برلمانية المؤتمر: تعديلات قانون الكهرباء خطوة ضرورية لحماية المرفق    «الشيوخ» يوافق على مشروع تعديل بعض أحكام قانون الكهرباء من حيث المبدأ    رئيس جامعة بني سويف: 76 ألف طالبًا يؤدون امتحانات الفصل الدراسي الأول    مؤشرات إيجابية للصادرات غير البترولية خلال الفترة من يناير حتى نوفمبر 2025 |إنفوجراف    محافظ القاهرة: تصدر العاصمة مدن أفريقيا الأكثر تأثيرًا يمثل تكليفًا لجهود الدولة    160 مليار جنيه لدعم التموين في 2025.. «كاري أون» أكبر سلسلة تجارية حكومية تنطلق لتطوير الأسواق وتأمين الغذاء    نائب وزير الإسكان يستقبل مسئولي إحدى الشركات التركية لبحث فرص التعاون في مشروعات المياه والصرف الصحي    تصاريح الحفر لمد الغاز بقرى «حياة كريمة» وخطة لتوصيل الخدمة ل6 مناطق سكنية في 2025    شعبة المواد الغذائية: رفع حد التسجيل في «القيمة المضافة» إلى 3 ملايين جنيه ضرورة لدعم التجار وتحفيز الاقتصاد    مقتل 9 وإصابة 10 آخرين في إطلاق نار بجنوب إفريقيا    اقتصادي: انعقاد منتدى الشراكة الروسية الإفريقية بالقاهرة يؤكد الدور المصري في دعم التنمية الاقتصادية للقارة السمراء    سبورتنج يعلن قائمته لمواجهة الأهلي في كأس السوبر المصري لسيدات السلة    محافظ أسيوط: استمرار تدريبات المشروع القومي للموهبة الحركية    المؤبد لديلر قتل زبونه بالخرطوش في المرج    البحيرة.. ضبط 3 محطات وقود بالدلنجات لتجميعها وتصرفها في 47 ألف لتر مواد بترولية    مصرع شخصين وإصابة ثالث إثر انقلاب سيارة أعلى كوبري أكتوبر بالشرابية    حبس عاطل 4 أيام بعد ضبطه بحوزته 20 فرش حشيش بالجيزة    الجمهور استقبله بالورود.. تامر حسني يغني للعندليب في أول حفل بعد أزمته الصحية    الأقصر تتلألأ في يوم الانقلاب الشتوي.. الشمس تتعامد على مقصورة قدس الأقداس بمعابد الكرنك في مشهد فلكي ومعماري مدهش    أجندة قصور الثقافة هذا الأسبوع.. حفلات ليالي الفن تضيء العام الجديد    وزير الثقافة ومحافظ القاهرة يتفقدان متحف الشمع لوضع خطة عاجلة لتطويره    تاريخ من الذهب.. كاف يستعرض إنجازات منتخب مصر فى أمم أفريقيا    الاحتلال الإسرائيلي يقتحم مدينة قلقيلية ‫ويداهم بناية    وزير الخارجية يعقد اجتماعًا ثلاثيا حول ليبيا مع نظيريه الجزائري والتونسي    «المصدر» تنشر نتيجة الدوائر الملغاة بالمرحلة الأولى من انتخابات مجلس النواب    وزير الخارجية يلتقي نظيره المالاوي    حيماد عبدلي: منتخب الجزائر يسعى للذهاب بعيدًا ببطولة أمم أفريقيا    وزير الخارجية يلتقي نائبة وزير خارجية جنوب إفريقيا لبحث سبل تعزيز العلاقات الثنائية    الصحة: إغلاق 11 مركزًا خاصًا للنساء والتوليد ب5 محافظات لمخالفتها شروط الترخيص    أبرز المسلسلات المؤجلة بعد رمضان 2026.. غادة عبد الرازق ونور النبوي في الصدارة    "معلومات الوزراء" يستعرض أبرز المؤشرات الاقتصادية العالمية للعامين 2025 و2026    «الرعاية الصحية» تطلق حملة للمتابعة المنزلية مجانا لأصحاب الأمراض المزمنة وكبار السن    رئيس جامعة الازهر يوضح بلاغة التعريف والتنكير في الدعاء القرآني والنبوي    من مصر منارةً للقرآن إلى العالم... «دولة التلاوة» مشروع وعي يحيي الهوية ويواجه التطرف    د.حماد عبدالله يكتب: "اَلَسَلاَم عَلَي سَيِدِ اَلَخْلقُ "!!    تكريم لمسيرة نضالية ملهمة.. دورة عربية لتأهيل الشباب في حقوق الإنسان تحمل اسم محمد فايق    مواقيت الصلاه اليوم الأحد 21ديسمبر 2025 فى المنيا    فريدة سيف النصر تنعي سمية الألفي بكلمات مؤثرة وتسرد ذكرياتهما معاً    ضبط قضايا اتجار في النقد الأجنبي بالسوق السوداء بقيمة 3 ملايين جنيه    انطلاق الجلسة العامة لمجلس الشيوخ لمناقشة تعديلات قانون الكهرباء    الري تتابع إيراد النيل.. تشغيل السد العالي وإدارة مرنة للمياه استعدادًا للسيول    وزارة التموين تطلق قافلة مساعدات جديدة بحمولة 1766 طنًا لدعم غزة    استمرار تدريبات المشروع القومي للموهبة الحركية لاكتشاف ورعاية الموهوبين رياضيًا بأسيوط    إصابة 14 عاملا فى حادث انقلاب أتوبيس بالشرقية    نقابة صيادلة القاهرة تكشف حقيقة عدم توافر أدوية البرد والأمراض المزمنة    مواعيد مباريات اليوم الأحد 21-12- 2025 والقنوات الناقلة لها | افتتاح أمم إفريقيا    محافظ القاهرة يعتمد جدول امتحانات الفصل الدراسي الأول للعام 2025    شهر رجب.. مركز الأزهر العالمي للفتوى يوضح خصائص الأشهر الحرم    خطة أمريكية بقيمة 112 مليار دولار لتحويل غزة إلى ريفييرا الشرق الأوسط    نادي المقاولون العرب يعلن تعيين علي خليل مستشارا فنيا لقطاع الناشئين    النادى الذى فقد نجمه!!    الصحة: فحص 8 ملايين طالب ابتدائى ضمن مبادرة الكشف المبكر عن «الأنيميا والسمنة والتقزم»    الصحة: فحص أكثر من 20 مليون مواطن في مبادرة الكشف المبكر عن الأمراض المزمنة    الإسكان الاجتماعي لصاحبة فيديو عرض أولادها للبيع: سنوفر الحلول الملائمة.. والحاضنة لها حق التمكين من شقة الإيجار القديم    عضو بالأرصاد: أجواء مستقرة ودرجات حرارة طبيعية خلال الأسبوع الجاري    حبس المتهم بقتل زميله وتقطيع جثمانه إلى أربعة أجزاء وإخفائها داخل صندوق قمامة بالإسكندرية    علاء نبيل: حذرت أبو ريدة من الصدام بين طولان وحسام حسن قبل كأس العرب    ندوة بمعرض جدة للكتاب تكشف «أسرار السرد»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مصحة أنيس الرافعي:
قبائل من الدمي داخل غاليري متخيل!
نشر في أخبار الأدب يوم 03 - 05 - 2015

قشعريرة اعترتني وأنا ألج وجلا هذه (المصحة) العامرة بالدمي من مختلف القبائل والجنسيات والأنواع، فبأي طقوس جمالية كتبت، وبأية أنامل وضعت دعائمها، وبأي هندسة صممت أقسامها و أجنحتها؟ صاحب هذه (المصحة)، هو الكاتب المغربي أنيس الرافعي، من الحمراء المرابطية قادم ليُجاور الأزرق الأطلسي في هيجانه وسكونه. آتٍ هو للإبداع القصصي عبر إيقاع التجديد والاختلاف، لا ليُحاكي الغابة ويحكيها، وإنما ليشعل النار بين أوصالها، وليكتشف بداخلها مسارات ومسالك وطرقات غير مأهولة
العمل مثل آلة لا تتعب
فيما مضي، كانت الكتابة مسبغة بطابع ميثولوجي وسحري وميتافيزيقي. كان للشاعر ملهمة أو جنية أو إله أو ربة. وكان الكاهن الذي يضطلع بمهمة التدوين يشتغل وسط جو متخم بالممارسات الطقوسية وملفوف بالعوالم الغيبية والكواليس الإلغازية. كان فعل الكتابة نوعا من الطلاسم غير المتاحة للجميع. فهل يمكننا الحديث عن هذا الفعل في زمننا الراهن؟ وخاصة ما تعلق منه بالكتابة القصصية؟
إن الكتابة طقس له طقوس، ولا بد له من تحضير أولي. وفعل التحضير مستهل هذه الطقوس التي تتميز بالثبات، فمهما تغيرت الظروف لابد أن الكاتب يستعد لممارسة هذا الفعل ولو في أبسط الحيثيات اللصيقة به. فضلا عما يواكب هذه العملية من شطب وحذف وترقيش وتمزيق للمسودات. لتختتم الطقوس بتقطير عصارة التفكير وإنزال الفكرة في إطار لغوي وتجنيسي ملائم. وإن الكتابة القصصية الحديثة، اليوم ، تشكل نوعا من القطيعة مع أنماط الكتابة القديمة أو يمكن القول إنها تمثل نقدا(فنون القول القديمة)، لكنها بالمقابل مازالت محتفظة بهالتها وإجراءاتها الطقوسية، وإن بشكل مغاير.
إذن، للكتابة طقوس خاصة. نوع من الاستعداد لدخول المعبَد وأداء الصلاة. المعبد هنا، في حضرة قاصٍ وضّاء، أنيس الرافعي هو، الوالج بجسارة المعرفة إلي عوالم التخييل الشائكة، أما الصلاة فهي تلك العملية الراقية والنخبوية (اللاهوتية إن أمكن القول) للحكي. ولقاصنا أنيس الرافعي، طقوسه الخاصة في الكتابة. فالمقام يكون غالبا في المقهي، حيث القهوة السوداء في الفنجان وضجيج الحضور وصَخَب حكي الناس. في المقهي، حيث يعمل مثل آلة لا تتعب وهو يخيط حروفه كلمات، والكلمات جملا، والجمل قصصا. يعتمد أنيس في كتابته القصصية علي تلك الممزقات (المِزَق) من الورق، والبقايا، تلك الشرذمات اليتيمة الحائلة، ليُنزل عليها ما تخيّله، وكأني به عند الانتهاء من تحبيرها، والبدءِ في إعادة نقلها إلي الحاسوب، يذهب بها حيث يلمها بين أطواء كتب قصصية، أو بالأحري في (مصحة) علي شاكلة مجموعته الأخيرة. تري هل مس الحروف والكلمات والجمل عطب ما اقتضي أن تحتاج الدخول علي عجل إلي أقرب (مصحة)؟
لا، إنها ليست (مصحة) بالمعني الطبي الخالص للكلمة، بل هي عبارة عن ( فوتوغرام حكائي)، يتشكل من قسمين، هما: (قسم الإرشادات) و(قسم الأشعة)، وكذا من (فوتومونتاج سردي) قوامه ( نسيجة)، تبين الأساس النظري الذي حكم المؤلف في هندسة معمار الكتاب، و(مدونة للدمي) هي بمثابة أنطولوجيا وجيزة أو بحث مصغر في العالم الغامض والسحري للدمي في مختلف المرجعيات والثقافات. أما (حكايات الفوتوغرام) فقد توزعت علي سبعة أجنحة هي: (جناح الغصص، جناح الأورام، جناح الهلاوس، جناح العاهات، جناح الشظايا، جناح الفصام، وجناح العدم). وتم تذييل الكتاب بسجل تعريفي للصور الفوتوغرافية المصاحبة لبعض من كبار صانعي الصور الشمسية الآلية ممن اشتغلوا علي موضوعة الدمية.
يحضر في المجموعة القصصية شتيت من الحواشي والهوامش والإشارات، ينير المتخيّل القصصي لأنيس الرافعي، ويفتح منافذ عدة علي ورشه الإبداعي الزاخر، ويدعو القارئ بشكل غير مباشر إلي ربط اللاحق بالسابق ، أي إعادة قراءة وتأمل نصوصه القصصية السابقة (المُخلص لها أسلوباً ، لكن الهادم لها في كل مرة لغة وتخييلا ومعمارا).
حكم ذاتي غير خاضع لسلطة التجربة
لا يستطيع القارئ أن يتدبّر كتابة الرافعي خارج مدارها الجماليّ المتعلق بالفتوحات التجريبيّة والقصة الجديدة. فهو ينطلق في حكيّه القصصي من الواقعي لينتهي عند التجريدي، في مسار من التجريب داخل عوالم القصة القصيرة المغربية والعربية: وهذا بادي المعالم والوضوح منذ مجامعيه القصصية الثلاث الأولي، الموسومة: (أشياء تمر دون أن تحدث فعلا ، والسيد ريباخا، والبرشمان)، وأيضا في فيما تلاها من أعمال: (ثقل الفراشة فوق سطح الجرس واعتقال الغابة في زجاجة)، وكذا في مجموعته البهية الحمراء كأسوار مراكش حيث تدور حكاياتها، (أريج البستان في تصاريف العميان)، فضلا عن مجموعته (الشركة المغربية لنقل الأموات)، التي اعتمدت شكلا قصصيا وبنية كتابية نادرة الحدوث في شكل الكتابة المغربية، وذلك النقل المعلوماتي المصبوغ بألوان الجذب الكناوي قبل الولوج لأي قصة، هو بصمة خاصة بالقاص، عتبات خاصة بعيدة عن الإتيان بعتبات من كتاب آخرين. وهو النهج الذي تواصل بشكل جلي ، علي الأخص في مجموعته الأخيرة (مصحة الدمي)، موضوع هذه الورقة. إن الحديث عن التخييل عند أنيس الرافعي في شتي منجزه ، هو حديث يقود توا إلي جماليات الابتعاد عن الكتابة التقريرية، المتناسلة في بيت الأسلوبية الواحدة، التي تنتهِجُها أقلام كثيرة، غير قادرة علي الابتعاد عن المدارس الأفقية التي كرست لنفسها تلك الأفاق عُنْوةً. أنيس الرافعي يأتي من جهة أخري وغير متوقعة للحكي والأسلوبية فيه، ولو أنه ينطلق من منصة الواقع دائما ، لينفرد ويتفرد داخل لونه الخاص، لون قابل للتغيّر والتطور والتحول الحربائي مع كل نص جديد. المجموعة القصصية عنده هي قصة واحدة مطولة تندرج داخل تيمة محددة في تجربة يشتغل عليها. أما القصص فهي أجزاء مستقلة ذات حكم ذاتي غير خاضعة لسلطة التجربة.
النص المفارق تقنيا
أي نعم الكتابة القصصية هي كتابة الواقع. بشكل أو بآخر. غير أننا وإن أخذنا هذا القول محمل المُطلق. لن نستطيع البتة الخروج من أقفاص النسقية الواحدة، والأسلوب الواحد. لهذا كان لزاما البحث عن التجديد في القصة، وهذا التجديد لن يُتاح لنا إلا عبر التجريب الدائم داخل أكوان هذا الجنس. ولأنيس صولات وجولات في هذا المضمار .
إنه إلي جانب أسماء أخري من بشروا بجيل كامل من أسماء جديدة، نحت صوب التجريب في مضمار القصة القصيرة، جيل تحوزهم الإبداعية، والتطورية التي يعرفها هذا الجنس في العالم الغربي. "متجاوزين بذلك الماضي القصصي العربي. راسمين بذلك خصوصياتها الفنية والجمالية المتشظية والمتفجِّرة علي مستوي المعني والمبني، وأثبتت تجارب هذه المرجعية أن القصة القصيرة المغربية فن، من خلال اهتمامها الواضح بالأداء الفني للقصة القصيرة، فجعلت من اللغة ورشة نشيطة لصقل اللغة، والحفر في مكوناتها الدلالية انطلاقا من الحرف ثم الكلمة فالجملة، ومن ثم خرجت اللغة من المختبر اللغوي إلي فضاء يحقق فيه النص توافقه مع ذاته في تجانس تام مع إمكانية تحقق النص بوجود متلقٍ يعمل علي تخمين معاني النص بشكل فردي، يجعل عملية التفسير فردية غير متكررة، الشيء الذي يجعل تفسير نص ما محاطا بالتفسير المنفرد، بينما كانت القصة التقليدية تكتب المعاني الملقاة علي الطريق انطلاقا من معيارية النموذج المكرس، وقد أكد التجريب القصصي أنه من الممكن كتابة اللاّمعني غير المرتبط بالأحداث والشخصيات" .
أنيس الرافعي واحد من هذه الأسماء المغردة في ساحة التجديد القصصي، غير أنه مغرد عبر نغمات مُستقلة ومنفردة. مُكْسِباً اللغة الدارجة، عبر تفصيحها (من الفصاحة) سياقات فوق-محلية، كما كتب ذات نص نقدي الناقد عبد النور إدريس، ويضيف "ففي مجموعاته القصصية السالفة كما الحديث يسقط علي مصحة الدمي ، لم يعد للبطل أو للحدث من معني، تكلمت اللغة واجتاحت الحكي بكامله، فتم الرهان علي اللغة وإمكاناتها التدليلية وانشحانها بالتعدد في السياقات، معبّرة عن الأكليشيهات الإبداعية التي تربط اللحظة الإبداعية باللغة، وهي نصوص مُتْرعة بحمي التجريب القصصي علي مستوي التقنيات السردية، وهي إذ تسعي ضمنيا إلي تدمير البناء القصصي التقليدي، تحاول أن تدمر في نفس الوقت ذلك التآلف الحاصل بين المتلقي وهذا النمط من الحكي، وتعمل علي فتح آفاق سردية مغايرة لإنتاج نص مفارق تقنيا تكون فيه ذات القاص محورا للمعاني وموضع تشريح. إن الجملة السردية عند أنيس الرافعي امتداد لنفسيته المتشظية ما بين الواقع كما يعاش علي المستوي الوجودي، والمتخيل كما يوحي بذلك ذَوبان لغة القاص في ذاته، وهو ما يمكن تسميته (شعرية الموقف اللغوي) الذي يؤسس له القاص مرجعا ينطلق ويعود إليه، حيث نجد أن عماء المعني يتجاوز داخل النص إلي خارجه بسبب لجوء القاص إلي عدة تركيبات لغوية تضع أمامها كل إمكانيات اللغة علي المجاز والاستعارة والشعرية الطوباوية، حيث يجعل القاص عالمه ضمن قابليته القصوي لاحتلال دلالات مغايرة وعميقة في تجانسها الداخلي."
طبائع الصور
ما يجعل من الحكي عند أنيس الرافعي متفردا، كما قلنا سالفاً، هو تلك النفسية المتبدلة والمفارقة في الكتابة والسرد. فهو ينهج أسلوبا مخاتلا يشارف تخوم الرواية، بيد أنها ليست برواية. فالتصوير السردي عنده ينهض علي استدماج التقنيات السينمائية في الكتابة القصصية. "فالسينما كتابة بالصورة لأنها تراعي المكونات المرئية داخل خطابها.. القصة المغربية (عامةً) غارقة في الصور البلاغية المنسجمة وفق المنطق البلاغي القائم علي الاستعارات والمَجازات التشبيهات وغيرها، وهذا أمر يختلف عن الكتابة بالصورة: أن تكتب بالصورة، معناه أن تضع متوالية من الأحداث يمكن للقارئ أن يتصورها في ذهنه كشريط من الصور، الشيء الذي يمكن أن يغنيه عن الكلمات ويرقي به إلي عوالم تجريدية خالصة؛ أما الجانب الآخر فيتمثل في استدخال تقنيات السينما كتوظيف أنواع المونتاج والتركيب والإنارة والتقطيع التقني وغيرها، وهذه مسألة لا تخل بالقصة كجنس مستقل، بل تغنيه...".
بلا غرو، القصة جنس مستقل بذاته، غير أن حديثنا هنا ذا وجهين، الأول هو ما يحوزنا لتطوير القصة القصيرة العربية، والمغربية منها خاصةً، مستعينة بما وصلت له باقي الأجناس الأخري ذات صلة بالحكي والسرد والتصوير المخيالي. والثاني هو ما نلاحظه كامل الملاحظة عند أنيس الرافعي، داخل مُنجزه الأخير. فكون الشرعية القصصية يصنعها القاص ولا تصنعها القصة وحدها، ومن تلقاء ذاتها. فالقاص هنا يصنع لنفسه شرعية الحكي والقص عبر كاميرا تصوير سينمائية عالية الدقة والجودة. مازجاً بين الصور الفوتوغرافية والحكي، والفوتوغرام : تلك الصور، حسب المجال التطبيقي، هي صور من طبائع مختلفة، أما في المجال السينيماتوغرافي فهي أصغر وحدة ملاحظة بالعين. أي صورة علي أربع وعشرين صورة في الشريط. وهذا يُستعمل في تقنيات المونتاج لإستجذاب انتباه المشاهد. عبر صور وامضة سريعة. هذا واضح داخل الإخراج الفني للكتاب، عبر توظيف صور فوتوغرامية/وفوتوغرافية فنية للدمي، لفنانين عالميين نذكر منهم (ليو جيا، هانز بلمير، إيكو هوشوي... إلخ) .كما تم استخدام صور لأشياء ذات صلة بمحتوي القصة، توقف نظر القارئ عندها، في لمحة لاختزان ما صوّره الكاتب قٌبيْلها. (مظلة، ساعة، نظارات، حنش، نملة،.. إلخ). هذا التوظيف المستمد من فنون ( الكوميكس ) و( المانغا )، بالإضافة لمهارة الحكي الراتقة لكل هذا الفيض من الصور، واختزال الأحداث بلغة بالغة التشخيص، يجعل نكرر عن ظهر قلب ما سبق قوله، إن الحكي عنده سينما... وسينما (شعرية) تحديدا.
القراءة علي صفحات المرايا:
إن كانت السينما تنحو بخطي سريعة ودقيقة نحو السينما التفاعلية، بمعني التجديد في التقنيات المؤثرة علي المتلقي/المشاهد، عبر دمجه بالمشهد، ليصير متفاعلا داخله. فالنص الأدبي وعلي الرغم من محاولاته المضنية في هذا الاتجاه، فهو بطيء جدا بالمقارنة بما وصلت له السينما. غير أن هذا لا يمنعنا من الاقتراح والتخيل والتطلع لنص قصصي تفاعلي أكثر مما نحن عليه الآن، نص يقرؤه القارئ أكثر من مرة، ويندمج معه كل مرة في شكل آخر غير الشكل السابق. أنيس الرافعي كان له ذلك التخيل وباذخ الاقتراح في آخر رواق من (المصحة) في ذلك (الغاليري المتخيل) الذي خصصه لتعريف مقتنيات مصحته من صور فوتوغرافية، والمعنون(سجّل الصور). نقرأ في الصفحة 143 من المجموعة القصصية: (بل، قد يذهب الطموح الإبداعي إلي أبعد من هذا، لتحقيق فكرة طالما راودتني في كتب قصصية سابقة، لكنها علي ما يبدو غير قابلة للتطبيق، إما لغرابتها أو لانعدام الوسائل التقنية الكفيلة بانجازها، وهي أن تُقرأ حكايات الفوتوغرام والصور الفوتوغرافية من لدن القارئ المحترم داخل مرآة. بمعني أن توضع الصور الفوتوغرافية مقابل طباعة كاليغرافية مقلوبة، علي أساس أن يكون الغلاف الرابع للكتاب مزودا بجيب يحتوي علي مرآة صغيرة. وعلي هذا النحو، سوف يتمّ التلقي عن طريق عكس الكلمات والحروف علي صفحة المرآة لتتحقق القراءة الصحيحة).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.