وزير الأوقاف ومحافظ جنوب سيناء يفتتحان أعمال تطوير مسجد الصحابة بشرم الشيخ    عيار 21 يعود لسابق عهده.. أسعار الذهب اليوم السبت 20 إبريل بالصاغة بعد الارتفاع الجديد    كوريا الشمالية تطلق نوعا جديدا من الصواريخ وتختبر "رأسا حربيا كبيرا جدا"    كانسيلو يعلق على خروج برشلونة من تشامبيونزليج وآخر الاستعدادات لمواجهة ريال مدريد    أسماء ضحايا حادث تصادم سيارتين وتوك توك بطريق المنصورة بالدقهلية    آمال ماهر تشدو برائعة كوكب الشرق"ألف ليلة وليلة "والجمهور يرفض انتهاء الحفل (فيديو)    طريقة عمل تارت الجيلي للشيف نجلاء الشرشابي    ميدو يكشف احتياجات الزمالك في الميركاتو الصيفي    اندلاع مواجهات عنيفة مع قوات الاحتلال في بلدة بيت فوريك شرق نابلس    سفيرة البحرين بالقاهرة: زيارة الملك حمد لمصر تأكيد على التكامل الإستراتيجي ووحدة الصف بين البلدين    ابسط يا عم هتاكل فسيخ ورنجة براحتك.. موعد شم النسيم لعام 2024    داعية إسلامي: خدمة الزوج والأولاد ليست واجبة على الزوجة    تخفيف الأحمال فى «أسبوع الآلام»    نشرة منتصف الليل| الأرصاد تكشف موعد الموجة الحارة.. وهذه ملامح حركة المحافظين المرتقبة    300 جنيها .. مفاجأة حول أسعار أنابيب الغاز والبنزين في مصر    تجليس نيافة الأنبا توماس على دير "العذراء" بالبهنسا.. صور    بجوائز 2 مليون جنيه.. إطلاق مسابقة " الخطيب المفوه " للشباب والنشء    3 إعفاءات للأشخاص ذوي الإعاقة في القانون، تعرف عليها    انفجار في قاعدة كالسوم في بابل العراقية تسبب في قتل شخص وإصابة آخرين    العميد سمير راغب: اقتحام إسرائيل لرفح أصبح حتميًا    كوريا الشمالية تختبر صاروخا جديدا للدفاع الجوي    إيران تصف الفيتو الأمريكي ضد عضوية فلسطين في الأمم المتحدة ب"اللا مسؤول"    بصور قديمة.. شيريهان تنعي الفنان الراحل صلاح السعدني    حزب "المصريين" يكرم 200 طفل في مسابقة «معًا نصوم» بالبحر الأحمر    الخطيب ولبيب في حفل زفاف "شريف" نجل أشرف قاسم (صور)    سيف الدين الجزيري: مباراة دريمز الغاني المقبلة صعبة    ملف رياضة مصراوي.. إغماء لاعب المقاولون.. رسالة شوبير.. وتشكيل الأهلي المتوقع    يوفنتوس يواصل فقد النقاط بالتعادل مع كالياري.. ولاتسيو يفوز على جنوى    دوري أدنوك للمحترفين.. 6 مباريات مرتقبة في الجولة 20    صفقة المانية تنعش خزائن باريس سان جيرمان    منير أديب: أغلب التنظيمات المسلحة خرجت من رحم جماعة الإخوان الإرهابية.. فيديو    حالة الطقس اليوم.. حار نهارًا والعظمى في القاهرة 33 درجة    أهالى شبرا الخيمة يشيعون جثمان الطفل المعثور على جثته بشقة ..صور    فحص السيارات وتجديد الرخصة.. ماهى خدمات وحدات المرور المميزة فى المولات    "محكمة ميتا" تنظر في قضيتين بشأن صور إباحية مزيفة لنساء مشهورات    حريق هائل بمخزن كاوتش بقرية السنباط بالفيوم    وزارة الداخلية تكرم عددا من الضباط بمحافظة أسوان    تعرف على موعد انخفاض سعر الخبز.. الحكومة أظهرت "العين الحمراء" للمخابز    GranCabrio Spyder| سيارة رياضية فاخرة من Maserati    إياد نصار: لا أحب مسلسلات «البان آراب».. وسعيد بنجاح "صلة رحم"    يسرا: فرحانة إني عملت «شقو».. ودوري مليان شر| فيديو    نسرين أسامة أنور عكاشة: كان هناك توافق بين والدى والراحل صلاح السعدني    انطلاق حفل الفرقة الألمانية keinemusik بأهرامات الجيزة    بعد اتهامه بالكفر.. خالد منتصر يكشف حقيقة تصريحاته حول منع شرب ماء زمزم    بفستان لافت| ياسمين صبري تبهر متابعيها بهذه الإطلالة    هل يتم استثناء العاصمة الإدارية من تخفيف الأحمال.. الحكومة توضح    أعظم الذكر أجرًا.. احرص عليه في هذه الأوقات المحددة    أدعية الرزق: أهميتها وفوائدها وكيفية استخدامها في الحياة اليومية    رسميا.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم السبت 20 إبريل 2024 بعد الانخفاض الأخير    آلام العظام: أسبابها وكيفية الوقاية منها    عمرو أديب يطالب يكشف أسباب بيع طائرات «مصر للطيران» (فيديو)    باحث عن اعترافات متحدث الإخوان باستخدام العنف: «ليست جديدة»    عاجل - فصائل عراقية تعلن استهداف قاعدة عوبدا الجوية التابعة لجيش الاحتلال بالمسيرات    مرض القدم السكري: الأعراض والعلاج والوقاية    متلازمة القولون العصبي: الأسباب والوقاية منه    «هترجع زي الأول».. حسام موافي يكشف عن حل سحري للتخلص من البطن السفلية    50 دعاء في يوم الجمعة.. متى تكون الساعة المستجابة    نصبت الموازين ونشرت الدواوين.. خطيب المسجد الحرام: عبادة الله حق واجب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوميات هيكل 1955
نشر في أخبار الأدب يوم 20 - 02 - 2016


مع جلال الدين الحمامصى 1955/9/17
كان عام 1955 حافلا بالنسبة لهيكل. ففيه طار إلي مدينة جنيف لمتابعة مؤتمر الأقطاب الذي انعقد فيها واشترك فيه "نيكولاي بولجانين" ونيكيتا خروشوف عن الاتحاد السوفيتي ودوايت أيزنهاور عن الولايات المتحدة، و"إنتوني إيدن" عن بريطانيا، و"إدجار فور" عن فرنسا، بوصفه واحدا من رؤساء تحرير جريدة الأخبار ورئيساً لتحرير مجلة آخر ساعة.
وفي العام نفسه التقي مع السيد "علي الشمسي باشا" في فندق دي برج في مدينة جنيف، وفاتحه الأخير في مسألة ترأس تحرير جريدة الأهرام بوصفه عضو مجلس الإدارة، واعتذر هيكل. ثم وافق بعدها بعامين لم تتوقف خلالهما المفاوضات ليدخل هيكل الأهرام في صباح يوم الأربعاء 31 يوليو 1957 لكي يتولي إصدار عدد اليوم التالي، الخميس أول أغسطس.
خلال تلك الفترة كتب هيكل للأخبار مجموعة كبيرة من التحقيقات والمقالات وشارك في كتابة اليوميات هنا نستعرض بعضا مما كتب في تلك الفترة المهمة.
الطرق السرية
السبت:
تناولت طعام الغداء اليوم مع إريك جونستون، مبعوث أيزنهاور الخاص إلي الشرق الأوسط، وصاحب المشروع الشهير باسمه لاستغلال مياه الأردن!
ولم يكن حديثنا عن المشروع الذي اشتد الصخب حوله.. بل بدا طوال الغداء وكأن كلينا يحاول أن يبتعد عن دائرة الصدي - صدي الصخب - بقدر ما يستطيع!
وكان الحديث يطوف بعواصم الدنيا وبحكامها علي اختلافهم.. ولإريك جونستون في كل عاصمة منها حكاية، وله مع كل حاكم من الحكام المختلفين تجربة.
وكانت الذكريات تدور حول المائدة.. ذكري تجر ذكري.. وقصة تمسك بذراع قصة.. وتشدها إلي أسماعنا!
وتوقف إريك جونستون عند ستالين مارشال الاتحاد السوفيتي وحاكم الستار الحديدي... توقف طويلاً.
وإذا كان هناك في الغرب قلائل عرفوا ستالين عن قرب، فإن إريك جونستون هو أحد هؤلاء القلائل، فقد كان ذات يوم مبعوثاً خاصًّا من روزفلت إلي قيصر الكرملين الأحمر.
وتوثقت عري المعرفة بين الاثنين بعدها إلي حد أن ستالين دعا إريك جونستون لكي يزور الاتحاد السوفيتي.. لا مبعوثاً خاصاً من روزفلت وإنما ضيفاً شخصيًّا له.. لستالين!
وقال لي إريك جونستون: لقد كان ستالين من أعلم الناس بحقيقة الأحوال.. خصوصاً أحوالها الاقتصادية.
ومضي إريك جونستون يقول:
- ذات ليلة كنت أتعشي مع ستالين في جناحه الخاص في الكرملين، وقال لي ستالين ونحن نتحدث عن صناعة السيارات في أمريكا أنه معجب بالنمو الضخم في إنتاج السيارات الذي وصل إلي 6 ملايين سيارة في سنة 1946 واستمر بعدها.
وضحكت وقلت لستالين: إنك تثني علينا بأكثر مما نستحق، فإن إنتاج السيارات في أمريكا سنة 1946 هو خمسة ملايين سيارة فقط.
وقال ستالين بحزم: لا.. إن الرقم المضبوط هو ستة ملايين.
وقلت لستالين: سيدي.. أنت تعلم أنني رئيس اتحاد صناعة السيارات في أمريكا وأنا واثق من الرقم الذي قلته.
قال ستالين بعناد: أنا لست رئيساً لاتحاد صناعة السيارات في أمريكا ولكنني واثق من رقم ستة ملايين!
وغاظني إصرار ستالين علي الخطأ، وخرجت ليلتها من الكرملين إلي السفارة الأمريكية في موسكو أبعث ببرقية إلي نيويورك أطلب فيها موافاتي علي الفور برقم إنتاج السيارات لسنة 1946.
وفي ظهر اليوم التالي تلقيت الرد،
كان الرد ستة ملايين سيارة بيانها كما يلي:
5 ملايين سيارة عادية
1 مليون سيارة لوري نقل
وفهمت أن الرقم المستقر في ذهني كان صحيحاً إلي حد... ولكن الرقم الذي قاله هو كان صحيحاً علي طول الخط، ولما ذهبت لأودع ستالين بعد انتهاء زيارتي للاتحاد السوفيتي انتهزت الفرصة وقلت له:
- هل تذكر مناقشتنا عن إنتاج السيارات في أمريكا سنة 1946... لقد كنت أنت علي حق... إن مجموع الإنتاج هو ستة ملايين.
وابتسم ستالين.. وغاظني أنه اكتفي بالابتسامة عن أي رد.. لم يقل لي حتي: ألم أقل لك. أو: لقد كنت واثقاً!
لم يقل شيئاً علي الإطلاق.. وإنما اكتفي بمجرد الابتسامة الصامتة... العنيدة!
الاثنين:
خلع جاكتته في عصبية... وخلعت جاكتتي في عصبية
فك رباط عنقه في عنف... وفككت رباط عنقي في عنف
فتح ياقة قميصه في تحفز.. وفتحت ياقة قميصي في تحفز
كان المفروض أننا علي وشك أن تبدأ مناقشة سياسية، ولكن منظرنا في غرفته في فندق سميراميس كان أشبه ما يكون بمناظر مصارعة الديوك!
هكذا هو دائماً.. وهكذا المناقشات معه!
إنه أمام الستار نائب محترم في برلمان لبنان، ولكنه وراء الستار أكثر من مجرد نائب محترم.. إنه خالق وزارات.. وقاتل وزارات!
بعض الناس يتصورون أنه يحترف جمع الملايين من أعماله الواسعة وأنه يهوي السياسة في أوقات الفراغ، أما أنا فأقول إن السياسة هي حرفته.. أما جمع الملايين فهو هواية أوقات الفراغ!
وأنا معجب بالطريقة التي يمارس بها الرجل عمله.. وهوايته في التقديرين علي أي حال!
أعني سواء كان العمل هو الحرفة والسياسة هي الهواية.. أو كانت السياسة هي الحرفة. والعمل هو الهواية،
الطريقة التي يمارس بها العمل تعجبني وإن كان أسوأ ما فيها أن كل نشاطه خارج حدود مصر..
والطريقة التي يمارس بها السياسة تعجبني وإن كان أحسن ما فيها أن كل نشاطه خارج مصر.
ولو قرر يوماً أن يمد أعماله إلي مصر لكنت فرحت
ولو قرر يوماً أن يمد سياسته إلي مصر لكنت حزنت!
ومع ذلك فقد نسيت مصارعة الديوك واستطردت وراء حديث طويل عن الديك شخصيًّا.. عن النائب المحترم إميل البستاني!
وقال إميل البستاني.. بعد أن خلع الجاكتة.. وفك رباط العنق.. وفتح ياقة القميص.. وفعلت مثل الذي فعل استعداداً لصراع الديوك..
- هل تعلم لماذا جئت إلي مصر هذه المرة؟
قلت: لا... كل شيء معك جائز ومحتمل!
قال: فكرة جديدة تتقدم بها لبنان.. ولا أتصور أن يوجد عربي واحد لا يؤيدها!
واستطرد إميل البستاني: ما رأيك في إنشاء جيش عربي فيدرالي... تشترك فيه كل دول العرب.. جيش رمزي.. من فرقة واحدة.. وتتولي الدول العربية كلها الصرف عليه... هل تعتقد أنه يوجد عربي واحد لا يؤيد مثل هذه الفكرة؟
قلت: أعرف واحداً؟
قال: من هو؟
قلت علي الفور: أنا؟
قال والدهشة تستولي بغتة علي ملامحه:أنت.. لا أصدق.. ما هو اعتراضك علي هذه الفكرة؟
قلت: هذه.. واعذرني أيها الصديق. بهلوانية سياسية ولست أدري كيف يجيء لبنان اليوم لكي يقترحها.
قال: لا أفهمك؟
قلت: بل أنا الذي لا أفهمك.. لست أدري كيف تتصور بالظروف الموجودة الآن أن شيئاً من هذا يمكن عمله... كيف نصنع جيشاً عربياً موحداً ودول العرب صاحبة هذا الجيش موزعة الولاء.
هل تريد صراحة أكثر؟أنا أقصد العراق بالذات.. أنت تعرف أنني كنت دائماً واحداً من الساعين إلي صداقة مصرية عراقية..
ولكن ماذا نصنع ورجل واحد اسمه نوري السعيد.. مزق المنطقة كما لم يكن يحلم أعدي أعدائها.
أنت تعرف ما أقصد وتفهمه جيداً... ولست أريد أن أعيده من جديد فتلك ذكري تؤلم وتدمي! أكرر لك مرة ثانية أنني أقصد العراق بالذات.. أقولها وفي قلبي مرارة.. وفي ألفاظي وخزة ألم.
كيف يمكن أن نصنع جيشاً عربياً موحداً.. لقد أريد لجيش العراق أن يتربص لموسكو فقط.. وينسي كل عدو غيرها.. لقد أريد لجيش العراق أن يعطي ظهره لوجود إسرائيل وأن يتجه بكل اهتمامه نحو الشمال.
لقد أريد لجيش العراق - وأمريكا تسلحه اليوم - أن لا يستخدم إلا في الدفاع.
أريد له أن يملك المدافع المضادة للطائرات.. وليست الطائرات.
أريد له أن يملك معدات الاستحكام.. وليست دبابات الهجوم.
أريد له أن يملك سيارات الأسعاف.. وليست المدافع المدمرة
وأنا أقول أريد له.. ولا أقول أنه أراد لنفسه ومع ذلك فالنتيجة واحدة.. والخلاف قائم!
وصاح إميل البستاني:- هكذا أنتم دائماً أيها المصريون تحكِّمون العاطفة.. ولا تحكمون العقل أبداً؟
قلت: هل تري في الذي قلته عاطفة. ألم يحدث هذا.. ألم يكن هناك رجل واحد صنع كل هذه الكارثة بأرض العرب.. أنا أعلم أنه صديقك.. ولكن هل تنكر الحق لكي تجامل صديقك؟
قال إميل البستاني: أنا لا أجامل أحداً.. وأنا لا أنكر أن نوري السعيد أخطأ ولكن هل سنقضي عمرنا كله نبكي علي اللبن المسكوب؟
وانتفض إميل البستاني واقفاً يصرخ بأعلي صوته: نحن نريد أن نبني للمستقبل.. وأنتم لا تريدون إلا أن تحاسبوا علي الماضي. قلت وأنا أنتفض أيضاً صارخاً مثله:
- بل نحن علي استعداد لكي ننسي الأمس.. ولا ننظر إلي الغد.. نحن علي استعداد لجيش عربي واحد ولكن علي شرط.. شرط واحد أيضاً.
قال إميل البستاني بسرعة: ما هو!
قلت: تخرج العراق من حلفها غير العربي!
قال: هذا عَوْد إلي الماضي.. أما قلت لي أنك مستعد أن تنسي الأمس من أجل الغد؟
قلت: أمرك عجيب.. ألست تسلم أن ما فعله نوري السعيد خطأ..
يوميات
قال: خطأ.. ولكن هل ستقضون العمر في حسابه علي هذا الخطأ؟
قلت: لا.. ولكن أصحح الخطأ قبل أن أبدأ البناء الجديد.. هل تريد مني أن أبني علي أساس خاطيء.. أي خير يُرتجي من مثل هذا البناء؟
قال: رؤوسكم ناشفة أنتم أيها المصريون.
قلت: رؤوسكم طرية إذا كنتم تفكرون في هذا فعلاً أيها اللبنانيون!
قال:علي أي حال لقد كنا نتوقع هذه المعارضة.. وكنا نتوقع هذه النظرة إلي المسائل.. لهذا لم نقترح إدماج الجيوش العربية في جيش عربي واحد.. وإنما اقترحنا إنشاء جيش عربي جديد.. جيش رمزي.
قلت: ما معني جيش رمزي؟
قال: فرقة واحدة..
قلت: ماذا تفعل هذه الفرقة الواحدة.. إن لدي إسرائيل جيشاً من مائتين وخمسين ألفاً علي حد ما يقال، وأنت تريد أن تجمع العرب لإنشاء جيش من عشرين ألفاً.. ماذا تستطيع هذه الفرقة أن تفعله إذا جد الجد وبدأت التجربة وتحرك الشر..؟
قال: هل نسيت باقي الجيوش العربية.. سوف تسارع إلي النجدة؟
قلت: عدنا إلي الذي كنا فيه.. جيوش العرب موزعة الولاء.. مشتتة الاتجاه.. ومرة أخري أسألك.. ما الذي سوف تصنعه الفرقة العربية الواحدة في هذه الحالة؟
وصرخ إميل البستاني وقفز من مقعده يقول: قلت لك أريدها مجرد رمز..
وقمت واقفاً أنا الآخر أقول: لقد كنت إلي دقائق قليلة تتهمنا نحن المصريين بأننا نسعي وراء العاطفة.. وننسي العقل.. إن هذا الرمز الذي تقترحه الآن.. أكثر من عاطفة..هل تعلم ماذا هو؟
قال بضيق: ماذا؟
قلت: شعر وخيال!!
ومد يده إلي ياقة قميصه يقفلها في عصبية.. وأقفلت ياقة قميصي.
وشد رباط عنقه.. وشددت رباط عنقي.
وأدخل ذراعيه في أكمام جاكتته.. وأدخلت ذراعي في أكمام جاكتتي..!
انتهي صراع الديوك!!
الأربعاء:
ألا يحدث لك أحياناً أن تجد ذكري رجل ميت.. تتحرك في قبرها.. وتنزع عنها الأكفان... وتنطلق شبحاً يطاردك لسبب غامض مجهول؟
حدث لي هذا اليوم!
والرجل الميت الذي طاردني شبحه.. رجل بعيد عني.. غريب لم أعرفه.. ولا التقيت به في حياته أو حياتي!
والرجل.. هو اللورد موين وزير الدولة البريطاني في الشرق الأوسط الذي قتله في القاهرة اثنان من عصابة شترن الصهيونية في مطلع عام 1945
أليس ذلك عجيباً؟
أنا أقول أنه عجيب.. ومع ذلك اسمعوا التفاصيل!
تلقيت بالبريد كتاباً جديداً من لندن اسمه »الطرق السرية« وموضوعه هو هجرة اليهود غير الشرعية إلي فلسطين خلال حكم الانتداب البريطاني قبل سنة 1948.. ومؤلفه كاتب صهيوني معروف هو جون كيمشي. الذي كتب عن الدول العربية كتاب »الأعمدة السبعة المنهارة« واستعار من لورنس وزن عنوان كتابه المشهور »أعمدة الحكمة السبعة«.
وأعود إلي الموضوع
لقد وجدت في كتاب جون كيمشي الجديد »الطرق السرية« القصة الحقيقية وراء مقتل لورد موين وزير الدولة البريطاني الذي قتل علي عتبة البيت الذي كان يسكنه في شارع الجبلاية بالزمالك.
القصة كما رواها جون كيمشي في الصفحة الثالثة عشرة من كتابه أن اليهودية العالمية كانت مهتمة بمصير مليون يهودي هنجاري.. وكانت تريد نقلهم من هنجاريا إلي فلسطين..
وكان ذلك خلال الحرب في سنة 1943، وكانت اليهودية العالمية تخشي أن يتصرف هتلر مع يهود هنجاريا كما تصرف دائماً مع اليهود.
وبدأت محاولات سرية.. واستطاع اليهود أن يتصلوا عبر خطوط النيران بالحكومة الألمانية.
ووصلت المفاوضات في هذه الظروف العجيبة إلي حد أن أدولف أيشمان، وكان يتولي المسائل السياسية في الجستابو الألماني بعث بعرض رسمي في هذا الموضوع إلي الوكالة اليهودية.
وكان العرض هو.. تسهيل خروج مليون يهودي من هنجاريا مقابل ثمن تدفعه الوكالة اليهودية لحكومة الرايخ الألماني.. وكان الثمن هو:
10000 لوري نقل
2 مليون صندوق صابون
800 طن بن
200 طن شاي
كميات من المعادن
وقدِّم هذا العرض من الوكالة اليهودية إلي لورد موين وزير الدولة البريطاني في الشرق الأوسط.. ولم يكتب لورد موين يرفض العرض، بل وأقنع تشرشل بضرورة الرفض. وسافر وايزمان - الزعيم الإسرائيلي ومنشيء إسرائيل - إلي لندن ليقتنع تشرشل، ولكن تشرشل قال له:
- إن الروس يشتكون من أننا لا نساعدهم بما فيه الكفاية.. فهل تريد الآن أن نعطي هذا كله لألمانيا لكي يساعدها في حربها لروسيا ماذا يقول حلفاؤنا إذن.. لو أنني فعلت ذلك فلا أضمن استمرار روسيا في الحرب... وستنهار جبهة المقاومة ضد النازية.
وعاد وايزمان إلي الوكالة اليهودية برد تشرشل وثارت ثائرة العناصر المتطرفة..
ودفع لورد موين حياته ثمناً لرأيه!
وانتهيت من قراءة الكتاب مع الإفطار في الصباح وبعدها حدث لي ما يلي:
1 -
زارني في مكتبي صحفي إنجليزي وجلسنا نتحدث وجرَّنا الحديث إلي الزوار القادمين لمصر لمناسبة احتفال العلمين. وقال الصحفي الإنجليزي أن أم أحد الجنود الذين قتلوا في العلمين أوصت أن يحرق جسدها بعد موتها، وأن يحمل رمادها إلي العلمين لتدفن بجوار ابنها، وأن زوجها وصل إلي مصر يحمل صندوقاً مليئاً برمادها... فقد ماتت منذ شهور.
واتجه بنا الحديث إلي حرق الموتي.. وإلي غيره من العادات الغريبة بعد الموت، وإذا الصحفي الإنجليزي يقول لي:
- هل تعلم أغرب شيء من هذا النوع... أن لورد موين وزير الدولة البريطاني في الشرق الأوسط أيام الحرب كان قد نص في وصيته علي أنه إذا مات فلابد أن يقطعوا شرايينه قبل أن يدفنوه لكي يسيل دمه كله.. ويتأكدوا أنه مات حتي لا يحدث خطأ فيدفن حياً ويموت في ظلام القبر وتحت ركامه..
ونظرت للصحفي الإنجليزي وقلت له: عجيبة... ما الذي ذكَّرك بلورد موين؟
2 -
في المساء التقيت بسيدة إنجليزية... وجلسنا نتحدث عن الموسيقي وأشهر العازفين الآن... ووصل بنا الحديث إلي العازف الشهير روبنشتاين.
وفجأة إذا بالسيدة تقول لي:
- هل تعرف.. لقد كانت لروبنشتاين ابنة عم جميلة... اسمها ليندا وكان لورد موين - الذي كان يشغل منصب وزير الدولة البريطاني في الشرق الأوسط - يعشقها ويصرف عليها دم قلبه.. وبعد موته عثروا علي مجموعة خطابات منها في مكتبه... وعثروا علي خطاب كان ينوي إرساله لها ولم تمهله عصابة شتيرن فقُتِل قبل أن يكمل كتابته، وكان في الجزء الذي أتمه عبارة يقول فيها:
لقد اضطررت لأن أخفض بعض الشيء من المبلغ الذي طلبته مني والذي أدفعه لك كل عام.
لقد طلبت عشرة آلاف جنيه
وقد حولت لك ثمانية آلاف
»تقّل ألفين عما طلبت ولكنك تعرفين الظروف«
ونظرت للسيدة التي تحدثني... وأنا في ذهول.. ولم أقل لها شيئاً... ولم أسألها كما سألت الصحفي الإنجليزي: ما الذي ذكرك الآن بلورد موين!
لم أسألها هذا السؤال... فلقد أيقنت لحظتها أن اللورد القتيل تحرك في قبره اليوم... ونزع أكفانه... وبعث شبحه ورائي لسبب غامض مجهول؟!!
لوحات في مكاتب زرتها هذا الأسبوع
قرأت لوحة معلقة في مكتب البكباشي زكريا محيي الدين وزير الداخلية.. اللوحة لبيت شعر يقول:
وأعز ما يبقي وداد دائم إن المناصب لن تدوم طويلاً
قرأت لوحة معلقة في أحد مكاتب إدارة الغاز والكهرباء تقول:
نحن معك إذا كنت مع الحق... ونحن مع الحق إذا لم يكن معك قرأت لوحة معلقة في مكتب تريفور ايفانز المستشار الشرقي للسفارة البريطانية... اللوحة مكتوبة باللغة العربية بخط كبير جميل.. اللوحة عليها حديث نبوي... الحديث نصه:
استعينوا علي قضاء حوائجكم بالكتمان!
1955/10/15
الاثنين:
ما هي علاقة التمثيل.. بالسياسة؟
وهل لابد للزعيم الكبير من أن يكون ممثلاً مجيداً؟
وأنا هنا أستعمل كلمة ممثل بمعناها العرفي.. أي صورة من صور المجاز أو التشبيه!
بمعني أن الزعيم الكبير، كالممثل المجيد، يخرج علي المسرح ليمثل دوراً رسمت له حركاته، وتحددت خطواته؟
بمعني أن الزعيم الكبير، كالممثل المجيد، يخرج علي المسرح وقد ارتدي من الملابس واتخذ من الأزياء ما يتناسب مع طبيعة دوره ويتلاءم مع الشخصية التي يمثلها علي المسرح الذي يقف فوقه؟
أكثر من هذا!
بمعني أن الزعيم الكبير، كالممثل المجيد، يخرج علي المسرح وقد طلي وجهه بالأصباغ.. حمرة علي الخدين والشفتين، وسواد علي الحاجبين، وشعر مستعار إن لزم الأمر، هذا هو ما أقصده.. فهل استطعت أن أعبر عن نفسي؟!
ومع ذلك فلأترك السؤال نفسه.. إلي موضوع السؤال؟
لقد التقيت اليوم بمراسل شركة الإذاعة الأهلية الأمريكية الذي طار إلي القاهرة لكي يحصل علي حديث مصور مع رئيس وزراء مصر يذاع علي كل محطات التليفزيون في أمريكا، وقلت للرجل حين لقيته، كلمة مجاملة، مما يتبادله زملاء مهنة واحدة، قلت له:
- لعل التوفيق كان معك؟
وقال لي المراسل الأمريكي وهو يهز رأسه:
- لقد حاولت بقدر ما أستطيع.. ولست أظن أنني فعلت كل الذي كان يجب أن أفعله؟
قلت بسرعة:
- لقد فهمت أنك قابلت رئيس الوزراء. وبقيت معه أكثر من ساعة، قال:
- هذا صحيح.. لقد حصلت علي ساعة من وقته.. ولقد شرح لي فيها وجهة نظره بصراحة.. أنا أشهد بذلك قلت:
- إذن ماذا؟.. لماذا تقول إنك لم تفعل كل الذي كان يجب أن تفعله؟
قال:
- أنا أقصد الفيلم المصور الذي سوف يُعرض علي شاشة التليفزيون حين يتكلم رئيسكم.. لقد جئت معي من نيويورك بكل الفنيين.. مصورين ومهندسين إضاءة وصوت.
قلت:- ألم تلتقط صور رئيس الوزراء وهو يحدثك.. أعني ألم يسمح لك بالتصوير؟
قال: بل سمح.. ولكن..
قالها وهو يهز رأسه كسيف البال.. بادي الأسي
واستطرد بعدها يقول:- لم نلتقط ما كنا نريد أن نلتقطه من صور
لقد بدأنا فالتقطنا صورة له وهو جالس علي مكتبه يتحدث، وطلبت منه لكي يكون الفيلم حيًّا متحركاً... وأن ينهض عن مقعده وأن يتمشي في الغرفة أمام آلات التصوير.. ثم يستدير وينظر إلي العدسة وهو يتكلم ويحرك يديه وقاطعت المراسل الأمريكي وهو يتكلم وسألته ضاحكاً:
- وماذا فعل حين قلت له هذا؟
قال:
- لا شيء.. نظر إليَّ بهدوء.. وقال وابتسامة رقيقة مهذبة علي شفتيه:
- لا أستطيع.. هل تريدني أن أمثل؟
واستطرد المراسل الأمريكي:
- وهكذا ظل طوال مدة المقابلة.. جالساً في وقار وتزمت علي مكتبه وكلما طلبنا منه حركة قال بنفس الابتسامة الرقيقة المهذبة:
- لا أستطيع.. لا أستطيع أن أمثل!
ومضي المراسل الأمريكي يقول: لقد قلت له وأنا أحاول إقناعه: سيدي الرئيس لقد رأيت كل الصور التي التقطت لك.. كلها لم تستطع أن تنقل للناس صورتك الحقيقية.. ولقد أدركت الآن السبب.. السبب هو أنك لا تساعد المصورين الذين يلتقطون صورتك.. أنت تنظر إلي المصور علي أنه رجل اعترض طريقك وليس لك إلاأن تتركه يلتقط صورتك بأسرع ما يمكن لكي تتخلص منه بأسرع ما يمكن أيضاً.. ولكن كثيرين يختلفون معك في مهمة المصور الآن.. إن أكبر ساسة العالم اليوم يمثلون أمام عدسات التصوير.. نعم يمثلون لكي تراهم شعوبهم في الدور الذي يجب أن يظهروا به!
ونظرت للمراسل الأمريكي في شغف وفضول وقلت: هل أقنعته حججك؟
قال الرجل بيأس: رمي بها كلها عرض الحائط.. وأحسست من نظرات عينيه ونبرات صوته أنه مصمم علي أن لا يمثل، وأنه من الخير لي إذا أردت أن أحصل علي شيء أن أقبل الوضع كما هو.. وإلا فإن لي مطلق الحرية في أن لا أحصل علي أي شيء بالمرة!!
ومد المراسل الأمريكي يديه إلي الأمام مستشهداً بي وهو يقول:
- هل تري في هذا شيئاً.. لقد عملت أنت كثيراً في الخارج.. ألم ترهم جميعاً.. ساسة العالم وزعماءه... يمثلون للجماهير ما يرضي خيالها ويتفق مع هواها؟
قلت: بصدق الذي يؤدي شهادة الحق أمام المحكمة:
- لقد قلت الصدق.. إنهم جميعاً يمثلون.. رأيتهم بعيني!
ولم أكن أجامل المراسل الأمريكي... ولم أكن أوافقه علي رأيه لمجرد تهدئة خواطره إنهم جميعاً يمثلون... رأيتهم بعيني!
لقد كان نيكسون، ريتشارد نيكسون، نائب رئيس جمهورية الولايات المتحدة الأمريكية هو أول زعيم رأيته في حياتي يمثل... كما يمثل نجوم المسرح والسينما... وأكثر!
كانت انتخابات رئاسة جمهورية الولايات المتحدة الماضية في عنفوان ضجيجها وصخبها وطرت من القاهرة لأكتب أنباءها لأخبار اليوم وفي يومي الأول في نيويورك رأيت المشهد التمثيلي الرائع الذي أداه نيكسون!
كان نيكسون يخوض المعركة مع أيزنهاور نائباً للرئيس.. وفجأة إذا المعارضة من الحزب الديمقراطي تُخرج وثائق تثبت بها أن نيكسون تلقي مساعدات غير قانونية من بعض أصحاب المصالح لكي يستعملها في المعركة الانتخابية... وقيمة هذه المساعدات 18 ألف دولار!
وكانت قنبلة!
وتصفحت جرائد نيويورك صباح وصولي نيويورك، وإذا كلها منهمكة في قصة ال 18 ألف دولار!
بعضها يهاجم نيكسون وبعضها يطالبه بالتنحي لكي لا يضعف حملة أيزنهاور.. بعضها ضائع بين الشك واليقين وعند الظهر أذيع أن نيكسون سوف يظهر بنفسه علي التلفزيون لكي يشرح موقفه للناس!
وفي المساء جلست في ردهة الفندق الذي كنت أسكنه مع عشرات غيري من النزلاء، وأنتظارنا جميعاً معلقة علي جهاز التليفزيون الذي وضع في صدر الصالون.. كنا جميعاً في انتظار إذاعة نيكسون!
وجاءت الساعة السابعة.. الموعد المحدد وأضاءت اللوحة البيضاء التي تظهر عليها المناظر في جهاز التليفزيون!
وحملقت في المنظر الذي رأيته أمامي في دهشة، توقعت أن أري نيكسون.. واقفاً.. أو جالساً وراء مكتب مثلاً... بينما هو يتكلم ويشرح موقفه ولكن الذي رأيته كان مختلفاً.
- رأيت نيكسون جالساً علي مقعد كبير وبجواره زوجته علي مقعد كبير آخر، وتحت أقدامهما جلست طفلتان صغيرتان: آن.. وجانيت ابنتا نيكسون وبيديهما الألعاب وعرائس الأطفال وبدأ نيكسون يتكلم وليس المهم ما قاله فليس ذلك موضوع هذا الحديث إنما المهم ما فعله وما فعله غيره من الممثلين علي المسرح.. زوجته.. والطفلتان!
راح هو وجاء... وقام وقعد واقترب أمام عدسات التصوير وبالتالي أمام عيوننا علي اللوحة البيضاء فوق جهاز التليفزيون... ثم رفع يديه... وهبط بهما... ورفع نبرات صوته.. ثم هبط بها هي الأخري وكانت زوجته تنظر إليه... وكان في عينيها تأثر... وحب.. وإشفاق عليه والطفلتان ماضيتان في اللعب كأن لاشيء هناك.. كأنهما اعتادتا اللعب أمام عشرات الأضواء القوية في أستوديو الإذاعة... وأمام عشرات الميكروفونات وأضواء التصوير...
ثم قال نيكسون: أقسم لكم أنني لم أقبل هدية من أحد... لكي أكون صادقاً قبلت هدية ذات مرة...
ها هي وخطا نيكسون إلي جانب الاستديو حيث كان هناك كلب صغير... أسود اللون... وعاد نيكسون إلي وسط لوحة العرض البيضاء والكلب في يده... وإذا الطفلتان تجريان إلي الكلب تمسكان به... وإذا نيكسون يرفع يديه إلي عينيه ثم إذا هو يجهش باكياً وينهنه بصوت عال.. وزوجته تنهض إليه تربِّت علي كتفه مواسية وهي تمسح بالمنديل الأبيض دموعها... والطفلتان تقبلان الكلب الأسود الصغير في براءة الطفولة اللاهية.. أو هكذا استطاعتا اتقان الدور... ونزل الستر أقصد انتهت الإذاعة... وأظلمت اللوحة البيضاء علي جهاز التليفزيون!
وكانت إحدي العجائز الجالسات بيننا في الصالون قداستبد بها التأثر... وقالت:
- إنه »جدع« - النص العربي الدارج للكلمة الإنجليزية الدارجة التي قالتها - طيب... نعم إنه »جدع« طيب مسكين.. وزوجته تحبه... والطفلتان في منتهي الجمال والبراءة... وهما تحبان الكلب الأسود الصغير
وكان هذا... أو ما يقرب منه... رأي معظم الجالسين معنا في الصالون.. أما أنا فكنت بتشكك الشرقي الذي يستريب في كل شيء أغمغم لنفسي قائلاً:
- مشهد تمثيلي من الدرجة الأولي
ولم أكن أبالغ لقد حدث هذا كله في استديو إذاعة... أمام مجموعات من أجهزة الإضاءة وأجهزة التصوير وأجهزة الإذاعة... وراء كل جهاز منها مجموعة من الفنيين.. ولا بد أن المشهد كله جرِّب مرة ومرتين وثلاثاً قبل أن تبدأ الإذاعة الفعلية وإذا لم يكن هذا كله... الحركات.. والزوجة.. والطفلتان.. والكلب.. والدموع.. إذا لم يكن هذا كله تمثيلاً.. فماذا يكون؟!
وتعودت الأمر كله بعد ذلك خلال المعركة الانتخابية.. وبدأت دهشتي تقل مع التجارب.. ولم يعد فمي ينفتح ذهولاً أبله للذي كنت أراه!
لم يعد يدهشني مثلاً وأنا علي قطار أيزنهاور خلال المعركة... أن أراه يتعرض لكشف هيئة دقيق قبل أن يخرج كل مرة ليواجه الجماهير.
خبير خاص يرقب هندامه... يتحسس الثوب... ويصلح رباط العنق ويتأكد من انسجامه مع باقي الملابس إذا كان الرئيس المقبل سوف يخطب في فندق... أو في صالة خاصة.
نفس الخبير يحرص علي أن يكون الثوب متهدلاً في غير ما عناية أو نظام، وأن يكون رباط العنق خارجاً من أزرار السترة لكي يبدو الرئيس المقبل أقرب إلي الرجل العادي إذا كان سوف يسير علي قدميه في الشارع.
خبير آخر يدهن له شعره بدهان خاص يطفيء لمعان رأسه الأصلع... فإن خبراء التصوير لاحظوا أن وهج الأضواء التي تلتقط عليها الصور ينعكس علي صلعة الرئيس المقبل ويشوه الصور التي تنشر له، ومن هنا جاء خبير التجميل له بهذا الدهان الذي يذهب بلمعة الصلع!
خبير ثالث يجري بأدهانه وأصباغه علي ملامح الرئيس المقبل لكي تختفي التجاعيد... وتضيع الهالات السوداء تحت العينين وإلا فهل يقبل الناس علي إعطاء أصواتهم لزعيم محطم..؟ يجب أن يري الأمريكيون رئيسهم في صورة صحية... حتي ولو كانت أمراض الدنيا كلها تقبع داخل كيانه!
والكارثة إذا كانت خطبة الرئيس المقبل سوف تذاع علي التليفزيون.
كنت لا أصدق عيني حين أري أيزنهاور. قائد البر والبحر والجو الذي حطم هتلر وجيشه الألماني.
العسكري الذي قاد أكبر مجموعة من الجيوش في التاريخ.
ها هو بنفسه أمامي... ولكن يالها من كارثة!
الرجل يضع أحمر الخدود علي خديه. وعلي شفتيه مرت أصابع الروج. وجهه كله مطلي بأصباغ.
جفونه أعيد رسمها بالأسود الفاحم من جديد.. أهدابه ظُللت بأعجب ما قدم صناع الجمال.
لا بد من هذا لكي تظهر صورته واضحة علي اللوحة البيضاء المضيئة لجهاز التليفزيون!
ولقد كان مؤتمر الأقطاب الأربعة الكبار في جنيف شيئاً من هذا النوع!
نصف المؤتمر علي الأقل كان مجرد تمثيل.. خروشتشيف ضبع الاتحاد السوفيتي يقف ساعة كاملة أمام المصورين.
واحد يقول له: ابتسم... ويبتسم. واحد يقول له: ارفع يدك... ويرفع يده.
وتلاحقه طلبات المصورين وإذا هو يقول لهم ضاحكاً: انتظروا عليَّ... واحداً.. واحداً... سوف أجيب طلباتكم بالدور.
ثم يموت علي نفسه من الضحك، ويقول: ألست مثل البريمادونا الشهيرة!
ويمضي الضبع الأحمر خروشتشيف.. يمضي في حركاته... لا يتوقف منها إلا حينما يقنع كل المصورين... ويعتقد كل واحد فيهم أنه أخذ لخروشتشيف الصورة التي يعجب بها قراء صحيفته أكثر من غيرها.
وحين توقف خروشتشيف مرة في شارع في جنيف ليلتقط صورة لطفلة صغيرة أحس خبراء الدعاية مع الرئيس الأمريكي أيزنهاور أن الضبع الروسي كسب حركة إنسانية أمام الناس... وعُقِد اجتماع بحثت فيه كل الوسائل والأفكار التي يستطيع بها أيزنهاور أن يكسب حركة إنسانية مضادة.
وكان الحل أن ينزل أيزنهاور في اليوم التالي ويلتقط مصورو الصحف صورته وهو يشتري عروسة صغيرة لحفيدته.. صورة حية للجد الحنون.
ولم يكن خروشتشيف يعني أن يلتقط صورة الطفلة الصغيرة الجميلة في شوارع جنيف... ولكنها رغبة التأثير الإنساني علي الناس.
وكذلك لم يكن أيزنهاور ينوي أن يشتري عروسة لحفيدته، ولو كانت تلك رغبته لكان في أحد ياورانه الكفاية.. ولكنها أيضاً رغبة التأثير الإنساني علي الناس... وبعدها أعود إلي السؤال الذي بدأت به:
- هل هناك علاقة بين التمثيل والسياسة؟!
الأربعاء:
سمعت صوته علي التليفون يقول لي:
- هأنذا قد جئت.. فمتي أراك؟
قلت: حالاً.. وتركت مكتبي وانطلقت أتلقف الزائر الذي وصل هذه اللحظة من لندن!
كنت متلهفاً لرؤيته... حريصاً علي أن أكون معه منذ أول دقيقة ينزل فيها أرض وطني!
لم يكن زائراً ككل الزوار، لم يكن مجرد واحد من الذين ألتقي بهم خارج مصر، وأحدثهم عن بلدي، وأسألهم أن يتصلوا بي إذا مروا بأرضها يوماً من الأيام... ثم أعود فأنسي كل شيء عنهم... إلا إذا حدثت المفاجأة وقذفتهم الظروف يوماً من الأيام... وإذا هم في القاهرة!
لم يكن واحداً من هؤلاء.
لقد تركته في لندن وعدت... ومضيت أعد الأيام حتي يجيء. وكنت - وقد قلتها له - سوف أصاب بخيبة أمل شديدة إذا لم يجيء إلي مصر كما وعدني ونحن نفترق في لندن!
وحينما التقيت به في لندن مد يده يصافحني وينطق باسمه بالإنجليزية:- فور ايكرز.. هذا هو اسمي!
ثم قال باللغة العربية.. بلكنة إنجليزية: يعني أربعة فدادين.
وضحك الإنجليزي العجوز.. الأشيب الشعر.. الأنيق الهندام علي غير عادته الإنجليزية ومضي يقول بالعربية أيضاً: أيوه أنا المستر أربعة فدادين!!
قلت له: يدهشني أن تتكلم العربية.. هل زرت مصر؟
وضحك وقال: بل عشت فيها قبل أن تعيش أنت.
وسمعت قصته ذات ليلة علي العشاء في فندق اويسبوريب في لندن!
كان ضابطاً في جيش الاحتلال البريطاني، كان في مصر أيام ثورة سنة 1919.. ورأي الثورة وعاشها.. رآها وعاشها بالطبع.. في الناحية الأخري من المعركة!
وسمعت منه قصة الثورة، لأني سمعتها من الذين أطلقت عليهم النار دائماً كما يرويها الذين أطلقوا النار!
وبين القصتين فارق كبير!
وروي لي أنه عيِّن حارساً لمعتقل القلعة، وكيف كانت الحياة بين المعتقلين من زعماء مصر في هذا السجن الذي كان هو حارسه، وسألني:
كان هناك سيد اسمه سينوت حنا.. ماذا يفعل الآن في مصر؟
- قلت: لقد ذهب إلي ربه. قال: وحمد الباسل.. ماذا جري له؟
قلت: هو الآخر ذهب معه؟
ومضي يروي لي كيف كانوا يتفقون فيما بينهم علي كل كلمة يقولونها في التحقيق العسكري الذي يجري معهم.. وكيف كانوا يتشاجرون في نفس الوقت علي نوافذ العنبر الذي تكدسوا فيه.. هل يفتحونها أم يُحكمون إغلاقها!!
وسألني المستر أربعة فدادين.. أقصد فور أيكرز:
- هل تغيرت مصر عن أيام زمان؟
وسكت
لقد كانت مصر التي يعرفها بخياله هي مصر أخري غير التي نعيشها اليوم.. كانت مصر التي يعرفها.. هي مصر أيام الحماية.. وأيام حكم دار المندوب السامي.. وأيام المستشارين الإنجليز. وأيام ثكنات قصر النيل وعليها العلم البريطاني في قلب العاصمة. وأيام كان رؤساء الوزارات يشار لهم بالإصبع فيتهالكون علي السمع والطاعة وسألني:
- لماذا لا ترد؟
- ما رأيك لو جئت بنفسك فرأيتها بعينيك.. مصر.. كما هي الآن؟
قال: إن مصر في طريق رحلتي القادمة وسوف أجيء!
وبرَّ بوعده هذا الأسبوع وقضي في مصر ثلاثة أيام!
وشددت علي يده مودعاً وقلت: هل تذكر سؤالك ونحن في لندن؟.
لقد قلت لي:
اهل تغيرت مصر عن أيام زمان؟ب.. ما رأيك لو أجبت أنت علي هذا السؤال؟ وسكت الإنجليزي الأشيب العجوز واختلجت زرقة عينيه.. بينما لسانه مازال حائراً متردداً يبحث عن لفظ!..
وأحسست بكهرباء.. حارة.. خاطفة مفاجئة.. تمس أعصابي كلها...
هل هو الفخر؟
هل هي الكبرياء؟
هل هي الشماتة؟
أو هو مزيج من ذلك كله؟!!
تصدر اليوميات عن قطاع الثقافة
بمؤسسة اخبار اليوم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.