في المفارق نسبيا، ذلك حين يحكي أنه يمشي نائماً، ويحلم بعوالم سريالية، وتتنبأ له إحدي العرافات بالغني ثم الموت محبوساً. كما يرسم له طفولة مفارقة، فهو معجز لكنه إعجاز يخالف ما تواتر عن المعجزات وقت ولادة الأنبياء والصالحين يقول: "عندما ولد صانع المفاتيح، لم تحدث معجزات، فلا الأبقار ولدت، ولا الأرانب تكاثرت، ولا امتلأت صدور المرضعات لبناً، ولا جاء وقت الحصاد قبل أوانه، مع ذلك فرح أهل القرية فرحاً جماً". كأنه بذلك يرمي بسهامه مفككاً لمقولات النصوص والموروثات الدينية في سردية حديثة. ويصور سبق الطفل في قدراته وملكاته في النمو، وجمال خلقته، ثم يبرز به جانباً عاطفياً حين تعلق بقطة وعشقها، لكنها ماتت فيتحول لطفل متوحش، إلي أن يستقيم سلوكه مرة ثانية، ويعود إلي طبيعته السمحة حين يفهمه والده أن قطته بالجنة.
ملامح متعددة يوفرها الكاتب لبطله الرئيسي، تجعل منه ذاتاً أرضية وسماوية في اللحظة ذاتها، كما يحمل المبدع الشخصية ظلالاً متعددة، وفي كل ظل هناك إحالات لعدد من الأنبياء أو بعض المتصوفة، وطريقة سلوكهم، وهو ما يمنح الشخصية الجانب الأسطوري وملامح المقدس، ليس علي شاكلة السابق لكن أقرب إلي شخصية أرضية ذات صفاء، ويعد هذا التكوين النفسي والتاريخي للبطل متسقاً مع الحدث الفانتازي الذي أقدم عليه.
الشخصيات الأخري تتضمن جانباً فنياً وفكرياً متجرداً نزقاً، ف "لاللي" يتبدي كلاعب ماهر يحرك العالم وكأنه يتحكم بعرائس الماريونت، يلهو بضعف البشر وشذوذهم، بجهلهم ومرضهم، بجانب ما يحتشد به من رغبة في الاستحواذ والأطماع، ولا يعدم القارئ أن يجد لديه جانباً إنسانياً خيراً خاصة مع الدكتور في بداية حياته. و"الدكتور" يمارس نزع قرنيات أعين المرضي النفسيين، ويبيعها لمن يستطيع أن يدفع، كما يحاول أن يجد له منطقاً يبرر به أطماعه، فتستحوذ عليه أحلام معذبة ويعاني من وسواس التطهر المتكرر بعد كل عملية يجريها، ويرفض مضاجعة زوجة البواب لأنها، كما يقول الدكتور، المتعة الوحيدة للرجل المسكين. يستيقظ ضميره فيري جانباً خيراً بداخله، طمسه في السابق إحساس بالدونية والفقر والعوز، فيتزوج من جميلة لعلمه أن الجميع قد طاله التشوه بصوره المتعددة. هكذا نلاحظ اهتمام الكاتب برسم الشخصية: ثقافتها، ومعطيات بيئتها، وكهوفها النفسية، وما يستجد عليها من متغيرات، كما يضع يديه بمهارة علي نقاط التوتر في الشخصيات وزوايا التحول، وهو ما يميز شخصيات نصوصه فهي فاعلة وإن بدت مقهورة، شخصيات لا ترضخ للكائن، تتطلع للتغيير حتي وإن بدا فانتازياً فهو أول الغيث.
يطول التحوّل أيضاً المكان، فالقرية مكعب متعدد الأوجه، يبرز أحدها أحياناً ليجعلها قرية صغيرة حقيقية واقعية، ووجه آخر يبرز فيه بنيتها بين القرية والمدينة، وأتصور أنه من خلاله يشير إلي التحولات التي حدثت للمجتمع المصري الزراعي المستقر، ووجه ثالث يشير إلي مكان ملحمي أسطوري، ووجه رابع ديني مقدس. وأري أن تشكيل المكان علي هذا النحو الملحمي الأسطوري والمقدس يتسق مع فانتازية النص ويمثل ركناً ركيناً في الوصول بالفكرة محور العمل إلي طبيعتها الفنية الخاصة.
يحتدم في "صانع المفاتيح" صراع الكاتب فيما يختص ببعض الأساطير الدينية والرغبة في تفكيكها، يخوض فيما يبدو مقدساً وهو معني بتفكيك المقولات، خلخلتها والنيل منها برشق أحد سهام فكره أو تصوراته فيها. يقول عن "الدكتور": "وهو صغير، بدأ يعتقد أن الله لا ينظم الأرزاق، بل إنه يلقيها من سمائه، ومن يسبق يأخذ" ص55، ثم يكمل فقرته في لباس ساخر، كما أنه يقرن صناعة المفاتيح والانتهاء منها بقصة الخلق التوراتية، وبدلاً من تمام الخلق في ستة أيام ينهي يوسف المفاتيح في ستة أشهر، ثم يصعد إلي الجبل للتأمل، وكأن الإله أراد أن يستريح بعد الخلق في العهد القديم، وأتصور أن الروائي يشير إلي الجانب الفني في الموروث لا الفكري. علي مستوي آخر وفي كثير من تقنيات السرد، يتكئ علي المقولات المقدسة، وعلي المذكور في نصوص العهد القديم والجديد، والتناص مع كثير من نصوص القرآن، كما يصدر نصه بالآية القرآنية "صمٌّ بكمٌ عميٌ" وهي ما تجمع عناصر الفكرة المحورية المتخيلة بالنص. إن تفكيك المقولات الدينية ودحضها فكرياً، ثم استخدام التقنيات الفنية والتشكيلية التي تتناص مع الموروث الديني في إنماء النص والتطور به لهو موقف ينبئ عن حالة من الجدل المستمر بين المبدع ومعتقداته الفكرية، وبين ما يستقر بوجدانه وثقافته التي تراكمت وشكَّلت في لا وعيه العميق، بين الرؤية الفكرية وتشكيلها، ولهذا الجدل الدائر بين الفكر وآليات التشكيل أثراً في تخلق نص حيوي لا يدعي يقين، لكنه يثير تساؤلات ويترك قارئه في فضاءاتها.
يبني أحمد عبد اللطيف ويهدم، يبني "صانع المفاتيح" الأسطورة البسيطة الأرضية، ويهدم أساطير أخري كثيرة اكتوي بها البشر طويلاً، وتصبح اللغة أداته الطبيعية لإيجاد صيغ أسلوبية ناصعة تصيب الهدف بدقة، لغة تعرف مقاصدها وتذهب إلي عمقه دون مراوغة. تتبدي أساليب الروائي ناجزة حتي وإن تنوعت الأحداث والأفكار وجاءت واقعية أو متخيلة أو وقائع حلمية، وهو ما يكشف عن رؤية وثقافة ناضجة عند المبدع. وهو أيضا ما يأخذ بيد قارئه لكشف حالة الشخوص الفكرية.
وتظل منطقة الصدمة والتساؤل في كتابته، غرائبية الفن وأشكال طرحه، هاجس عبد اللطيف الذي أتصور أنه معني بتنوع نصوصه من حيث المحتوي وتقنيات أدائه، بل والتوحد بهما معاً وهو ما يمكن أن نراه في روايتيه ومشاريعه الروائية القادمة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.