د. رفعت السعيد مناضلون يساريون ريمون أجيون «أنا ارستقراطي، ابن ارستقراطي ، وكتعبير عن ضمير غاب عن طبقة بأكملها تمردت وأصبحت يساريا». ريمون أجيون كان بالنسبة لي شيئا يشبه الشبح. تسمع عنه، تتردد حوله حكايات غير مكتملة. يهمسون أنه المؤسس الحقيقي لمنظمة الحزب الشيوعي المصري (الراية) ، وأنه الأب الروحي لقادته د. فؤاد مرسي ود. إسماعيل صبري عبد الله، وأنه .. وأنه.. ولكن أين هو؟ وكيف؟ وأخيرا التقيته. كانت السيارة الفارهة لرجل أعمال من أصل مصري تمضي مسرعة إلي باريس أخري غير تلك التي نسمع عنها أو نراها ونحن زائرون، أنه حي شديد الارستقراطية ومبني هو الأكثر ارستقراطية في هذا الحي. ومدخل يخيفك من فرط فخامته، أما الشقة فهي أكثر فخامة من الاثنين، هي بالدقة ليست شقة لكنها متحف لمئات اللوحات من الفن التشكيلي كل منها يوحي لك أنها شيء ثمين جداً، وكانت كذلك فريمون أجيون هو واحد من أشهر وأغني تجار اللوحات التشكيلية، وهذا بيته وكنزه ومتحفه.. ومعرضه. تأملني طويلا قبل أن يفسح الباب كي أدخل، وقال وهو يقودني إلي الصالون أنت إذا من يفتش عني وعن تاريخي00 قلت : لست وحدك0 فأجاب: أعرف. وأنا معجب بنشاطك في كتابة تاريخ حركتنا. هزتني كلمة «حركتنا». وتشجعت، وبدأ الحوار مباشرة، وكنا في ابريل 1973. لكن الكلمات تخرج منه حذرة . فضحكت. قال لماذا تضحك. قلت حاولت أن أفتح الحنفية لكن الماء ينزل نقطة نقطة. فغير مجري الحديث وبدأ هو في السؤال عن مصر وهل ننوي أن نحارب؟ ومتي نستعيد سيناء. قاطعته لقد وعدتني بساعة أريدها كاملة فإذا أردت أن تسأل عن مصر فخذ مني وعداً بيوم كامل. وأخيرا فتح ريمون أجيون صفحة كتابه من أسطرها الأولي. كنت شابا من أسرة يهودية أجنبية أرستقراطية جدا ولدت عام 1921، وكنت أتردد كثيرا جدا علي أوربا وخاصة باريس وقرأت كثيرا فلم يكن مطلوبا مني أن أعمل قرأت لجان جاك روسو وفيكتور هوجو (ووجدت أن بؤساء مصر مثل بؤسائه) ولعشرات غيرهما. وفي عام 1936 وخلال زيارة باريسية بدأت علاقات خفيفة مع اليسار الفرنسي كانوا مرعوبين من هتلر وخاصة اليهود منهم وأنا يهودي. وأصبحت شبه يساري. في ذلك الحين كنت طالبا في المدرسة اليهودية بالإسكندرية وكان مديرها اشتراكي النزعة ومدرسة التاريخ آنا طوبي وكانت ماركسية وتدرس لنا التاريخ عبر المادية التاريخية. المناخ العام في المدرسة اشتراكي ومعاد للفاشية لكنها كانت مدرسة لكل اليهود.. طلاب فقراء وآخرون اغنياء جدا وباختصار أصبحت ماركسيا. ضمتني مدام طوبي إلي اتحاد انصار السلام (فرع الإسكندرية) كنت متحمسا وصغيرا لكنني وجدت أننا أجانب نخاطب أجانب بلغة أجنبية وعبر قراءة كتب أجنبية. وفي السابعة عشرة حصلت علي البكالوريا وسافرت إلي باريس لأدرس الطب، حلم خيالي داعبني قرأته في إحدي الروايات طبيب غني يعيش وسط الفقراء ليعالجهم مجانا، وأصبحت هناك عضوا في الحزب الشيوعي الفرنسي. لكن نذر الحرب العالمية تصاعدت فعدت إلي مصر. وعدت إلي اتحاد انصارالسلام وأشهرت التمرد علي أجنبية العمل وكنا أربعة متمردين أنا وفتاة يونانية لا أذكر اسمها وراؤول كورييل شقيق هنري كورييل ومارسيل إسرائيل (سمي نفسه لاحقا شيريزي بدلا من إسرائيل) اجتمعنا ومن فرط سذاجتنا قررنا أننا نحن الأربعة الحزب الشيوعي المصري. وتأسس النادي الديمقراطي (هنري كورييل) وانضممنا إليه، كذلك انضممنا إلي جماعة الفن والحرية. وأصدرنا مجلة «دون كيشوت» وكتبت أنا وراؤول افتتاحية العدد الأول، وكانت الصورة معقدة ستالين عقد هدنة مع هتلر وجميع اليهود غاضبون ومرعوبون حاولنا الدفاع عن ستالين فلم نستطع وجاءت الكلمات مترددة وتوحي بالنقد، فاتهمنا الناس أننا تروتسكيون وغضب مارسيل وتركنا وتوقفت المجلة وانضممت أنا ورمسيس يونان إلي مجموعة «المجلة الجديدة» (سلامة موسي) وبدأت في تمويل المجلة بسخاء ثم اشتريتها. وكان رمسيس يونان تروتسكيا وكان يتلاعب بي، فهو يعرف أنني مع الاتحاد السوفيتي وعندما اسفر عن وجهه التروتسكي تركتهم كانت المجلة باسمه رغم أنني دفعت كامل الثمن، لكنني توقفت عن التمويل فتوقفت المجلة، وتعرفت علي شاب متحمس هو أسعد حليم وأسست له دار نشر هي دار الفجر وكان شابا وديعا ومناضلا حقا. وفي ذلك الحين وفد إلي مصر آلاف المهاجرين اليوغسلاف (000ر28) وكانوا مكدسين في بؤس شديد في معسكرات تابعة للصليب الأحمر ، وكان كثيرون منهم يساريين فاشتركت أنا وزوجتي وعدد من السيدات الانجليزيات في جمع تبرعات لهم ومساعدتهم، وكانت هناك أيضا كتيبة من الشيوعيين اليونانيين الذين حاربوا مع جيوش الحلفاء ضد النازي، وكانت القيادة البريطانية تحاول التخلص منهم فتدفع بهم دون احتراز إلي خطوط النار الأكثر خطورة بهدف إبادتهم، وتمرد اليونانيون عدة مرات، وكنا نساعدهم أيضا، وفي عام 1945 بدأت الحركة الشيوعية المصرية في الانطلاق وبدأت جذورها تتعمق وأحسست أنني بوضعي الأجنبي وبثقافتي الأجنبية عاجز عن تقديم المزيد. فتركت مصر إلي فرنسا. وسكت. انتظرت فإذا به يرسل بصره إلي لوحاته واحدة بعد أخري وكأنه يطلب مني أرحل . قلت غاضبا ما لهذا أتيت. قال ماذا تريد؟ قلت : أعرف أنك كنت مسئولا عن مجموعة طلاب مصريين ملحقين بالحزب الشيوعي الفرنسي. قال: كنت التقي بعض الطلاب المصريين منهم: فؤاد مرسي- اسماعيل صبري- مصطفي صفوان وكونت منهم مجموعة تابعة للحزب الشيوعي الفرنسي. وهذا كل شيء، وصمت. وصممت فأضاف «هذه المجموعة عملت معي حتي سافر أغلبها إلي مصر. وألححت فقال «وعندما عادوا إلي مصر أسسوا مجموعة أسميت الحزب الشيوعي المصري» قلت: ثم، قال بملل: كنت أرسل لهم رأيي ، لكنه كان مجرد رأي فأنا لم أصدر أي توجيهات، قلت وماذا عن نشرة «الشرق الأوسط» فقال : أنت تعرف الكثير. ومضي قائلا: عندما أسس الطلاب العائدون الحزب الشيوعي المصري وأصدروا عشرات البيانات والتقارير كانت ترسل لي وتترجم وتصدر بالفرنسية في نشرة «الشرق الأوسط» فتصور البعض أنني مسئول في الحزب المصري ولم أكن كذلك. وقد صدرت هذه النشرة في عام 1949 واستمرت حتي 1951. كنت أمولها وأشرف علي ترجمتها أنا ومجموعة من المصريين المقيمين في فرنسا. ثم نظر في ساعته وقال أمامك خمس دقائق. ودار الحوار بشكل خاطف. قلت : بصراحة يقولون أنك كنت مسئول المجموعة المصرية في الحزب الشيوعي الفرنسي. قال: كنت معهم. نعم قلت: معهم أم مسئولهم؟ قال: لماذا تهتم بهذا التحديد الدقيق؟ قلت: قالوا أنك الأب الروحي لمجموعة الراية. قال: كانوا أصدقائي وزملائي ألا يكفيك هذا. قلت : ثمة فارق بين الصديق والأب الروحي. قال غاضبا وقد وقف لينهي المقابلة: كانوا اصدقائي اتصلنا ببعضنا كثيرا، تناقشنا، تفاهمنا، أبديت آرائي، أبدوا آرائهم. ألا يكفيك هذا؟ قلت : اكتفي به مرغما. وفيما اغادر تخلي عن تحفظه وارستقراطيته احتضنني، وقال صدقني أنا معجب بجهودك في تجميع تاريخ حركتنا. ضحكت هل اسجل كلمة حركتنا كاعتراف منك. قال انت صديق وأنا أثق أنك ستكتب الحقيقية. وارجو ألا تتردد واصل تجميع المعلومات قبل أن يرحل أصحابها. أنت تقوم بعمل جيد. ثم سكت وفيما يقبلني قال ليس مجرد جيد وأنما ممتاز.