حريق يلتهم 4 أفدنة قمح في قرية بأسيوط    متحدث الصحة عن تسبب لقاح أسترازينيكا بتجلط الدم: الفائدة تفوق بكثير جدًا الأعراض    بمشاركة 28 شركة.. أول ملتقى توظيفي لخريجي جامعات جنوب الصعيد - صور    برلماني: مطالبة وزير خارجية سريلانكا بدعم مصر لاستقدام الأئمة لبلاده نجاح كبير    التحول الرقمي ب «النقابات المهنية».. خطوات جادة نحو مستقبل أفضل    ضياء رشوان: وكالة بلومبرج أقرّت بوجود خطأ بشأن تقرير عن مصر    سعر الذهب اليوم بالمملكة العربية السعودية وعيار 21 الآن ببداية تعاملات الأربعاء 1 مايو 2024    600 جنيه تراجعًا في سعر طن حديد عز والاستثماري.. سعر المعدن الثقيل والأسمنت اليوم    تراجع أسعار الدواجن 25% والبيض 20%.. اتحاد المنتجين يكشف التفاصيل (فيديو)    خريطة المشروعات والاستثمارات بين مصر وبيلاروسيا (فيديو)    بعد افتتاح الرئيس.. كيف سيحقق مركز البيانات والحوسبة طفرة في مجال التكنولوجيا؟    أسعار النفط تتراجع عند التسوية بعد بيانات التضخم والتصنيع المخيبة للآمال    رئيس خطة النواب: نصف حصيلة الإيرادات السنوية من برنامج الطروحات سيتم توجيهها لخفض الدين    اتصال هام.. الخارجية الأمريكية تكشف هدف زيارة بليكن للمنطقة    عمرو خليل: فلسطين في كل مكان وإسرائيل في قفص الاتهام بالعدل الدولية    لاتفيا تخطط لتزويد أوكرانيا بمدافع مضادة للطائرات والمسيّرات    خبير استراتيجي: نتنياهو مستعد لخسارة أمريكا بشرط ألا تقام دولة فلسطينية    نميرة نجم: أي أمر سيخرج من المحكمة الجنائية الدولية سيشوه صورة إسرائيل    جونسون: الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين داخل الجامعات الأمريكية نتاج للفراغ    قوات الاحتلال تعتقل شابًا فلسطينيًا من مخيم الفارعة جنوب طوباس    استطلاع للرأي: 58% من الإسرائيليين يرغبون في استقالة نتنياهو فورًا.. وتقديم موعد الانتخابات    ريال مدريد وبايرن ميونخ.. صراع مثير ينتهي بالتعادل في نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    معاقبة أتليتيكو مدريد بعد هتافات عنصرية ضد وليامز    موعد مباراة الأهلي والإسماعيلي اليوم في الدوري والقنوات الناقلة    عمرو أنور: الأهلي محظوظ بوجود الشناوي وشوبير.. ومبارياته المقبلة «صعبة»    موعد مباريات اليوم الأربعاء 1 مايو 2024| إنفوجراف    ملف رياضة مصراوي.. قائمة الأهلي.. نقل مباراة الزمالك.. تفاصيل إصابة الشناوي    كولر ينشر 7 صور له في ملعب الأهلي ويعلق: "التتش الاسطوري"    نقطة واحدة على الصعود.. إيبسويتش تاون يتغلب على كوفنتري سيتي في «تشامبيونشيب»    «ليس فقط شم النسيم».. 13 يوم إجازة رسمية مدفوعة الأجر للموظفين في شهر مايو (تفاصيل)    بيان مهم بشأن الطقس اليوم والأرصاد تُحذر : انخفاض درجات الحرارة ليلا    وصول عدد الباعة على تطبيق التيك توك إلى 15 مليون    إزالة 45 حالة إشغال طريق ب«شبين الكوم» في حملة ليلية مكبرة    كانوا جاهزين للحصاد.. حريق يلتهم 4 أفدنة من القمح أسيوط    دينا الشربيني تكشف عن ارتباطها بشخص خارج الوسط الفني    استعد لإجازة شم النسيم 2024: اكتشف أطباقنا المميزة واستمتع بأجواء الاحتفال    لماذا لا يوجد ذكر لأي نبي في مقابر ومعابد الفراعنة؟ زاهي حواس يكشف السر (فيديو)    «قطعت النفس خالص».. نجوى فؤاد تكشف تفاصيل أزمتها الصحية الأخيرة (فيديو)    الجزائر والعراق يحصدان جوائز المسابقة العربية بالإسكندرية للفيلم القصير    حدث بالفن| انفصال ندى الكامل عن زوجها ورانيا فريد شوقي تحيي ذكرى وفاة والدتها وعزاء عصام الشماع    مترو بومين يعرب عن سعادته بالتواجد في مصر: "لا أصدق أن هذا يحدث الآن"    حظك اليوم برج القوس الأربعاء 1-5-2024 مهنيا وعاطفيا.. تخلص من الملل    هل حرّم النبي لعب الطاولة؟ أزهري يفسر حديث «النرد» الشهير (فيديو)    هل المشي على قشر الثوم يجلب الفقر؟ أمين الفتوى: «هذا الأمر يجب الابتعاد عنه» (فيديو)    ما حكم الكسب من بيع وسائل التدخين؟.. أستاذ أزهرى يجيب    هل يوجد نص قرآني يحرم التدخين؟.. أستاذ بجامعة الأزهر يجيب    «الأعلى للطرق الصوفية»: نحتفظ بحقنا في الرد على كل من أساء إلى السيد البدوي بالقانون    إصابات بالعمى والشلل.. استشاري مناعة يطالب بوقف لقاح أسترازينيكا المضاد ل«كورونا» (فيديو)    طرق للتخلص من الوزن الزائد بدون ممارسة الرياضة.. ابعد عن التوتر    البنك المركزي: تحسن العجز في الأصول الأجنبية بمعدل 17.8 مليار دولار    نصائح للاستمتاع بتناول الفسيخ والملوحة في شم النسيم    "تحيا مصر" يكشف تفاصيل إطلاق القافلة الإغاثية الخامسة لدعم قطاع غزة    القوات المسلحة تحتفل بتخريج الدفعة 165 من كلية الضباط الاحتياط.. صور    أفضل أماكن للخروج فى شم النسيم 2024 في الجيزة    اجتماعات مكثفة لوفد شركات السياحة بالسعودية استعدادًا لموسم الحج (تفاصيل)    مصدر أمني ينفي ما تداوله الإخوان حول انتهاكات بسجن القناطر    رئيس تجارية الإسماعيلية يستعرض خدمات التأمين الصحي الشامل لاستفادة التجار    الأمين العام المساعد ب"المهندسين": مزاولة المهنة بنقابات "الإسكندرية" و"البحيرة" و"مطروح" لها دور فعّال    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفن في مواجهة السلعة: لماذا نكتب القصّة القصيرة في »زمن الرواية«؟
نشر في أخبار الأدب يوم 28 - 04 - 2016

في ورقة قدّمها ضمن فعاليات مؤتمر جمعيّة النقاد الأردنيين عام 2008 الذي خُصّص لبحث القصة القصيرة، ذهب الناقد العراقيّ عبد الله إبراهيم إلي نفي أن تكون القصة جنساً أدبياً مستقلاً بذاته، بل قال باستحالة ارتقائها إلي "رتبة النوع القابل لتحوّلات حقيقيّة...كما نجد ذلك في الرواية،" واعتبر القصة القصيرة شكلاً سردياً ثانوياً مُغلقاً، مضيفاً أن الأدب لم يعد يحتمل "الحكاية المتخيّلة القصيرة المغلقة، لأنه انخرط في البحث، والتقصّي، وتمثيل المشكلات السياسيّة، والاجتماعيّة، والدينيّة،" وزاد علي أن محاولة الانفتاح في القصّة "ستجعل منها مشهداً سردياً في نصّ روائي."
بينما قال الناقد فخري صالح في مقدمة الكتاب الذي جمع أوراق المؤتمر ذاته، إن القصّة صارت "نوعاً أدبيّاً هامشياً،" وأن وضعها "يدعو إلي التساؤل،" وأنها "أخذت في التراجع واحتلال الصفوف الخلفيّة" مقابل أن "الزمن أصبح زمن الرواية لا زمن القصة القصيرة، وتوجّه اهتمام القرّاء إلي الرواية كنوع يحتلّ الصدارة في النشر والتوزيع،" في رجع صديً لما ذهب إليه جابر عصفور حين وصف الحقبة كلّها بأنها "زمن الرواية".
في هذه المقالة، سأُخضع هذه المقولات وأشباهها للنقد، وسأحاول الإجابة عن الأسئلة المركزيّة المتعلقة بماهيّة القصّة، ولماذا نكتبها، ولماذا نكتبها اليوم، ولماذا تنتشر الرواية وتتصدّر المشهد الأدبي بينما تتراجع القصّة والشعر إلي مراتب أقل في الانتشار والنجوميّة، وسأحاول في النهاية تقديم عرض للاتجاهات الجديدة أو المعاصرة في كتابة القصة وتطوّراتها.
ما هي القصّة القصيرة؟
أنا من القائلين بعدم وجود حدود واضحة ونهائية بين الأجناس الأدبية لا ينبغي قطعها، بل العكس: أري مستقبل الكتابة يقع في المناطق التخومية أو الاشتباكية لا بين أنواع الأدب فحسب، بل بين الآداب والفنون الأخري أيضاً، من سينما وتشكيل وموسيقي ورقص ومسرح وفوتوغراف، تشهد علي ذلك أعمالي الكتابية، وعلي الخصوص كتاب "أري المعني" الذي يحمل العنوان الفرعي: "سرد/موسيقي، أو: قصص علي تخوم الشعر."
لكن التخوم لا تُلغي وجود الأنواع، بل تؤكدها بشكل أو بآخر؛ فهناك أنساقا وهياكل عامة تجعلنا نميل أكثر إلي القول أن هذا العمل هو قصة / أقرب إلي القصة، رواية / أقرب إلي الرواية، شعر / أو أقرب إلي الشعر. حديثي اللاحق عن القصة القصيرة والرواية سيكون عن الأنساق والهياكل العامة بصفتها الشكل العام لا الشكل النهائي الإلزامي، مؤكداً في ذات الوقت- وجود كتابات لا ينطبق عليها النسق أو الهيكل العام للجنس الذي تُنسب إليه.
القصة القصيرة تحدٍّ جماليٍّ كبير وأدبي كبير: جغرافيا ضيّقةٌ يُصنع فيها تاريخ طويل بشكل توسّعي متسارع يشبه الانفجار الكبير، ومساحة محدودة ثلاثية الأبعاد ينبغي للكاتب أن يصنع فيها عوالمه وشخصياته بأبعاد الفيزياء المعاصرة الإحدي عشرة، مُحققاً الإدهاش أو التأمل أو كليهما في ذات الوقت. لذلك فهي فنٌّ صعبٌ يتطلب حساسيّة عالية، يضاف إليها إمكانيّات التكثيف والاستعارة والكتابة المتعددة الطبقات، والتوظيف غير المبتذل أو المستهلك للمفارقة.
لا علاقة للقصة القصيرة ب"التقاط مشهد" كما يُقال، بل هي تفجير المشهد وإعادة إنتاج عناصره. القصة القصيرة ليست تسجيلاً ل"لقطة"، تلك مهمة الصحفي لا الأديب، الأديب ينفذ من اللقطة إلي عوالم وطبقات متعددة. القاصُّ لا يسجّل، بل يسبر الأعماق والإمكانات والتشعبات.
تفتح القصة القصيرة مجالاً واسعاً للاشتباك مع الأجناس الأدبية الأخري، وفي مقدّمتها الشعر -ابن عمّها الأقرب منها كثيراً، برأيي، من شقيقتها الرواية-، بالإضافة إلي سهولة إدماجها أو استعمالها في الأنماط الكتابيّة التجريبيّة أو الهجينة.
تجنح القصّة إلي تحفيز التخييل عند المتلقي، وتعمل علي إشراكه في النص، أو لنقل: إشراكه في صناعة النص. وإن كان النص مُلكٌ للمتلقيّ، أو "يَخلقه" المتلقّي -بالمعني الفرديّ المحض، أو بمعني الفرد المتشكل داخل الجماعة أو المجتمع، بحسب فيرديناند دي سوسير وستانلي فِش-، فإن القصة تقف متميّزة في هذا المجال من حيث قدرتها علي دفع القارئ إلي الشراكة في النص وتخليق ما بعده (ما بعد النص)، وينطبق عليها ما يسميّه أُمبرتو إيكو: "نظام الترميز المرن" (flexible system of signification) حيث "يعتمد وجود النص نفسه لا علي مجرّد التأويل الحرّ فقط، بل وأيضاً علي التوليد التعاضديّ cooperative generation)) من قبل المتلقّي."
قام رولان بارت (الذي أنبأنا في مقاله الشهير عام 1967 بموت المؤلف بصفته سيّداً علي النص، وقيامة القارئ بصفته فاهماً ومؤّلاً للنص، وبالتالي خالقاً له) بتصنيف النصوص في نوعين بحسب درجة إشراكها للقارئ: "نص القراءة" الذي لا يترك للقارئ سوي حرية رفضه أو قبوله، والذي يكون فيه الكاتب "مُنتجاً"، والقارئ "مُستهلكاً خاضعاً"، والكتابة "انعكاساً للعالم الحقيقي (الواقعي)"؛ و"نص الكتابة" الذي يدعو القارئ إلي المشاركة الفعّالة فيه، وإلي المشاركة في بناء الحقيقة (الواقع).
القصّة بعوالمها المكثّفة والموحية وبأعماقها المستنبَطة ودلالاتها المتعددة المسكوت عنها تندرج ضمن النوع الثاني (نص الكتابة)، بينما تندرج الرواية بعوالمها المتكاملة، الموسّعة، البطيئة النموّ والتشكّل، والمكتملة الاستواء، في النوع الأول.
يخبرنا عالم الرياضيات والفيزياء البريطاني ستيفن هوكنج في كتابه "التصميم العظيم" كيف أن مجلس مدينة مونزا في إيطاليا منع مالكي أسماك الزينة من وضعها في أحواض كرويّة، لأن من شأن ذلك أن يقدّم لها صورة مشوّهة عن الحقيقة (الواقع)، حيث يعمل سطح الحوض الزجاجي الكروي كعدسة تعيد إنتاج العالم الخارجي بشكل مغاير في عينيّ السمكة. ويسترسل هوكنج بعدها، وعلي مدار فصل كامل عنوانه "ما هي الحقيقة (الواقع)"، ليشرح أن منظورنا للكون ليس أكثر حقيقيّة من منظور سمكة الحوض الكروي، وأن المنظورين متساويان في "الحقيقيّة" خاصّة وأن باستطاعتنا وضع نظريّة تصف العالم بشكل دقيق -
من داخل الحوض- كما يُري من داخل الحوض-، ويخلص إلي القول بأنه "لا يوجد مفهوم للحقيقة (الواقع) مستقل عن الصورة التي نمتلكها عنها أو النظرية التي نفسّرها بها." ويختم هوكنج الفصل بإيراد قاعدة هامّة وأساسية من قواعد الفيزياء الكمومية المعاصرة، هي قاعدة "التواريخ المتعددة" أو "مجموع التواريخ" للحدث الفيزيائي، وتفيد بأن الكون (أو أي حدث فيه) لا يمتلك وجوداً واحداً أو تاريخاً واحداً فحسب، بل إنه يوجد وبشكل متزامن- في كل حالة أو نسخة أو تاريخ ممكن.
قدّمتُ هذه المقاربة الفيزيائية لأربط بينها وبين مقولات بارت حول أنواع النص، فالرواية وعلاقتها بالقارئ الأقرب إلي "نص القراءة"، تشبه منظور حوض السمكة للعالم، (أو منظورنا نحن للعالم خارج الحوض): منظور أحاديّ مرتبط بِ، وغير مستقل عن، الصورة التي تقدّمها الرواية ككلّ متكامل. أما القصة، فهي أقرب إلي كونها "نص كتابة": لا تمتلك وجوداً واحداً، بل هي توجد في كل حالة أو نسخة ممكنة من التأويل أو التخييل أو التهويم، بحسب كلّ قارئ، وبحسب عمق كل قراءة.
كنتُ في مقابلة مع مجلة "وورلد ليتريتشر توداي" عام 2012- قد أشرتُ إلي هذه العلاقة الوطيدة بين القصة القصيرة (وتحديداً: القصة القصيرة جداً) وفيزياء الكمّ. فيرنر هيرتزوج، أحد أبرز الفيزيائيين في القرن الماضي وأحد أعمدة الفيزياء الكموميّة وواضع مبدأ اللايقين (the uncertainty principle)، يقول: "إن الذرّات والجزيئات الأوّلية نفسها غير حقيقيّة، بل هي تشكل عالماً من الإمكانات والاحتمالات بدلاً من عالم من الأشياء والحقائق." تنطبق تلك المقاربة علي القصة القصيرة التي تعمل علي الاشتباك مع القارئ وتوليد عوالم من الإمكانات والاحتمالات. كارل بوبر أحد أهم فلاسفة العلوم- كان يقول: "نحن لا نعلم علي وجه اليقين: بإمكاننا أن نخمّن فقط." هذا ينطبق أيضاً علي القصة القصيرة التي "لا تعلم"، لكنها تعمل علي فتح المساحات والفضاءات، بدلاً مُصادرتها.
فرانك أوكونر، القاصّ والناقد الأيرلندي، يقول مثل هذا الكلام بطريقته الحاذقة في كتابه الهام "الصوت المنفرد ا لمتوحّد" الصادر عام 1963. فهو يري أن صوت الرواية هو "صوت المجتمع"، أي صوت تسجيليّ، بينما صوت القصة القصيرة هو "صوت الفرد": صوتٌ مستوحشٌ متأمّل يعبّر عن موقف من، أو قراءة في، المجتمع أو الحدث الذي يقاربه الكاتب. ويري أوكونر أن الرواية "فن تطبيقيّ"، بينما القصّة القصيرة "فن خالص"، تتناول موضوعها بشكل "رأسي" أو عموديّ - وهذا يحيلنا إلي ما قُلته حول العمق وتعدد المستويات والدلالات في القصة-، بينما تتحرّك الرواية بأفقيّة. ويؤكد أوكونر أن عنصر الزمن لدي الروائي "يشكل قالباً جوهرياً من حيث النمو التاريخي للشخصية أو الحوادث"، لكن هذا العنصر غير جوهريّ علي الإطلاق للقاص، لأن القاص غالباً ما يختار "زاوية رؤية" للنظر إلي حادثة واحدة "تسع الماضي والحاضر والمستقبل" معاً، وهو أمرٌ يحيلنا إلي التاريخ ذو البعد أو الاتجاه الواحد، والمنظور الأحادي للحقيقة (الرواية)، مقابل الوجود المتزامن في كل حالة أو كل تاريخ ممكن (القصة).
الفرق بين الرواية والقصة القصيرة -بحسب أوكونر- ليس فرقاً في القالب (الطول والقصر)، بل هو فرق "أيديولوجي" من حيث أن الرواية ترتبط بالفكرة التقليدية "عن المجتمع المتحضر وعن الإنسان بوصفه حيواناً يعيش في جماعة"، بينما ترتبط القصة بما يسميه أوكونر "الجماعات المغمورة"، أي المأزومة والمتوتّرة والهامشيّة والمضطهدة والمعزولة، التي تعاني من الضغوط الاجتماعية (البغايا عند موباسان، المثقفون من أطباء ومدرسين عند تشيخوف، الموظفون عند جوجول)، وهذه الجماعات تتكاثر في المجتمعات الحافلة بالمتناقضات والتعقيدات الاجتماعية. يقول أوكونر: "يوجد في القصة القصيرة ذلك الإحساس بالشخصيات الخارجة علي القانون والتي تهيم علي حواف المجتمع.. ويوجد ضمن الخصائص الغالبة للقصة القصيرة شيء لا نجده كثيراً في الرواية: إنه الوعي الحاد باستيحاش الإنسان."
كلام أوكونر يعطينا فكرة أساسية هامة: أن الرواية ترتبط باسترخاء الكتابة، بينما ترتبط القصة القصيرة بتوتّرها.
لماذا نكتب القصّة القصيرة، ولماذا نكتبها الآن؟
ليس من عالم غارق في الاستيحاش والوحدة أكثر من عالمنا المعاصر اليوم: الاستهلاك يدفع الأفراد والمجتمعات دفعاً إلي الغرق في قوقعة الأنانيّة الخاصة، وبينما نشهد "ثورة" في عالم الاتصال، نشهد بالمقابل "ثورة مضادة" ناتجة عنها تتعلّق بالعزلة والانعزال داخل عوالم افتراضية محشورة في أجهزة الكترونية، وعزلة وانعزالاً أنانيّاً ناتجين عن مجتمع التنافس.
ليس من عالم موغلٍ في الخراب والاضطراب والتدمير الذاتي أكثر من عالمنا المعاصر الآن: بانفجاره السكاني، بحروبه ومجاعاته، بانهياره البيئي، بمذابحه واحتلالاته. مثل هذا العالم يمتلئ بجماعات أوكونر المغمورة، ويمتلئ بالمأزومين والمتوتّرين والهامشيّين والمضطهدين، الخارجين علي القانون الهائمين علي حواف المجتمع.
هذا هو عالم القصة القصيرة المثالي، من حيث هي أداة متميّزة فنيّاً وإبداعياً علي مقاربة مثل هذا العالم المتوتّر. نعود إلي أوكونر مرّة أخري: "الرواية بالضرورة هي نسقٌ من توحيد الهويّة بين القارئ والشخصيّة، ولا بدّ أن يمثّل واحد علي الأقل من شخصيّات الرواية القارئ في بعض نواحي فكرته عن نفسه، وعمليّة التعرّف هذه تقود دائماً إلي بعض الأفكار عن مفهوم الحياة السويّة وبعض الصلات مع المجتمع ككل... دون فكرة المجتمع السويّ، فإن إنتاج الرواية غير ممكن،" أما في القصّة " ف لا يوجد قالب اجتماعيّ يستطيع المرء أن يرتبط به ويعتبره مجتمعاً سويّاً.. لم يحدث أن كان للقصّة القصيرة بطل قط، وإنما لها بدلاً من ذلك مجموعة من الناس المغمورين."
عندما ننظر إلي مجتمعاتنا المعاصرة المفككة، خصوصاً في بلدان الجنوب والكثير من بلدان الشمال، سنري كم أن هذه المجتمعات هي أبعد ما يكون عن "المجتمعات السويّة"، وسنفهم كيف أن الرواية تشكل إنتاجاً للمخيال الرومانسي: العالم الذي يصنعه الروائيّ بديلاً عن أو موازياً أو انعكاساً للعالم الواقعي، بينما تذهب القصّة إلي منطقة الاصطدام المباشر مع المجتمع أو التشكل السياسي/الاجتماعي.
بعد كل هذا الكلام عن تميّز القصّة القصيرة وراهنيّتها، بل وضرورتها، لماذا فقد هذا الفن الكتابيّ مركزيّته التي كان يتمتع بها، وصار هامشياً أمام اكتساح الرواية؟
الرواية، أو الكتابة بصفتها وحدة استهلاكية سلعيّة
مقاربة الرواية في مقالة موضوعها الأساسي: "القصّة القصيرة"، ليس أمراً اعتباطياً لاعتبارين: الأول هو أن كلا الجنسين ينتميان لجذر "السّرد"، وإن تشعّبا عنه ليصيرا نوعين مُستقلين، لكن يظلّ ذكر الواحد منهما يستدعي الآخر حتي علي مستوي التعريف مثلما يحصل في كتاب فرانك أوكونر الذي ذكرته سابقاً، وهو كتاب عن القصة القصيرة، لكنه ولإيضاح مقولاته الرئيسية- يستند دائماً علي مقارنات مع الرواية؛ الثاني هو أن القائلين بأهمية الرواية ومركزيّتها في عصرنا الحاليّ يدلّلون علي مقولتهم هذه ب"هامشيّة القصّة القصيرة" وأفول عصرها.
طبعاً لن يستطيع أحد إنكار حجم اهتمام القرّاء والنقّاد والناشرين بالرواية، ولن يستطيع أحد التعامي عن نسب المبيعات الأعلي التي تحققها الرواية، وهنا سأطرح سؤالين لأجيب عنهما: لماذا نجحت الرواية في الانتشار؟ وهل ما ينجح مبيعاً وانتشاراً يعني بالضرورة نجاحه وتفوّقه الفنيّ؟
تنتشر الرواية لأنها أيسر أنواع الأدب علي المتلقّين (ويجب التنويه هنا أن سهولة تلقي الرواية لا تعني سهولة كتابة الرواية، أو أن الرواية أقلّ شأناً من الأجناس الأدبية الأخري كما يذهب إلي ذلك أوكونر). وبخلاف القصة القصيرة والشّعر، اللذين يعتمدان علي التكثيف والرمز وتعدد المستويات الدلالية والتخييل والايحاء والاستبطان، ودفع القارئ والمتلقّي إلي إرهاق نفسه في توليد الصور والأخيلة والإمكانات والاحتمالات التي يستنبطها ضمن مساحة أفقية محدودة من الصفحات والأحداث والشخصيات، وفي سياق زمنيّ مندغم أو متفجّر؛ تفرد الرواية نفسها علي مهل، وعلي صفحات كثيرة، وتُبني فيها الأحداث والشخصيات وتنضج ببطئ، وتُبني العلاقات بين الشخصيات الرئيسية والفرعية وبين الأحداث الرئيسية والفرعية بمنطقيّة، وتُبني أيضاً العلاقات بين الشخصيات الروائية والقارئ علي مهل وضمن سياق زمنيّ أطول -نسترجع هنا ما أورده أوكونر حول "توحّد الهويّة" بين القارئ والشخصيّة الروائية، وانعدام ذلك في القصّة-. تلتزم الرواية بتراتبية زمنية أقرب إلي المنطقية أو الحتميّة، حتي ولو استعملت فيها تقنيات الاسترجاع أو القفز في الزمن، فلا بدّ من العودة دائماً إلي السياق الكرونولوجيّ الأساسي العام للحكاية والذي يسير باتجاه واحد إلي الأمام.
ولعل المقولة المقتبسة عن الروائي الأميركي توم كلانسي تقدّم لنا تكثيفاً عن الرؤية الروائية: "الفرق بين السرد المتخيّل والواقع؟ السرد المتخيّل يجب أن يكون منطقيّاً." هذا منطق الرواية وليس منطق القصّة أو الشعر.
كل ما ورد من تقنيّات الرواية، يُسهّل فعل التلقّي، ويزيد من جرعة التشويق (الرغبة في معرفة ما سيلي من أحداث). ولأن الرواية أطول، فالقارئ يقضي زمناً أكثر معها ومع شخصيّاتها، مما يسهّل أيضاً ارتباط المتلقّي بالشخصيّة/الشخصيّات، وتأثره بها، وتذكّره لها (علي مستوي الوعي المباشر)، وهذا لا يتحقّق في القصّة القصيرة إلا في نصوصها الطويلة.
النصوص الأقصر لا تعلق شخصيّاتها ولا أحداثها في الذاكرة المباشرة، لكنّها تعمل علي مستويات الوعي الأعمق. فمن مثلاً- سيتذكر أية شخصية من شخصيات كتاب إيتالو كالفينو القصصي "المدن اللامرئية"؟ باسثناء ماركو بولو (الراوي) وقبلاي خان (المستمع) اللذان لا دور لهما في قصص الكتاب الخمسة والخمسين القصيرة جداً، لا يوجد شخصيات علي الأطلاق، فأبطال القصص مدنٌ متخيّلة. لكن قوّة هذا الكتاب القصصي الصغير، وتأثيره العميق من خلال حفره في العلاقة بين الإنسان والبيئة والمكان، وتحفيزه للخيال الفراغيّ، واشتغاله علي تخييل الأبعاد الجيوميتريّة، حوّلته إلي علامة من علامات الأدب، ومقرّراً في أغلب كليات الهندسة المعمارية في أوروبا والولايات المتحدة. لن يستطيع "جمهور القُرّاء الواسع" بناء علاقات شخصيّة مع مثل هذا الكتاب، وربما لن "يتشوّق" هذا الجمهور لقلب صفحاته أبداً.
العوامل التي تجعل من الرواية الجنس الأدبي الأكثر قرباً من القارئ لم تغب عن صناعة النشر وهي الأخري تبحث عن الربح، وتبحث عن إيجاد "سلعة" للاستهلاك الواسع والجماعيّ. انتبهت صناعة النشر إلي أن الرواية في إطارها العام وجبة كتابية أسهل للهضم، وبالتالي ثمة إمكانية لتحويلها إلي وحدة استهلاكية ذات انتشار أوسع. هكذا صارت الرواية -من حيث هي أكثر الأجناس الأدبيّة سهولة للاستهلاك القرائيّ، وبالتالي أقدر الأجناس الأدبية علي الانتشار الواسع-، الابنة المدللة للناشرين، وتحوّلت بإمكاناتهم إلي "السلعة الأدبية" (بتشديد ال التعريف الاولي)، وفُردت لها مساحات الترويج الصحفي والإعلان والنجوميّة والجوائز، وخُصّصت لها الصفوف الأولي في معارض الكتب والأنشطة الملحقة بها، وهذه كلّها وسائط يتحكّم بها الناشر وصناعة النشر بشكل مباشر أو غير مباشر.
ولحق كثرةٌ من النقّاد بذلك القطار، مع ما حصل من تسطيح للنقد وتحويله إلي كتابة انطباعية مجاملاتيّة: ففي عالم الترويج، لا مكان للنقد العميق؛ والكتابة عن الرواية مطلوبة، ويضمن بها الناقد "نجومية" من خلال نجوميّة الرواية، وقد يُستدعي الناقد للتحكيم في جوائز الرواية الكثيرة، أو يُدعي إلي مؤتمرات وورشات وندوات الرواية التي لا تنتهي، وهذه كلّها مدفوعة الأجر وتحقق شيئاً من المنفعة المالية إضافة إلي "النجومية" والاعتراف.
كل تلك العوامل تضافرت بشكل تعاضديّ وتراكميّ في سلسلة من التغذية الذاتيّة المستمرّة لترويج الرواية والروائيين أكثر فأكثر: الدعاية والترويج والصحافة والجوائز المالية والمعارض والمؤتمرات والنجوميّة والترجمة وتحويل النصوص الروائية إلي أفلام ومسلسلات تدرّ المزيد من الأموال والنجوميّة (أو تحفّز الحلم بها). هكذا اندفع قصّاصون وشعراء إلي الهجرة إلي الرواية وإهمال ما كانوا يشتغلون به قبل صعود أرض الأحلام الجديدة تلك، بل عكف كثير ممن لا يملكون لا الموهبة ولا الحرفيّة ولا أدوات الكتابة البسيطة إلي اقتراف الرواية، لعل وعسي أن تضيء نجمة الحظ، وفي حالة البعض: أضاءت.
لا علاقة للنجاح التجاري للرواية بالحرفيّة الأدبية، بل قد نلمس العكس في كثير من الحالات، فالروايات الناجحة تجارياً كثيراً ما تكون ضعيفة فنيّاً، وأمثلة ذلك كثيرة؛ فيما قد تنجح روايات أخري من خلال قضايا غير إبداعية تحمل الكتابة علي ظهرها، مثل القضية الفلسطينية، أو المأساة السوريّة، أو المنع والمصادرة، أو جنس الكاتب، أو علاقات الكاتب العامة وقدرته علي ترويج نفسه بوسائل الترويج المختلفة.
"زمن الرواية" لا يعني أن الرواية "متفوقة" بالمعني الجمالي أو الوظيفي، ولا يعني أنها الجنس الأدبي الأكثر شرعية في حقبة زمنيّة ما هي عالمنا المعاصر، لكنّني لا أبتعد كثيراً عن الواقع إن قلت أنه يؤشر علي أمرين هامّين:
أنه زمن الرضوخ لطلب المستهلك (القارئ) المتعلّق بالتشويق وتمهّل البناء والتسلسل والارتباط العاطفيّ بالشخصيات أو التمثّل بها. يعلّق الكاتب ستيفن لَندِن علي جملة توم كلانسي الواردة سابقاً: "ليكون السرد المتخيّل منطقيّاً، علي المؤلف أن يكتب كقارئ." أعتقد أن هذا التعليق يلخّص الأزمة.
أنه زمن الادّعاء والبحث عن النجومية والسعي للتكسّب المالي، وهو أمر ينسحب علي كثير من جوانب الحياة الأخري.
اتجاهات تطوّر القصة القصيرة العربية ومستقبلها
خلال ملتقي عمّان الثاني للقصة القصيرة (أيلول 2010)، طالب روائيون ونقّاد بفكّ الاشتباك بين القصة والشعر، وتنظيف القصة من اللغة الشعريّة، واعترضوا علي مساحات التجريب في القصة، واعترضوا علي "القصة القصيرة جداً"، ودعوا للعودة إلي لغة متقشفة في الكتابة، وضرورة وضع "ضوابط" للقصة ورسم حدود واضحة ومحددة للنوع القصصي. كان هذا ما سمّيته في مقال لي نشر حينها: محاولةً ل"قتل" القصة القصيرة، بواسطة مصادرة أدوات تطوّرها.
في البيولوجيا، تعتبر قدرة الكائن علي التطور أو عدمها، واحدة من السمات ا لأساسية التي يتم من خلالها تعريف ما هو "حيّ" وما هو "غير حيّ". لكي يصنّف الكائن "حيّاً"، ومن ضمن خواص أخري، عليه أن يمتلك القدرة علي التطور. الكائن الذي لا يمتلك القدرة علي التطوّر، لا يُنظر إليه بصفته كائناً حيّاً. التجريب والتجديد في الشكل والموضوع هو الآلية الوحيدة لتطوّر القصة القصيرة. ولذلك فإن الكتّاب والنقّاد الذين يطالبون بالتوقف عن التجريب وإلغاء أدواته، يُلغون أدوات تطور القصة، وبالتالي يلغون أحد أهم سمات حياتها واستمرايتها.
الكتابة التي تسمي الآن "كلاسيكية" لم تكن عند ظهورها كذلك، بل كانت كتابة جديدة. في اللحظة التي تنضج فيها الكتابة الجديدة وتستنفد إمكاناتها، تصير "كلاسيكية"، ويصير من الضرورة تجاوزها لبقاء النوع الأدبي واستمراره. وكما أن تطور الأنواع البيولوجية واندثارها لا يخضع لقصدية ما، فإن ذلك ينطبق تماماً علي تطور واستمرارية أو اندثار الأنواع الأدبية، فهو أيضاً لا يخضع لقصدية ما، بل يخضع لصيرورة تطوريّة تجعلها قادرة علي الاستمرار، أو تكون عاجزة عن التطوّر فتندثر مثلما اندثرت العديد من الأنواع البيولوجية. الأنواع الأدبية التي انقرضت لم تخضع لعملية إعدام ما في لحظةٍ ما علي يد شخصٍ ما، بل تدهورت علي مسار انعدام تطوّرها إلي أن اندثرت، والتنظير ضد إمكانيات وآفاق التجريب في القصة سيحرمها من أهم أدواتها التطورية، وهو ما سيؤدي إلي اندثارها في النهاية.
بعيداً عن بدايات القصة القصيرة في العالم العربي (مَن أول مَن كتبها وأين ظهرت أولاً)، سأبدأ مما أعتقده نضوجاً كبيراً في قصتان مبكرتان لدي شحاته عبيد ("الغيرة العمياء"، 1922) ومحمود طاهر لاشين ("يحكي أن.."، 1925)، وكلاهما من مصر، خصوصاً من حيث الشكل والبناء والفكرة، وكأنهما مكتوبتان اليوم؛ وأعتقد أن مثل هاتان القصّتان كانتا مقدّمة لظهور أساتذي القصة القصيرة "الكلاسيكيّة" في مصر: نجيب محفوظ ويوسف إدريس. مثل هذه القصص المدهشة المبكرة كان لها تأثيراً مشابهاً لتأثير القاصّ البرازيلي "ماشادو دي أسيس" (1839-1908) "الأكثر حداثة من معظم الحداثيين أنفسهم" (برأي جاك شميت ولوري إيشيماتسو، ونحن نتحدث هنا عن قصص كتبت نهاية القرن التاسع عشر) علي صعود الكتابة الغرائبية المميّزة لأميركا اللاتينية، ومعلّمها الأول القصّاص خورخي بورخيس (1899-1986) الذي أثر بدوره وبعمق- علي كتاب تلك القارة اللاحقين ؛ أو تأثير القاص الروسيّ العظيم نيكولاي غوغول (1809-1852) الذي قيلت فيه عبارة: "كلنا خرجنا من معطف جوجول" المنسوبة حيناً إلي تيرجنيف وحيناً إلي دوستويفسكي، والإحالة هنا طبعاً إلي قصة جوجول الشهيرة "المعطف الثقيل"، ومنجزه القصصي بشكله العام.
الشكل "الكلاسيكي" الخاص بالكتابة القصصيّة في مصر لم يجد منفذاً تطوريّاً رغم حفاظه علي مستواه العالي علي يد قصّاصين من أجيال لاحقة (مثل سعيد الكفراوي)، بينما كان الكتّاب خارج مصر أكثر انفتاحاً علي التجريب فانتقلت "أستذة القصة القصيرة" -إن جاز لنا التعبير- إلي كتّاب خارج مصر مثل زكريا تامر وحيدر حيدر في سوريا، ومحمد زفزاف في المغرب، ومحمد خضيّر في العراق، الذين قاربوا الكتابة القصصية بأساليب جديدة مبتكرة اعتمدت علي الفانتازيا والتخييل، وعلي مقاربة مواضيع القمع والاضطهاد والأزمات الاجتماعية والسياسية من زوايا جديدة تختلف كثيراً عن زوايا الرؤية المعروفة في المدرسة الواقعية.
في الثمانينيات ظهر في مصر قاصّ أستاذ ومجدّد اسمه محمد المخزنجي، امتاز بحساسيّة مغايرة، وترك علامات أسلوبيّة في الكتابة القصصية أسّست لكتابة جديدة "تجاوزيّة" للواقعيّة الكلاسيكيّة التي طبعت الكتابة في مصر؛ وتحرّك نجيب محفوظ نفسه (وهو الذي ختم حياته قاصّاً بست مجموعات قصصيّة) إلي مواقع تجريبية عندما قدّم عام 1995 كتاباً رائعاً في القصة القصيرة جداً والكتابة الهجينة: "أصداء السيرة الذاتيّة"، وهو ما يشير إلي انزياح تجديدي نجد صداه اليوم في اتجاهات كتابية جديدة وطازجة في مصر.
تعمل القصة القصيرة اليوم علي تفجير طاقات سرديّة مختلفة في النص القصصي عبر آليات متعددة منها علي سبيل المثال لا الحصر: اللغة أو الموضوعات أو الحساسيّات الشعرية والاستفادة من شعر النثر، استعمال تقنيات الصدمة والصفعة والفجاجة، التفاعل مع القارئ وادخاله في بناء النص القصصي، الاختصار والتكثيف، استعمال الطبقات المتعددة والمتداخلة في بناء النص القصصي، اللولبيّة في بناء زمن النص والحدث ومكانه وشخوصه وأحداثه، المشهدية واستعمال تقنيات حركة الكاميرا السينمائية، الغرائبية والسوريالية والهلوسة والأحلام، غياب الشخصيات وتواريها وذوبانها، الالتباس في الشخصيات أو الأحداث، ادخال عناصر غير كتابية إلي داخل النص الكتابي مثل الجرافيك أو الصورة أو اللوحة، عدم التقيد بزمن تقليدي لصيرورة القصة، استعمال الهوامش كامتدادات أو اضافات للنص الأصلي.
"تجريبيّة" القصة القصيرة يجب أن تبني علي القصديّة: أيْ أن الكاتب يعي ويقصد الأدوات التي يستعملها والأشكالَ التي يتبنّاها في مقارباته الكتابيّة؛ أو أنه يكتب مُستبطناً في عقله كمّاً كبيراً من القراءات في الفلسفة والعلوم والآداب وباقي فروع المعرفة. علي الكاتب أن يمتلك فلسفة الانتقال ووعيه، وفلسفة تبنّي الشكل الفني الجديد ومبرراته؛ بخلاف ذلك، يكون الكاتب مُدّعياً وسطحياً. القاصون غير المتمكنين فنياً و/أو لغوياً، وأضيف إليهم اولئك غير المتمكنين معرفياً وغير المطلعين بمثابرة علي جديد العلوم والفلسفة وفنون السينما والمسرح والتشكيل والموسيقي وتطوّراتها المتسارعة، يهربون إلي التجريب السطحي في الشكل و/أو الموضوع، فتخرج قصصهم بلا معني، وبلا عمق، وبلا دهشة، وبلا متعة، وبلا موضوع، يصبح الافتعال فيها واضحاً، والقصدية غائبة، فتخرج القصص رديئة.
القصة القصيرة فن هائل الامكانات، تطوّر بشكل كبير منذ كبار الكتاب الكلاسيكيين وحتي الكتاب التجريبين من المراحل المختلفة اللاحقة. بل إني أزعم أن القصة القصيرة تطوّرت نوعيّاً أكثر من الشعر والرواية، من جهة البُنية علي الأقل: فهناك القصة الطويلة القصيرة، والمتتاليات القصصية، والقصة القصيرة جداً، والقصة الومضة، وما يسميّة ادوار الخراط "القصة القصيدة"، وتم فيها توظيف اللغة الشعريّة، والاشتغال علي التهجين.
طاقات السرد القصير الكامنة ما زالت كثيرة ومتنوعة، ولأن القصة منفتحة علي التهجين والتجريب، فستظل آفاقها غير محدودة. ستظل القصة القصيرة حيّة طالما امتلكت أكسيرها الأهم وهو القدرة علي التطور. وعلي العكس من التوقعات المتشائمة السائدة، فإن القصة تمر في مرحلة انبعاث جديدة؛ وما فوز القاصّة أليس مونرو بنوبل الآداب لعام 2013، وجائزة البوكر الدوليّة للسرد لعام 2009؛ وفوز القاصة ليديا ديفيز عام 2013 بنفس هذه الجائزة الأخيرة، إلا مؤشرات علي هذا الانبعاث، رغم أن الخطر الواقع عليه كبير من جهة النصوص القصيرة، السطحية والسخيفة والمبتذلة والجاهلة، التي تطبع اليوم شكل الكتابة في وسائل التواصل الاجتماعي.
المراجع (بحسب ورود ذكرها أو الاقتباس منها أو الاستناد عليها في النص).
غسان عبد الخالق (محرّر)، القصة القصيرة في الوقت الراهن: أعمال مؤتمر النقاد الأردنيين الخامس 16-18 آب 2008 (عمّان: أزمنة للنشر والتوزيع، 2011).
جابر عصفور، زمن الرواية، (دمشق: دار المدي، 1999).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.