يتنقل محمد خير بين الفنون استجابةً لإحساسه، تأتيه الفكرة أولاً ثم تتخذ بنفسها النوع الأدبي الذي ترغب أن تندمج فيه، لذلك فهو الكاتب المتنوع الذي يعرف أدوات كل فن علي حدة. خير الشاعر يعرف التقاط الصورة والتفصيلة الصغيرة والمجاز، يجيد اللغة واختيار المفردة. وخير الروائي يجيد البناء السردي وتشييد العالم. أما خير القاص فيستطيع أن يركز الكاميرا علي مشهد ويبحث عما وراءه، مستخدماً الفرد للتعبير عن الجماعة، ومستخدماً ما يعرفه ليصل إلي ما خفي عنه. وبالإضافة للشعر والسرد، يكتب خير المقال، ويتميز فيه. في مجموعته القصصية الجديدة "رمش العين" الصادرة عن دار الكتب خان، يلتقط خير التفاصيل المهملة في الحياة ليصنع منها قصصاً، تبدو العائلة المتخيلة بطلتها، بجوار ال"أنا" المهمشة اجتماعياً والمأزومة. في هذا الحوار نقترب من تصورات خير عن الكتابة، عن الفرد، عن المعركة المفتعلة بين القصة والرواية، عن القصة الإدريسية والمحفوظية. تتميز "رمش العين" في مجملها بتناول لقطات من حياة فرد، ورغم أنها تتنوع في أماكنها ما بين الداخل والخارج، إلا أنها تبدو ملتصقة بنفس الفرد. كيف تنظر لفن القصة القصيرة كمعبر عن الفرد وليس الجماعة؟ - أظن أن كل فن، مهما ارتدي ثوبا فرديا، يعبر في النهاية بصورة أو بأخري، عن الجماعة، جماعة هذا الفرد، عالمه وزمنه. لكن دعني هنا اقتبس نجيب محفوظ، قال فيما أذكر- "أخطط لرواياتي، أما قصصي فتأتي من قلبي مباشرة"، أظن هذا ينطبق علي القصة القصيرة، كما علي الشعر، تلك الدفقة الآتية من القلب أو من أي كان- مباشرة، تنعكس غالبا، لبديهيتها وفطريتها، عبر الصوت الفردي، حتي لو لم تكن هي فردية أبدا، حتي لو كانت قصة عن العالم بأسره. بعض الكُتّاب يتعاملون مع القصة باعتبارها المنتج الكتابي ما بين عمل وآخر، وبعضهم يضمّن رواياته قصصاً تذوب في العالم الأكبر. من موقعك كشاعر وروائي وقاص، كيف تنظر للقصة القصيرة؟ - أظن أن "بعض الكتاب" لا يمكن أن يعبّر عن "البعض الآخر"، لكن الأمر أن طبيعة فن الرواية، كعمل شاق أقرب إلي وظيفة بدوام كامل، يتطلب استعدادات أكبر من غيرها، لذا قد ينظم كاتب أو آخر بقية إنتاجه الإبداعي في وقت "البريك" من الرواية إن جاز التعبير أو فيما "بعد الدوام"، لكن بالطبع لا يشبه كاتب غيره، والعملية الإبداعية بشكل عام أكثر تعقيدا من التحكم فيها علي هذا النحو. هناك حديث أيضاً عن معركة القصة والرواية. - لا أعرف أساسا ما السبب في افتراض المعركة بين النوعين؟ إنها معركة إن وجدت، قد تكون بين الناشرين أو أصحاب المكتبات، العارفين ب"مبيعات" كل نوع، أما علي المستوي الفني، فالفنون لا تتصارع. من اللافت في المجموعة القصصية التردد في استخدام اللغة العامية، التي تظهر أحياناً في الحوار وتختفي في حوارات أخري. كيف تحسم أمرك في استخدامات العامية؟ وهل يصيبك أثناء الكتابة أي قلق من استخدامها؟ - لا أعتبره ترددا، بل هي محاولة الوصول لأدق استخدام لكل لغة عامية أو فصحي في مكانها الأقرب والأكثر تعبيرا، وهي هنا في حالتيها المحكية والفصيحة، كانت أقرب إلي خيال العامية، لكن بشكل عام فإنني أفضل العامية في أجواء السيرة الذاتية وحكايات الشارع، واتجه للفصحي كلما اتجه النص نحو "التأليف" أو شابه بعض الرمزية، وبالطبع لا يصيبني قلق من استخدام العامية فعلاقتي الأدبية- بها طويلة، فأول كتابين أصدرتهما كانا ديوانين بالعامية، وهي أيضا تهيمن علي الحوار في مجموعتي القصصية الأولي "عفاريت الراديو". إلي أي حد تلجأ إلي الخيال أو الذاكرة في كتابتك السردية، وإلي أي حد تحاكي الواقع أو تصوره؟ - كلمة "تلجأ" توحي بأن ثمة تعمدا في "استخدام" هذه الحكاية أو تلك، ليس الأمر كذلك بالضبط، فالأصل أن حكاية أو فكرة تقفز إلي وعيي فجأة، وقد تتطور فجأة أيضا، أو تختمر ببطء شديد ممتزجة بغيرها، ثم يندفع كل شيء معا مرة واحدة، وبصفة عامة، أظن أنه كلما تقدم السارد في "مشروعه" نفدت "ذاكرته"، وكلما اتجه، مضطرا ربما، إلي الخلق، الذي هو مزيج من "الواقع" و"التأليف"، وبمقدار الميل إلي أحدهما يكتسب النص واقعيته، أو فانتازيته. رغم أن المجموعة مسرودة بضمير الأنا، إلا أن السارد في بعض القصص يحكي عن آخرين، وفي بعض آخر يبدو محايداً. كيف تنظر لموضع السارد في القصة؟ وإلي اي مدي يغريك أو يفزعك تورط السارد في الحدث؟ - صحيح أن "معظم" القصص مسرودة بضمير "الأنا"، ربما هو حبي لضمير المتكلم، وربما تأثرا بالشعر، وربما من يعلم؟ بعض "استسهال"، أو طلبا لحميمية، أغلب الظن أنه تورّط في الحكايات نفسها، إذ لازلت في معظمها اضبط نفسي موجودا هنا أو هناك، حتي لو لم يكن ال"أنا" في القصة" هو أنا شخصيا، قد يكون/أكون صديقه أو زميله أو جاره. وليسامحك الله فقد جعلتني أقول "أنا" أكثر من أي وقت في حياتي. من اللافت أيضاً أن المجموعة خالية تماماً من أي مشاهد جنسية، كأن الشخصيات ليست في حاجة إليه، او غير مشغولة به. كيف تفسر ذلك؟ وما تابوهاتك الخاصة؟ - كدت أجيبك بأن الجنس موجود، ثم أدركت دقة تعبيرك ( مشاهد ) جنسية، هنا اتفق معك، بالطبع ليس لدي تابوه من هذا النوع، ثمة مشاهد جنسية في "سماء أقرب" و"عفاريت الراديو" لكنها أيضا قليلة، لكن طالما ذكرنا التابوهات، فإن الجنس، والسياسة، والدين، لا تحضر بصورها المباشرة بصفة عامة في قصصي، حتي الآن علي الأقل، ولذا كدت أجيبك أولا بأن الجنس موجود في "رمش العين"، خاصة في قصتيّ "يا عيسي" و"بينج بونج"، لكنه حاضر وراء المشاهد (بفتح الميم) لا امامه تماما كالسياسة والدين في نصوص أخري من المجموعة، مثل "استدعاء"، و"الكلام"، و"جمعة"، أو هكذا أراها علي الأقل. تعاني شخصيات المجموعة في مجملها، وعلي اختلاف أحوالها، من التهميش المجتمعي.. وكأن سؤال القصص اجتماعي أكثر منه أزمة الإنسان لفهم العالم.. حدثني عن رؤيتك للفن كناقد للمجتمع. أخشي دائما الحديث عن "وظيفة" للفن بما فيها أن يكون "ناقدا"، أفضّل اعتبار الفن منحة سحرية وإن شئت: طفرة تطورية- رائعة، سمحت للإنسان بأن يلعب علي هامش وجوده، أن ينحرف قليلا عن المسار الحتمي والبارد والمحكوم، أن يكتشف مزية جديدة للوجود، حلية للواقع، أن يعرف نفسه بصورة لا يوفرها العلم، أن يتوافر له اختيار أن يعيش نوعا مختلفا من الحياة، سواء كان ذلك بإنتاج الفن، أو الاستمتاع به. أما عن "التهميش المجتمعي" فمفهوم، إذ كيف يمكن أن ترصد مجتمعا ما لم تتخذ منه، أو يتخذ هو منك، مسافة. كيف تنظر للتجريب في السرد، سواء علي مستوي اللغة أو التقنية؟ وإلي أي مدي تري تجاوز القصة الإدريسية والمحفوظية في الكتابة المصرية الشابة؟ - أفضّل تعبير "اللعب"، الاستمتاع باختبار طرائق جديدة ومسارات نظن أنها- لم يمش فيها أحد، وطرق أبواب لا نعرف ما خلفها، فإن لم يتوافر الاستمتاع أولا لن يبقي سوي التجريب البارد، كمختبرات المعامل، غير أن هذا اللعب لا يكون كذلك هدفا في ذاته، وإنما ينبغي أن توجد القصة، الحكاية أولا، ثم محاولة سردها بطريقة أخري، الأروع طبعا أن تأتي الحكاية واللعبة معا،هنا تظهر القصص العظيمة. أستمتع بالكتابة القصصية المصرية الشابة علي مستويين، اللعب، واللغة، وهنا ميزة لما يقال عن "سيطرة الرواية"، فقد منح ذلك محبي القصة مساحتهم بعيدا عن الضغوط، وهم يستثمرونها جيدا ويستمتعون، ويقدمون كتابة تزداد جمالا، وهذا في حد ذاته جميل، خاصة إن وضعنا في الاعتبار، أن "شباب" الكتابة المصرية نشأوا في ظل ثلاثة عقود من الركود الكبير، بلا تجارب كبري، أما الأعوام الثلاثة الأخيرة فلا زال تأثيرها في سياق الغيب، وبصفة عامة، أظن أن أدريس، علي عظمته، صار بعيدا الآن، بتلك التركيبة السحرية بين اللغة الخاصة والشخصية المصرية والتأثر الروسي، لقد اكتمل كتجربة مذهلة وصار رقما يصعب إعادة إنتاجه أو مقارنته، أما محفوظ فهو العباءة الأوسع، وهو كما فعل مع الرواية، انتقل أيضا في القصة، وبالقصة، من تكويناتها السردية الأولي، إلي إيجازها الفلسفي الأخير، والمشكلة الأكبر من مسألة "تجاوز" محفوظ، هو أن أحدا لا يحب أصلا أن يتجاوزه.