حلمى النمنم يتحدث والكونى والشهاوى يتابعان "مريدٌ يَصِيدُ، يكتب بلغةٍ روحيةٍ، ابنٌ للطبيعة، وإنسانٌ تمنَّي أن يكون طيرًا أو شجرة أو نبعًا في صحرائه، فهو كاتبٌ ينتمي إلي مملكة الأبدية". هكذا هو الكاتب الليبي إبراهيم الكوني؛ كما وصفه الشاعر أحمد الشهاوي يوم السبت الماضي في بيت السحيمي، أثناء إدارته ندوة الافتتاح للدورة الثانية من مهرجان القاهرة الأدبي؛ حيث حل الكوني ضيف شرف المهرجان في لقاء مفتوح مع الجمهور، بحضور عدد من الكتاب والمثقفين، علي رأسهم حلمي النمنم وزير الثقافة وإبراهيم عبد المجيد الرئيس الشرفي للمهرجان. أشار محمد البعلي مدير المهرجان، في البداية إلي تطور بسيط هذا العام يتمثل في زيادة عدد الدول المتواجدة، حيث كان 13 وأصبح 15 دولة، مما ترتب عليه زيادة عدد الجلسات، التي يشارك فيها 30 أديبا، يناقشون قضايا مختلفة في صلب المجال الأدبي، كالترجمة وحرية الإبداع. كما أكد إبراهيم عبد المجيد علي أن نجاح المهرجان مستمر، والدليل هو إقامته للسنة الثانية علي التوالي. تسلم أحمد الشهاوي الميكروفون، موضحا أنه فقط سيقدم الحوار، بينما من سيديره هم الجمهور، رغم أن استحواذه علي الحديث تعدي ذلك، وإن كان ذلك لا ينفي ترحابه الكبير بالكوني من خلال كلمته الرصينة "إبراهيم الكوْني مبدع الروح"، موضحا أنه يكتب بلغةٍ روحيةٍ، أسطورية، مقدَّسة، هي ابنةٌ للغة الرمل، وروح الصحراء؛ لتصوغ هواجسه ووسوساته. ودعاه الشهاوي بالابن الشرعي للشعر والفلسفة، كعادة الكبار في الثقافات والحضارات، إذ يفرح بالفلسفة وسؤالها، ليكتب سيرته، التي هي الرواية المعيشة، واستطرد: "عصا إبراهيم الكونيِّ لغتهُ، إذ في الليل يتحقق، ويري ذاته الكائنة، الصافية لا الملتبسة، حيث في كل نأمةٍ نصٌّ، وفي كل حبة رملٍ حياةٌ، ومن ثم يحيا في الرمز، ويسمعه في الحرف المولود من لغاتٍ ودياناتٍ وفلسفاتٍ. وهو ابنٌ للطبيعة، أي هو صوفيٌّ بشكلٍ أو بآخر، ليس كغريبٍ يحمل المكان في جيب رُوحه، ولكن كصاحب متنٍ يمشي الزمان بقدميه في رُوحه اللامحدودة". وأنهي الشهاوي كلمته: "إبراهيم واحدٌ من أسياد أهل الباطن، باع الدنيا لقاء حرفٍ شريدٍ في فردوسه". في تلك الأثناء حضر الكاتب الصحفي حلمي النمنم، كمثقف قبل أن يكون وزيرا، فأصر الشهاوي عليه أن يلقي كلمة، فعبر عن سعادته بالمهرجان والشباب الذين يتولون إدارته، ورحب بالكوني متأسفا علي الحال الذي وصلت إليه ليبيا، فقال: "لا توجد حرية بلا أمان ولا توجد حرية مع الفوضي، فبدون أمان سنصل لما وصلت إليه العراق وسوريا وما يعانيه الليبيون اليوم". وتمني النمنم أن يأتي اليوم الذي ينفصل فيه الدين عن الدولة، فدعاً لسقوط الأيديولوجيات الضيقة التي قامت عليها دول كإسرائيل وإيران، قائلا: "سيظل الدين في مكانته الرفيعة، أما المجتمع والحريات فتختارها الشعوب، فلتسقط الأيديولوجيا ويحيا الإنسان" . بينما عبر الكوني عن امتنانه لمصر التي أوت شعبه في محنته الأخيرة، قائلا: "هذا ليس غريبًا علي هذا البلد العريق، لأنها دائما كانت تفعل ذلك، فمنذ واجه شعبي الكارثة البيئية التي جعلت منه صحراء كبري، أصبح يحتمي بمصر، وفي المحنة التي تمر بها ليبيا اليوم، فإن احتماءها بمصر يجعلها في بر الأمان، وفي ذلك مفارقة تستحق التأمل، لأن ليبيا في محنتها الآن - رغم أنها صارت جسرا للالتجاء إلي أوروبا -، لا تلتجئ إلي أوروبا، لكن الشعب الليبي اتجه إلي مصر كالعادة، فشكرا لهذا الإرث العظيم، لأن في يقيني، الأمان أسبق من الحرية، فلا خير في حرية لا تحقق الأمان". ثم تحدث الكوني عن الأدب كفعل مقاوم للموت وللإرهاب وللظلم، ففي الأدب حياة، وتساءل: "أين موقع الأدب في واقعٍ محمومٍ بروح المكيدة، مبلبلٍ بالظمأ إلي الغنيمة، متنكّرٍ لهوية كانت فيه بالأمس قيمة؟". واستطرد: "الأدب، إذا كان السليل الشرعي للميثولوجيا، فإنه النقيض الحقيقي للأيديولوجيا. فمن روح الميثولوجيا لم يولد الأدب وحده، ولكن وُلد اللاهوت أيضاً، وتدخّل الأيديولوجيا هو ما زعزع اللاهوت دوماً ليحوّله في حياتنا إلي طاغوت. فالأدب صار ضحيّة النزعة الأيديولوجية، كما الدِّين تماماً، لتغترب فيه روح الحقيقة: الحقيقة المعادية بالسليقة لنزعة مميتة كالاحتكار. فطوبي، ثمّ طوبي، لروحٍ موسّمةٍ بنياشين تلك الأسطورة التي لا تكفّ عن التّغنّي بحياة تتنفّس برئة الشِّعْر، مستجيرةً بتلابيب الإيمان: الإيمان بمواهب جمالٍ فيه خلاص العالم، وعبقرية مُريد الحرية الذي يبدع، بفصوص الحبّ، فسيفساء الحلم الذي سيستعيد، من رحاب البُعْد المفقود، حقيقتنا الضائعة، لتعود غنيمةً تعزّي وجودنا في صحراء هذا العالم". جميع الأيديولوجيات أفلست، يستكمل الكوني: "اليسار مفلس، القومي مفلس، الديني مفلس، ولذلك الحل هو اللا أيديولوجيا، نحن بالتأكيد لا نبحث عن وصفة سحرية تتحقق بين يوم وليلة، ولكن بدون استعادة روح الميثولوجيا لن نصل إلي شيء، فحينما كان العالم ميثولوجياً كان أكثر إنسانيًا، ونحن الآن في أشد الحاجة إلي روح الميثولوجيا الشعرية الإنسانية، يجب أن نحيا بطريقة شعرية". "المبدع يجب أن يكون يساريا"، هكذا يعتقد الكوني رغم ما قاله بشأن الإفلاس، فيضع تعريفا لليسار قائلا: "اليسار يعني أن تكون نزيهًا، وأن تكون إنسانيًا، لكن هذا لا يحدث، وفي هذا أتذكر قول ألبير كامو (كلنا نبدأ بطلب العدالة وننتهي بتنظيم جهاز للشرطة)، وهو ما حدث في ليبيا وسوريا ومصر، ولهذا أؤكد أن مأساة العالم العربي هي الأيديولوجيا، وإذا سألت نفسك: لماذا الإنسان العربي شقي عن الغربي؟ ستجد أننا في العالم العربي نعطي للأيديولوجيا مساحة كبيرة، والسياسية تشكل مساحة أكبر مما تشكله عند الغرب". لم يخفِ الكوني أنه فكر في الاعتذار عن المجئ للمهرجان، فهو عادة ما يرفض إجراء الحوارات الصحفية، وبرر ذلك قائلا: "أنا روائي، يفترض أن أسأل عما قدمت في أعمالي، ولكن للأسف أزمة القراءة في العالم تتزايد، ومن مظاهرها أنه عندما تأتيني الأسئلة، واسأل من يريد محاورتي عماذا قرأ لي؟ اكتشف أنه لم يقرأ لي كتابًا واحدًا، وهنا أجدني أتذكر ما قاله السيد المسيح (لا كرامة لنبي في وطنه)، لكنني أضيف عليها (ولا في زمنه أيضا)، فالكاتب حينما يموت يصبح النص هو المدافع عنه، لأنه أثناء حياته يتم الاجهاز عليه، ولا يُقرأ نصه، ونادرا ما يتم الاعتراف بالكاتب الحقيقي أثناء حياته، مثل شكسبير وبلزاك". عوامل كثيرة تدخلت لتتشكل شخصية الكوني التي تظهر لنا، ولكن العديد من القراء لم يتمكنوا من معرفتها بشكل كلي، لأن أعمال الكوني لا توزع جميعها في مصر والعالم العربي، مما يصعب معه الإطلاع علي المشروع الروائي الكامل له، ولكنه أوضح ذلك متأثرا: "الألم هو الذي يقرر، فهو الحكم الذي يجعلنا نقرر ما نحن عليه، وأحلامنا هي فردوسنا وجحيمنا، وأنا حلمت بأن أكون ما عليه الآن، أن أكون في موقع المشاهد وأن أعرف من أنا، فأنت لا تستطيع أن تعرف قيمة المشاهدة ما لم تعبر من جحيم المشاركة، وأنا راض عن الثمن الذي دفعته مقابل ذلك، سواء من نزيف روحي أو ألم نفسي، فكونفيشيوس يقول (من عرف الحقيقة في الصباح مات في المساء)، وأنا عرفت الحقيقة، نصفي ميت ولكنني سعيد بأني تألمت، فبدون ألم لا حصاد، وبدون طعنات أو جرح لا معني للحياة".