من أصعب الأسئلة التي يمكن أن توجه لي هي ما علاقتك بالكاتب الفلاني؟؟ ليس لدي أبدًا إجابة آنية مباشرة ولست من الذين يتعاملون مع الكُتاب بمنطق عاطفي، أي أحب هذا الكاتب ولا أحب ذاك.. عندما سألني الأستاذ طارق الطاهر عن علاقتي بالغيطاني تحيرت قليلاً أنا لم أقابله أبدًا بدأت أقرأ له وأنا في سن صغيرة وصرت أتابعه مثلما يتابعه أي قارئ يشغله الأدب بشكل عام لكن أول ما جاء إلي ذهني هو أن الغيطاني كان بلديات أبي.. أذكر أنني قرأت أنه الغيطاني ولد ونشأ في قرية جهينة الغربية محافظة سوهاج وهي نفس القرية التي ولد فيها أبي ونشأ، فلما سألته عنه في صغري ابتسم و قال لي: كنا نراه يقف أو يجلس تحت أعمده الإنارة القليلة المتواجدة آنذاك في القرية وهو يقرأ.... وأحيانًا كنا نراه يقف بين الأولاد ويحكي لهم حكايات... عبر أبي عن سروره بعصاميته ونجاحه وقال لي هذه الجملة التي علقت في ذهني منذ ذلك الحين "عامل دماغه علي إيده.".. غمرني شعور غريب وأنا أقرأ الغيطاني يقول تقريبًا نفس الشئ: "أنا جئت إلي العالم أديبًا، لم يعلمني أحد الأدب".. حديث أبي جعلني أهتم بالغيطاني كشخص أعرفه، كأنه أحد أقاربي من بعيد فكنت أقرأ له وعنه وأتابع حوراته الصحفية وكأنني قارئ مختلف.. أول ما قرأت له كانت مجموعته القصصية "أوراق شاب عاش منذ ألف عام"... في الحقيقة كانت لها تأثير كبير علي في حينها ثم توالت قراءتي لأعماله... وأظن أن كتابات الغيطاني كان لها تأثير علي ذائقتي الأدبية وهو شغفي من حينها بالرواية التاريخية ومن ثم بالتاريخ والآثار.. فكان هو أحد الأسباب التي جعلتني أرفع رأسي وأنا أسير في الشوارع كي أتأمل التفاصيل المعمارية في مدينتي الأسكندرية وفي كل مدينة أسير في شوارعها... أعتقد أن كتاباته سواء كانت مجموعات قصصية أو روايات أو كتب الرحلات أو الرويات التاريخية بالإضافة إلي بعض الدراسات حول فن العمارة في القاهرة القديمة التي كان مفتونًا بها تعتبر في حد ذاتها مرجعية أدبية هامة إذا ما كنا نتحدث عن العلاقة بين الأدب التراث بشكل عام وخاص... كان قربه من نجيب محفوظ تأثير علي المنجز الأدبي للكاتب جمال الغيطاني، حصل الغيطاني علي اهتمام المايسترو في بداية مسيرته ككاتب. أعتقد أن لنجيب محفوظ تأثير واضح علي كتابات الغيطاني في أعماله الأدبية. فهو أيضا مثل محفوظ من كتاب القاهرة، خصوصا القاهرة القديمة التي كان مفتونًا بها واستلهم منها العديد حكاياته.. ينتمي الغيطاني إلي جيل من الكتاب المصريين الذين ظهروا بعد هزيمة 67 . ظل يبحث عن شكل أدبي خاص ولغة مناسبة له بعيدًا عن الشكل التقليدي للأدب، وهو الأمر الذي انعكس علي دأبه الشديد وغزارة إنتاجه،فطور أسلوباً إبداعيًا خاصًا به وتناول قضايا إنسانية ومجتمعية في أعماله وهو في رأيي ما يفسر حقيقة أن الغيطاني هو من أكثر الكتاب المصريين وربما العرب الذين تمت ترجمة أعمالهم إلي لغات أخري وبخاصة إلي اللغة الفرنسية. إعادة اكتشاف التراث أسلوب الغيطاني الأدبي يقترن دائمًا بالتراث، إلا أنه يتحرر كثيرًا من الشكل الروائي الغربي الذي لم يقلده كما فعل أدباء آخرون من معاصريه وممن سبقوه. وغالبا ما كان يتوجه في نصوصه إلي نماذج عربية من القرون الوسطي. بهذه الطريقة حاول تأسيس تراث سرد مصري-عربي خاص في الأدب الحديث. وأظنه نجح في هذا إلي حد بعيد. لم تخلُ أعمال الغيطاني من دلالات سياسية. فقد كان يريد إبراز الآليات المختلفة في عملية تركيز السلطة والسيطرة والقمع التي تؤدي إلي تعزيز النظام الدكتاتوري الشمولي. كما تعكس أعماله السعي المستمر لإظهار أوضاع الناس في المجتمع المصري اليوم. إن شغف الغيطاني بأدب القرون الوسطي العربي، وخاصة بأعمال المؤرخ المصري ابن إياس، يظهر في روايته التاريخية الكبيرة "الزيني بركات"، وهو من أشهر أعماله الأدبية. الرواية بها إسقاط واضح علي عهد عبد الناصر وتتحدث عن دسائس المخابرات وتدور أحداثها في القرن السادس عشر. وبها نقد لاذع للمجتمع المصري.. يصف الكاتب فيها الفساد، والتآمر واساءة استخدام السلطة في شكل رواية من القرون الوسطي، ولكنه بالطبع يوجه نقدا لاذعا للمجتمع المصري - نقدا ربما يشمل العالم العربي بأسره. نجد في رواياته دائمًا سلسلة من المتتابعات الفردية والقصص التي تشكل بانوراما واسعة تصف الحياة في مصر. يفاجئ الغيطاني القارئ بالاستعارات والالتباسات. ولا يخلو الأمر من الكوميديا السوداء والسخرية "التي هي من سمات المصريين" في وصفه للمجتمع المصري، حيث لاتوجد ديمقراطية حقيقية، وحيث تختفي الحرية وتتشوه، وهنا تأتي مهمة الأدب الذي يقوم بالكشف عن الحقيقة. وهوالأمر الذي دفع ثمنه الغيطاني في حياته بما يكفي... كل هذه العناصر تحتاج إلي التناول بالنقد والدراسة....أود أن أقول في ختام هذه الكلمة/ الشهادة الموجزة عن أديبنا الكبير... لو أن دور الكتابة هو طرح التساؤلات ودفع القارئ للانشغال بها أي إلي التفكير بصفة عامة، فإن ماقدمه الغيطاني قد أدي وأظنه سيؤدي هذا الدور علي أكمل وجه. أمر آخر...إن ندرة الدراسات الأدبية (في حالة جمال الغيطاني ) خاصة... وحالة الأدباء المصريين والعرب الكبار بصفة عامة تعد ظاهرة يجب التوقف عندها كثيرًا من قبل النقاد والأكاديميين... وأعني الدراسات الشاملة لإبداع هؤلاء الكتاب... و أري أن التقصير في هذا الشأن سوف يحاسبنا عليه التاريخ و الأجيال القادمة.