من حسن حظ الكاتب العربي أن الساسة والرقباء هم في الأغلب فارغون أخفاء مجوفون، أو بتعبير أقرب حمقي ومغفلون، مُثقلون بميراث كبير من الجهل، الذي يجعلهم غير قادرين علي رؤية الأشياء علي حقيقتها، ووفق ما تتطلبه رؤيتها من معايير، فما أشبههم بالمراهق المأزوم، الذي ما إن يري زميلة له في الصف الدراسي حتي ينصرف ببصره ومن ثم تفكيره فيما يمكن أن يثيره فيها، وربما كان ما يثيره هو حذاؤها أو إصبع قدمها، تبعا لزاوية رؤية ضيقة ومريضة، يحدث هذا في مجال الأدب ممن يتعاملون مع النص الأدبي تربصا واصطيادا، وبحثا عن كل ما يثير أو يشبع نقصا ما لدي البعض، ويشارك الساسة والرقباء في هذا أشباه مثقفين وموهوبين، لم يتعلموا يوما كيف يقرؤون نصا أدبيا، أو في أحسن تقدير، يتصورون الأدب تابعا لحركة المجتمع، في حين أن الحقيقة هي عكس هذا تماما، أو هذا هو ما ينبغي أن يكون. ويبدو الأمر كأشد ما يكون وطأة بالنظر إلي ما نراه لدي كل أزمة مع الرقابة، وما تحاول أن تفرضه علي النص، من سلطة ليس لها ما يبررها، وكأن الكاتب صاحب سوبر ماركت يجب أن يقدم للمنطقة التي يخدمها ما تريد من سلع، وبئس هذا التصور المريض، الذي يكشف أزمة حقيقية للعقل العربي في الأساس، هذا العقل الذي تراجع في كل شيء، ولم يعد قادرا علي العطاء في أي مجال، فضلا عن مواكبة عطاءات مَنْ تخلصوا من هذا الميراث المقيت، الذي يفرض حضوره الطاغي علي حركة هذا المجتمع. وهنا يبدو استخدام الرقابة في مواجهة الأدب، كأداة للقمع والإقصاء والتهميش، هذه الأسلحة التي تشهرها السلطة (أية سلطة)، سواء أكانت سياسية أو دينية، كما يشهرها المجتمع، حتي يبقي الكاتب العربي والكتابة العربية تحت أجنحة السلطة والمجتمع، وكلٌّ له أسبابه ودوافعه، ولا يسلم من هذا إلا كتابات رثة وهزيلة، ذات وصفة محددة وسابقة التجهيز. وتحمل الأزمة الأخيرة لرواية (استخدام الحياة) كثيرا من الأفكار المستهلكة عن أزمة حقيقية للأدب، تتجلي ليس فقط في علاقته بالرقابة والمجتمع، ولكن أيضا فيما يتعلق بالمحسوبين علي الأدب أنفسهم، ممن شاهت أفكار كثير منهم، حول أشياء كانت في السابق محسومة، حتي في ثقافتنا العربية نفسها، ولدي من يعدون من كبار فقهائها وعلمائها وكتابها القدامي، ممن حسموا كثيرا من الجدل، حول موضوعات ما زالت تأكل تفكيرنا، وتقتات علي وعينا المأزوم. فلدي قراءة أي نص، حتي مع النص القرآني ذاته، يبدو شيئا من العبث أن نقتطع كلمة أو جملة من سياق ما، ونقرأها بمعزل عن هذا السياق، والمثال الأشهر لهذا أن نقرأ الجزء من الآية (لا تقربوا الصلاة) دون تتمتها، وما أظن هذا القول الذي يرقي لدرجة الحكم المنطقي الذي لا يقبل الشك، في حاجة إلي كلام كثير ولا قليل، إلا إذا انحدر بنا الحوار مع من لم يقرأ نصا أدبيا في حياته، وربما ولا أي نص آخر، وكذا أشباه الكتاب، ممن يمتلئ بهم هذا الواقع الشائه، فأصبحوا يهرفون بما لا يعرفون. وغني عن القول أن دلالة الكلمة في سياق ما تختلف عنها في سياق آخر، وربما استمعنا إلي حفلة للسيدة أم كلثوم في إحدي الدول الشقيقة، عندما قطعت الغناء وشتمت أحد الحاضرين قائلة (اخرس يا قليل الأدب)، لأنه قال لها (يا مَرَة)، لقد تلقت السيدة هذه الكلمة في السياق المصري المتعارف عليه، باعتبارها ابتذالا للمرأة، والرجل لم يخطئ في سياقه المعرفي، حيث تساوي هذه الكلمة لديه (يا سيدتي)، و(مَرَة) هي (مرأة) بتخفيف الهمزة، وهذا مما لا يُنْكَرُ في فصيح الكلام، ونذكر كلمة (يا ستي) علي لسان الخادمة في قصة (نظرة) ليوسف إدريس، هل كان ممكنا له أن يجعلها تقول (يا سيدتي) بدلا من (يا ستي)؟ لقد ناقشت رواية لكاتب أصر طوال الرواية علي استعمال كلمة (المرئي) بديلا لكلمة (التليفزيون)، وغيره من الكتاب يُنْطِقُونَ شخوصهم بلغة لا يمكن أن تناسبهم، كأن يقول عامل في مقهي: لم أنبس ببنت شفة، أو: لم أحر جوابا، وتعرفون أن مفسرين وفقهاء كتبوا في موضوعات، وجعلوا من بين عناوين كتبهم من الكلمات ما لو استعملناه اليوم لأقيم علينا الحد، هم كتبوا هذا دون أن يتهموا بخدش الحياء العام، وأتساءل معكم: هل علي الكاتب العربي أن يفكر بلغة، ويتحدث بلغة ثانية، ويكتب بلغة ثالثة، حتي يرضي القارئ المفترض؟ وأي سياق يجب أن يتحراه الكاتب؟ هذان سؤالان حقيقيان مفتوحان، يمكن أن نبحث لهما جميعا عن إجابة. لقد حرصت علي قراءة رواية (استخدام الحياة) بعد أن وضع الجدل الدائر حولها شيئا من أوزاره، وما رأيت الأزمة حولها إلا ككل الأزمات السابقة المتعلقة بالرقابة، فالرقيب المراهق الذي لن ينظر من بين تفاصيل زميلته في الصف الدراسي إلا إلي حذائها، إشباعا لخلل أو نقص يعانيه، لن يهتم بعقلها أو أفكارها، وربما لن يعبأ بها حتي لو بصقت في وجهه، اعتراضا علي نظرته الرخيصة إليها، وكذا يفعل الرقيب العربي، الذي لا تشغله أفكار الكاتب، ولا كيف عبر عنها، في تشكيل جمالي، من حق كل قارئ أن يراه كيف شاء، ولا ينشغل الرقيب العربي بهذه البصقة التي يضعها الكاتب في وجهه، عندما يزلزل إرثا كبيرا من المفاهيم المستهلكة لديه، وإنما ستشغله كلمات يراها خادشة للحياء العام، لمجتمع متهرئ، لم يعد يعنيه الأدب من الأساس، وهكذا يصبح كل ما يثير الرقيب ومن ثم المجتمع هو هذه الكلمات اليسيرة، التي لا تقدم ولا تؤخر، ولو جمعت في عبارة واحدة فربما لا تحتل أكثر من سطرين أو ثلاثة، عبر رواية تزيد صفحاتها علي 230 صفحة، ويمكن أن نتفق (وبوضوح شديد) مع من عدها فِجة وخادشة لجماليات السرد الروائي، أما أن تصبح هذه الكلمات هي ما يثير الرقيب الذي أخذ التوكيل من المجتمع (علي بياض)، ليحافظ علي أخلاقه المُدَّعَاة، وحيائه العام، فإن هذا عبث لا يستحق عناء الرد، وأزعم أن أية أزمة رقابية لم تخرج عن هذا الشكل السخيف المكرور (ملحوظة لأشباه الكتاب ممن يجب أن يتحروا اللغة الصحيحة السليمة، بدلا من أن يشغلوا أنفسهم بقضايا فكرية وفنية وجمالية ليس في مقدور أمثالهم مجرد الحديث فيها: الفِج بالكسر هو ما لم ينضج من الطعام والفاكهة، فهي ثمار فِجة، ومن ذلك أيضا: طبع فِج، وكلمات فِجة، أما الفَج بالفتح فهو الطريق الواسع، هذه هي اللغة الفصيحة، وفي القرآن (يأتين من كل فَج عميق). ومن تتمة العبث أن نتصور الكاتب سواء صاحب (استخدام الحياة) أو غيره، وقد نثر هذه الكلمات عمدا وقصدا، ووزعها علي صفحات عمله الإبداعي، لكي يلفت النظر إلي عمل فيه الكثير والكثير مما يمكن أن نتفق أو نختلف عليه، تماما كما كانت رنة خلخال امرأة تلفت النظر إليها في حي شعبي قديم، وقد لا يبدو ثمة بأس في أن يترك الكاتب العربي (طُعْمًا) تنخدع فيه سمكة الرقيب، فتقع سهلة، ربما ينتبه المجتمع إلي أن ثمة كاتباً يَسْتَحِقُّ أن يُقْرَأ، ولا أنكر علي الكاتب (في سياق ما نعيشه من عبث) أن (يقترف) هذه الحيلة، حيث لم يعد ثمة قارئ لوجه الفن والوعي، وما أظن د/جابر عصفور أو أ/محمد سلماوي وغيرهما كانوا ليجدوا وقتا لقراءة الرواية، إلا في إطار هذا الجدل، وخصوصا لأن أمورا أخري كثيرة هي ما يشغل الرأي العام، ويخدش حياءه المفترض، أكثر من سطرين في جزء من رواية، نشر في جريدة أدبية. أذكر في سياق أزمة رقابية منذ سنوات، حول فيلم سينمائي، أثارها كالعادة عدد من المتنطعين من أعضاء مجلس الشعب، وربما كان نشاط بعضهم الاقتصادي يتركز حول تجارة السلاح أو العملة أو الأغذية الفاسدة، وهذه أشياء كما نعلم (لا تخدش الحياء العام)، وقتها أوصي المجلس الموقر بمنع عرض الفيلم، وهنا ثار أحدهم مطالبا بالسماح بمشاهدته في عرض خاص للسادة النواب، حتي يمكنهم أن يُكَوِّنُوا رأيًا حوله، وتساءل البعض وقتها: كل هذا الجدل ولم تكونوا قد كونتم رأيا بعد، بل لم تشاهدوا الفيلم من الأساس؟! ويتكرر هذا بشكل أو بآخر، ولا تبدو شِبْهُ الكاتبة التي أدلت بدلوها حول الرواية مؤخرا إلا كهذا العضو الموقر، الذي شاهد أو طلب مشاهدة الفيلم بحثا عما يثيره كمراهق، لقد تباكت علي الأساليب البلاغية والمحسِّنات البديعية، من طِباق وجِناس وكناية واستعارة وتَوْرِية، وغير هذا مما رأته من جماليَّات اللغة وموسيقا الكتابة النثريَّة، التي تستخدم (وَفقا لرؤيتها) في إثارة الذِّهن وتحريكه، واستغلال ثراء اللغة في أداء الفكرة، ولا أظن أن هذه الوصلة من الكلام المكرور والمفتوح والمُنْتَزَع من عصور سحيقة، قادرة وحدها علي قراءة المشهد الراهن، فبوسعي أن أستعيد معها حكما قاطعا ل"ابن قتيبة"، المُتَوَفَّي في عام 889م، ذهب فيه إلي أن الأمر الذي يجب أن نُعَوِّلَ عليه لدي استعمال لفظ ما هو السياق الذي اسْتُعْمِلَ فيهِ هذا الرمز، أما المحسنات البديعية التي ذكرتها، والتي لا يبدو أنها تُحْسِنُهَا أو تعرفُ الفرق بين أيٍّ منها (وذلك من واقع ما وقع في يدي لها من كتابات رَثَّةٍ وهزيلة)، ف (لعلها) تعرفُ أن الكتابة الراهنة قد تجاوزت ألوان البديع، إلي آفاق معرفية وجمالية كثيرة. بالطبع هذا ليس دفاعا عن الرواية، التي لا أنكر استمتاعي بها (علي المستوي الشخصي)، كما لا أنكر اختلافي مع كاتبها حول بعض الأمور، ومن بينها هذه الكلمات الفِجة، التي كان بوسعه أن يستعمل غيرها، وكذا اختلافي مع من يقرؤون الأدب قراءة متربصة ومريضة ومراهقة، تبحث عما يثيرهم، ويشبع فيهم بعض النقص، ولكنه دفاع عن قيم ما أحوجنا إليها، إذا كنا نتطلع إلي كتابة حقيقية، بوعي فارق ومغاير.