مع انتهاء كل دورة من دورات مؤتمر الأدباء، نجد تساؤلاً دائماً يفرض نفسه: ما الجدوي من هذا المؤتمر؟ ربما تكون الإجابة عن هذا التساؤل في هذه المرة مختلفة.. فبعض الأبحاث التي قدمت بعيدة عن التنظير، ولجأت إلي أن تضع يدها علي عدد من الأزمات الدائمة في الثقافة المصرية، ومن ذلك عدم الرضا عن اداء مؤسسة هامة مثل الثقافة الجماهيرية، وهو ما تناوله الناقد محمد السيد عيد في بحثه (هيئة قصور الثقافة.. النشأة.. التطوير.. المستقبل).. الذي سبق أن نشرته «أخبار الأدب» في إطار سعيها الدائم لكي تنتقل هذه الهيئة من خانة «أداء الواجب« إلي خانة الادراك الحقيقي لدورها، الذي أصبح للأسف يتناقص يوماً بعد يوم، وفي هذا الإطار تأتي ورقة ياسمين مجدي بعنوان (المؤسسات الثقافية الحكومية- الهيئة العامة لقصور الثقافة ومستقبلها نموذجاً) الذي اختتمته بمجموعة من التوصيات الجديرة بالانتباه، والأهم ما طرحته علي شكل سؤال في نهاية البحث »من أين يبدأ الإصلاح؟« وهذا هو جوهر الإشكالية التي تعيشها الثقافة الجماهيرية الآن؟ من أين نبدأ الإصلاح؟ هذا السؤال أعتقد أن حلمي النمنم وزير الثقافة مهموم به، وكذلك د. محمد أبوالفضل بدران رئيس هيئة قصور الثقافة، لذا أعتقد أن هذا المؤتمر فرصة ذهبية، لكي يقدم د. بدران ورقة مستخلصة من أبحاثه والرؤي المختلفة التي أثيرت حول إصلاح الثقافة الجماهيرية وغيرها من المؤسسات العاملة في الحقل الثقافي، من هذا المنظور أري أن أحمد ابراهيم رئيس لجنة الأبحاث التي قدمت للمؤتمر، كان محقاً عندما اختتم افتتاحيته لكتاب الابحاث المنشورة في هذه الصفحة بعنوان «أزمة الثقافة والحلول السحرية» بقوله: "إن حالة الترهل والتسليم بما هو كائن من دون محاولة إصلاح الوضع الثقافي، لهي الحالة الأشد خطراً والأعظم ضرراً، وإن الجلوس في مقاعد المتفرجين أمر في غاية السوء، فقد علمتنا التجارب أن نبذل كل الجهود درءاً للمخاطر وعملاً علي إيجاد نوع من الحراك الإيجابي الفاعل فهل لنا أن ندرك ما فات؟". في الصفحات التالية اخترنا أن ننشر فضلا عن الورقة المشار إليها، وورقة د. حسين حمودة عن النشر، وكذلك ورقة الأديب الراحل مأمون الحجاجي عن مسرحية أحمد أبوخنيجر، فقد كان من المقرر أن يكون مأمون بيننا في المؤتمر، لكن شاء القدر أن يدخله في غيبوبة، ليتوفي بعدها، مما أحزن كل أعضاء المؤتمر، ونسأل الله له المغفرة والرحمة ولأسرته الصبر والسلوان. أزمة الثقافة والحلول السحرية أحمد إبراهيم لاشك أن الثقافة هي أحد مكونات الفعل الحضاري والمنجز الإنساني وأكبر تجلياته، التي صاغها عبر العصور وتتابع الأجيال، ذلك لأنها القوة الناعمة القادرة علي إحداث الفارق، باعتبارها بوتقة تنصهر فيها الإبداعات، وحافظة يضع فيها الإنسان مجموعة أوراقه التي أودعها أدق السمات وأخص التفاصيل. وسوف تبقي الثقافة حائط الصد الأول، في عالم يعج بالمتغيرات وتتشابك فيه الرؤي وتختلط المعالم، وتتوه المعطيات. ولما كانت الأمانة العامة لمؤتمر أدباء مصر، في طليعة النشاطات الهامة والمؤثرة في حركة الثقافة المصرية الحديثة، بما تضمه من كوادر في شتي مناحي الأدب وفروعه، وبما تحمله في جعبتها من طموحات وأحلام مُمثلة في ذلك مختلف ربوع مصر ومحافظاتها، فقد أخذت علي عاتقها مسئولية التنوير وإلقاء الضوء علي أوجه التميز محاولة الإبقاء عليها وتأييدها والعمل علي تطويرها، والتنبيه أيضاً علي أوجه القصور مُخلصة في علاجها، والتغلب علي المشكلات التي تعوق انسيابية الحركة الثقافية. ولست أدعي أننا نملك عصا سحرية، أو أننا قادرون وحدنا علي النهوض بالفعل الثقافي، فتلك مهمة صعبة جداً، إن لم تكن مستحيلة، ولكننا حاولنا قدر طاقتنا أن نلقي حجراً في الماء الراكد، آخذين في الاعتبار أن ما لا يدرك كله لا يترك جله. وقد آثرت الأمانة العامة لمؤتمر أدباء مصر في دورتها الثلاثين، أن تبتعد عن التطرق لموضوعات فلسفية ونظرية براقة، سعياً وراء استعراض القدرات الأكاديمية فاختارت موضوعاً يرتبط ارتباطاً وثيقاً بجمهور المتقلين وجموع المبدعين، وهو "نحو مؤسسة فاعلة ثقافياً". ومن منا يختلف علي أننا في حاجة إلي إصلاح البيت من الداخل أولاً، وإلي أن نهتم بجواهر الأشياء. والحقيقة أننا نستطيع القول إن المؤسسة المنوط بها العمل الثقافي قد تكون أحياناً فارغة من المضمون حريصة علي الشكل فقط "فنسمع جعجعة ولا نري طحناً"، ونحن هنا لسنا مولعين بجلد الذات، ولكننا نقرر واقعاً يجب أن نعترف به، مع الوضع في الاعتبار ألا يجعلنا هذا الواقع أسري لليأس والإحباط وتسفيه كل ما هو إيجابي. فهناك ما يمكن استثماره أو تجويده والتأكيد عليه. واذا اتفقنا علي هذه الموضوعية في معالجة القضايا، فيمكن أن نجد نقطة انطلاق جيدة وجديدة في التعامل مع واقعنا الثقافي المعيش، وليس هناك جدال في أن الثقافة تسكن كل تفاصيل حياتنا، بدءاً من سلوك المواطن البسيط في الشارع حتي أرقي مختلف النشاطات الثقافية الكبري، وإذا حاولنا رصد كل المؤسسات علي تنوعها وكثرتها فلن نستطيع إلي ذلك سبيلا، وسوف تذهب مجهوداتنا أدراج الرياح، فليس في طاقة أحد أن يحيط بكل شيء في مؤتمر واحد، أو في كتاب واحد، ولذا فقد ركزت لجنة الأبحاث محاورها علي أكثر المؤسسات صلة بالثقافة مباشرة. فكان التعليم والإعلام في مقدمة اهتماماتنا، فهما جناحا الارتقاء بالثقافة. التعليم بما له من عظيم الأثر في بناء الشخصية وتحديد معالمها، وتكوين مفرداتها، والإعلام بما له من سطوة وسحر بالغين، ولاشك أنهما ركيزتان في تشكيل الوعي ينبغي العمل علي تغذيتهما بما يصب في مصلحة الحصول علي منتج ثقافي يليق بطموحاتنا ويحقق الغاية المبتغاة. وبعد، فهذه إطلالة مفعمة بمزيج من الأمل المدعوم بدعوة للعمل علي النهوض بالثقافة، وتحديث الوسائل من شأنها الاضطلاع بهذا العبء الثقيل الذي نتحمله جميعاً كأفراد أو كمؤسسات، ولا جدال في أن العمل مضن وتراكمي، يحتاج إلي تضافر الجهود، وإلي تناغم الأدوار وتناسبها وقدرتها علي الصمود في وجه التحديات وعلي مواكبة السرعة المذهلة، التي يخطو بها العالم نحو آفاق جديدة وفريدة في الوقت ذاته، وحقيقة لا أجد غضاضة في أن نحاول ثم نخطيء أو نصيب، فهذا ديدن الأشياء، ولكني أري العيب كل العيب في حالة اللا مبالاة أو محاولة تثبيط الهمم وادعاد أنه ليس في الإمكان أحس مما كان. إن حالة الترهل والتسليم بما هو كائن من دون محاولة إصلاح الوضع الثقافي، لهي الحالة الأشد خطراً والأعظم ضرراً، وإن الجلوس في مقاعد المتفرجين أمر في غاية السوء، فقد علمتنا التجارب أن نبذل كل الجهود درءاً للمخاطر وعملاً علي إيجاد نوع من الحراك الإيجابي، الفاعل، فهل لنا أن ندرك ما فات؟! مؤسسات النشر الحكومي: الإمكانات، المشكلات، الطموح، مقاربة أوّلية حسين حمودة 1 أسعي في هذه الورقة ولا أستطيع أن أقول: "في هذا البحث" إلي "تجميع" بعض النقاط التي تتصل بمجموعة من ظواهر النشر المتعددة، في الجهات الرسمية المسؤولة عن النشر بمصر، وما تمتلكه من إمكانات، وما تواجهه ويواجهها من معوقات، وما يمكن أن يتصل بها من طموح. وطرح هذه النقاط، هنا، ليس من قبيل "الاكتشاف"، إذ إن إمكانات النشر الحكومي، ومشاكله، والطموحات المأمولة له، كلها شائعة ومعروفة لنا جميعا.. ولكن تظل هناك حاجة إلي طرحها بشكل أقرب إلي التكامل، في حيز واحد وفي سياق واحد، بما يسمح لنا جميعا بالمشاركة في مناقشتها معا، في لقائنا هذا. هذه النقاط التي أسعي إلي تجميعها هنا، إذن، تتصل من جهة بإمكانات متاحة، ليست قليلة في الحقيقة، تمتلكها مؤسسات النشر الرسمية بمصر، وترتبط من جهة ثانية بالتساؤلات الواضحة حول "أداء" هذه المؤسسات الذي ينم عن "مشكلات" تواجهها، ويومئ إلي مفارقة واضحة بين ما تتيحه الإمكانات وما يتحقق بالفعل، كما تتعلق هذه النقاط من جهة ثالثة أخيرة بما يمكن أن يمثل اقتراحات، تحتاج إلي أن تستكمل باقتراحات أخري خلال مناقشتها، حول كيفية الإفادة علي نحو أفضل من إمكانات قائمة، متاحة، وكيفية تدارك مشكلات ماثلة، تكاد تبدو رازحة، ثم كيفية تصور آفاق أكثر رحابة يمكن أن تنفتح عليها سبل وطرائق النشر في مؤسسات النشر الرسمية بمصر 2 من الإمكانات المتاحة لمؤسسات النشر الحكومي، مثل الهيئة المصرية العامة للكتاب، والهيئة العامة لقصور الثقافة، والمجلس الأعلي للثقافة، والمركز القومي للترجمة، وبعض المؤسسات المتاخمة مثل "دار الهلال"، و"دار المعارف"، ومراكز النشر بدور الصحف مثل "الأهرام" و"أخبار اليوم" و"الجمهورية"..إلخ، وكلها يمثل النشر نشاطها الأساسي أو جزءا من نشاطها.. من الإمكانات المتاحة لهذه المؤسسات: توفّر ميزانيات لا بأس بها. وليس لدينا أرقام دقيقة وموثقة وثابتة عن هذه الميزانيات، ولكن المؤكد أنها ميزانيات ليست قليلة. امتلاك بعض هذه المؤسسات منافذ متعددة لتوزيع الكتب، خصوصا الهيئة المصرية للكتاب، ودار المعارف، وبعضها يمتلك "شبكات توزيع" واسعة، مثل "الأهرام" و"أخبار اليوم". قيام عدد من المثقفين، الذين يفترض أنهم أصحاب "رؤية" حول الثقافة وأهمية نشرها، علي كثير من هذه المؤسسات، بما يمايز بين إدارة هذه المؤسسات والإدارات التي تدير الكثير من دور النشر الخاصة، والتي تسعي إلي الربح في المقام الأول طبعا مع استثناءات بالطبع في بعض دور النشر الخاصة التي يقوم علي إدارتها مثقفون ومثقفات وليس محض "تجّار". امتلاك بعض هذه المؤسسات، للنشر الحكومي، وسائل وقنوات متنوعة للتواصل مع مصادر وجهات النشر والتوزيع خارج مصر، بما يتيح لها فرص عقد اتفاقيات للنشر والتوزيع مع هذه المصادر وتلك الجهات. ونحن نعرف أن هناك بلدانا كثيرة، في الوطن العربي وخارجه، تحتاج إلي الكتاب المصري، وسوف تشتريه إذا وصل إليها، كما نعرف أن هناك مبدعين ومبدعات كثيرين وكثيرات، من خارج مصر، يحلمون ويحلمن بالنشر فيها. كما نعرف، مثلا، أن تجربة النشر التي كانت وربما لا تزال ناجحة في لبنان، ظلت لفترات طويلة مرتهنة بالتوسع خارج لبنان: للنشر لغير اللبنانيين وللتوزيع في شتي جهات الأرض. والمهم، أن إمكانات الاتصال بما هو خارج مصر، التي تمتلكها مؤسسات النشر الحكومي، تتيح لها فرصا كبيرة للتوسع والامتداد في النشر والتوزيع 3 هذه الإمكانات، وغيرها، تواجه بمشكلات متعددة معروفة، منها: غياب، أو شبه غياب، التنسيق بين جهات النشر المؤسسي التي تقوم بنشاط واحد أو متقارب، مما يجعل كل جهة منها تبدو وكأنها تختط مسارا مستقلا خاصا بها وحدها، دون مراعاة فرص الالتقاء أو فرص الاستكمال بين المسارات المتعددة لجهات النشر الأخري. عدم بلورة رؤية استراتيجية واحدة، شاملة، يتم علي أساسها التخطيط لما يجب الاهتمام بنشره، أو بترجمته، علي المدي القصير أو البعيد. الارتباك في التعامل مع مفهومين أساسيين يتصلان بنشر الكتاب: النظر إلي الكتاب بوصفه "سلعة" والنظر إليه باعتباره "خدمة ثقافية". في الغرب تمّ إنجاز دراسات علمية كثيرة جدا، منذ خمسينيات القرن الماضي، وأسهم فيها دارسون مهمون، مثل روبير اسكاربيت، حول هذين المفهومين. وتفيد من هذه الدراسات، منذ زمن بعيد، هيئات ودور النشر المتعددة في البلدان الغربية، أيا كان حجم هذه الهيئات والدور أو مقدار ميزانيتها وأيا كانت أولوياتها. لكن عندنا لا يزال الارتباك ماثلا، واضحا، حول المسافة بين هذين المفهومين، ولا تزال الحاجة قائمة إلي إزالة اللبس بينهما، فضلا عن الحاجة إلي وضع حدود واضحة بينهما: أين تبدأ وأين تتلاقي وأين تنتهي أولويات "الخدمة الثقافية"، وأين تبدأ وأين تتلاقي وأين تنتهي متطلبات "السلعة"؟ مشكلة التوزيع التي تواجهها كل مؤسسات النشر الحكومي هذه، وهي مشكلة كبري. كثير من الكتب يعود، بعد طرحه للبيع لفترة قصيرة في بعض المدن دون مدن أخري، وغالبا دون أغلب "الأقاليم" المصرية، إلي مخازن أصبحت مكدسة. ويترتب علي هذا انحسار عائد توزيع الكتب الذي يمكن، أو يجب، أن يساهم في استكمال "الدورة" المعروفة لكل كتاب، وفي تغطية تكلفة كتب أخري بحاجة للطبع والنشر. معظم نسخ الكتب التي تنشر في كثير من دور النشر الحكومية يعود إلي المخازن، للأسف، كما يعود الابن الضال إلي أهله، رغم أنه فيما هو مفترض قد بلغ السنّ التي تجعله مؤهلا للاستقلال عنهم! "البيروقراطية" التي لا تزال، بدرجات متفاوتة، إلي هذا الحد أو ذاك، تحكم "مراحل" متعددة في عملية نشر الكتاب بمؤسسات النشر الحكومي، سواء علي مستوي اختيار الكتاب، أو علي مستوي طباعته وتصحيحه، أو علي مستوي طرحه للتوزيع، أو علي مستوي الترويج له، أو حتي علي مستوي "إعطاء" المشاركين فيه حقوقهم.. والأمثلة علي هذا كثيرة ومؤسفة. انقطاع أو شبه انقطاع التواصل الممكن مع جهات النشر العربية والعالمية، ومع المؤلفين، ومع شركات التوزيع خارج مصر، فيما يخص دائرة الكتب المترجمة. هذا التواصل لا يزال محدودا تماما، ويكاد يكون خاضعا لمبادرات فردية. ولذلك، هناك ملاحظات واضحة حول التقصير في ترجمة الأدب العربي، مثلا، إلي لغات العالم الحية، وحول الترجمات من هذه اللغات إلي اللغة العربية. دائرة الترجمة، عندنا بوجه عام، وفي الجهات المؤسسية الحكومية بوجه خاص، بحاجة جذرية إلي "تخطيط" متكامل، ثم إلي عمل منظم.. ونحن نعرف ما نعرف عن الشكاوي المتكررة حول عمليتي الترجمة من العربية وإليها، وعن "النسب" التي لا تزال محدودة جدا في هاتين العمليتين بالقياس إلي دول أخري مثل إسبانيا. وطبعا يتصل بهذا غياب التنسيق بين جهات الترجمة في مصر، في مؤسسات النشر الحكومي، وجهات أخري في بلدان عربية عديدة أصبحت تقوم بنشاط مشابه، في مجال الترجمة، مثل مراكز الترجمة في بلدان كالمغرب والإمارات والكويت..إلخ. عدم المرونة، وهو مظهر من مظاهر "البيروقراطية"، في التعامل مع الزمن، ومع الميزانيات المخصصة، المحددة بأرقام وتواريخ، ربما درءا لمشكلة "المال السائب"، وإن كان هذا المظهر يؤدي إلي إهدار الزمن، بما يعني إهدارا لمال سائب جديد، وبما يشير إلي معوقات متعددة تواجهها مؤسسات النشر الحكومي. في تجربة خضتها مسؤولا عن النشر بالمجلس الأعلي للثقافة، في فترة من الفترات، كانت هناك بعض الكتب بحاجة إلي استكمالات بسيطة، نهائية، بعد أن وصلت إلي المرحلة الأخيرة من مراحل الطباعة. لكنها كانت "تتوقف" لأن "السنة المالية قد انتهت". وهكذا كنا نجلس، مكتوفي الأيدي، في انتظار حلول تاريخ ما، في شهر ما، فيما كانت الكتب المعطّلة تقبع في مكانها المظلم الأخير قبل خروجها "إلي النور" كما يقال، مما يعني حدوث خسارات أخري. وطبعا هناك مشكلات أخري غير هذه.. 3 يصعب التفكير في الآفاق التي يمكن أن تطل عليها مؤسسات النشر الحكومي في مصر دون النظر، أو إعادة النظر، في الإمكانات التي يمكن الإفادة بها، والمعوقات التي يجب تجاوزها. وفيما بعد هذا النظر، أو إعادة النظر، يجب أن تكون هناك خطوات علي سبيل بلورة "رؤية" ما، تصل بين حاضر الكتاب ومستقبله، وتنفتح علي وسائل غير تقليدية للنشر، وللتوزيع، وتوظّف وسائط الاتصال الحديثة، ووسائل التكنولوجيا الحديثة بوجه عام، باعتبارها أدوات ممكنة للنشر علي نطاق واسع يجاوز حدود الكتاب المطبوع، فضلا عن أن أنها أصبحت تفتح مجالات جديدة لطباعة الكتاب التقليدي. علي هذا الطريق الممكن، بعد تحفيز الإمكانات والإفادة القصوي منها، وتجنب المعوقات أو تجاوزها، تحتاج مؤسسات النشر الحكومي إلي إعادة تأمل، ثم إلي إعادة صياغة، دورها الذي يجب أن تقوم به؛ في نشر الثقافة والإبداع، وفي التواصل مع الثقافات العربية والإنسانية، وفي السعي لحضور أكبر للإبداع المصري خارج الحدود المصرية، وفي توصيل الكتاب لمن يحتاجه ولا يستطيع الوصول إليه. وعلي ذلك، يجب السعي للمزيد من التنسيق بين جهات النشر الحكومي، والبحث عن سبل للتوزيع داخل مصر، في كل أقاليمها، وخارج حدود مصر، والتخلص من المعوقات البيروقراطية التي تقيد صناعة الكتاب.. إلخ. ثم يجب البحث عن سبل إبداعية لنشر الكتاب وتوزيعه وترجمته والإفادة من تأثيراته المتنوعة.
كم منّا أصبح يعتمد علي الكتاب الإليكتروني الذي يحصل عليه بسهولة ودون مقابل؟ لا أظن عددنا قليلا. ثم ما عدد الذين أصبحوا يحصلون علي المعرفة بوسائل أخري غير الكتاب؟ حتي وإن كان العدد قليلا فهو لا يستهان به علي أية حال. قائمة الأسئلة يمكن أن تطول، والإجابات عنها يمكن أن تتعدد، حول العوامل والملابسات والإمكانات التي صاحبت العالم الحديث، والتي أصبحت أكثر من مجرد "تحديات" للكتاب المطبوع، إذ غدت في الحقيقة أشبه ب"تهديدات" حقيقية له. لذا، فمن المجدي، وربما من الضروري، التفكير فيما نملك من إمكانات تجعل الكتاب المطبوع أكثر قدرة علي المقاومة، ثم لنا بعد ذلك أن نفكر في مزيد من الإمكانات الحديثة التي يحتاجها الكتاب، مطبوعا وغير مطبوع، كي يؤدي رسالته علي الوجه الأكمل، ويقوم بدوره المفترض أن يقوم به. يعرف القائمون علي مؤسسات النشر الحكومي، أو أغلبهم، هذه الرسالة، وهذا الدور. بقي لهم، ولنا، أن نفكر فيما نملك، وأن نجاوز ما يعوقنا، وأن نتأمل ما نحلم به، وأن نخطط لبلوغه، ولعل مناقشتنا، في هذا السياق، تمثل خطوة أو خطوات علي هذا الطريق. آخر ماكتبه الأديب مأمون الحجاجي:أبو خنيجر يحتفظ لنفسه بمفاتيح النص إن التصدي لكتابة النص المسرحي بمثابة السير علي الحبل كما يفعل لاعبو السيرك، ليس لصعوبة الكتابة في هذا النوع من الإبداع فحسب، ولكن لكون الكاتب المسرحي غالبا ما يكون شريكا لآخرين داخل العمل المسرحي من أبطال وموسيقي وإضاءة وإلي غير ذلك من مفردات العمل المسرحي، إضافة للشركاء من خارج حدود النص المسرحي من مخرجين وممثلين وإدارة عند إنتاج العمل وتقديمه علي خشبة المسرح، فإن جاز اعتبار النص المسرحي هيكلا عظميا، يكون الحلم لمن يشخصه ويخرجه للنور بحياة كاملة وتكوين جمال أقرب للحقيقة أو الواقع لمرحلة ما بعد أوراق الكتابة، ويمكننا معرفة علاقة الكاتب بالمسرح من طريقته في كتابة النص المسرحي، فهو إن اهتم بوصف الإضاءة وشكل الديكور، وأمعن في استخدام الموسيقي كمفردة أساسية في صنع المشهد المسرحي، وتكرر بشكل لافت ما يمكن أن يطلق عليه التنويه الكتابي من المؤلف لشكل الحوار وطريقته وطريقة دخول الممثلين، كان لدينا دليل علي ممارسة المؤلف للإخراج المسرحي أو لخبراته السابقة في التعامل مع الفعل المسرحي بشكل أو بآخر، والعكس في الغالب صحيح في معظم الأحوال، وهذا بالطبع يمنع من حدوث شواذ للقاعدة تخلقها الموهبة والثقافة، لكن الأمر بالنسبة للكاتب أحمد أبوخنيجر يبدو مختلفا، فلا يمكننا تطبيق هذه القاعدة عليه، فهو لم يفعل ما سبق الإشارة إليه، ومع ذلك لا نستطيع فرض النتيجة علي مقدماته، لأنه وببساطة شديدة، يفعل ذلك ومن داخله يود ألا يكون شبيها لأحد، أو يفعل ما اعتاده غيره، لم يذكر شكلا للموسيقي والنص معني بها وقائم عليها. كما أن أبوخنيجر - نادرا - ما يقوم بفعل التنويه أثناء الكتابة لحالة الحوار، من غضب وسخط لفرح وغبطة، لكنه يستعيض عن ذلك بالحوار الذي يشي بمن يتكلم دون أن يضطر لوصف ما عبر الحوار عنه أو شرح ما تولت اللغة الحوارية بيانه والتأكيد عليه، ولا يلجأ للتنويه إلا لضرورة أوجدتها الحالة المسرحية أو الموقف الدرامي. ولا تستطيع مقاومة الشعور بأن (أبوخنيجر) يحتفظ لنفسه بمفاتيح النص، أو أنه يتعمد ترك النص مفتوحا علي تأويلات مسرحية متعددة أو رؤي جمالية متباينة. وربما لسبب قد يكون منطقيا، وهو أن يقوم (أبوخنيجر) بإخراج نصه بنفسه، وهنا يمكن اعتبار (أبوخنيجر) مخرجا، يترك لأبطال العرض الحرية الكاملة في الحركة، دون التقيد بمفاهيم مسبقة عن الاقتراب يشي بالحميمية والبعد يعني التنصل وجهة اليمين هي للخير ونقيضها للشر، وكان مبرر أحد المخرجين عن عرضه المسرحي الذي ترك فيه هذا المخرج لممثليه حرية الحركة دون قيود، حتي وصل الأمر أن وصل الحال بالعرض أن صار سوقا كبيرا دون ضابط أو رابط، فقال المخرج أنه تعمد ذلك ليصل مشاهد العرض للشعور بالارتجال الذي تنتقده أحداث النص، وأن الحرية قد تصل للفوضي إن لم تضبط إيقاعها قوة رشيدة عاقلة فقال: الحرية الكاملة تكرس لثقافة الضجيج وتعطي مساحة للغوغاء، كما أن النظام البوليسي قد يحول - بنظامه الجامد - الناس لمجرد آلات وتروس لآلة تعمل وفق قوانين صارمة دون مشاعر وهذا ما قدمه الجزء الأخير من العرض، وهنا يكون المؤلف ربما اقترب من دور الناقد، ويقترب أكثر من دور مخرج العرض المسرحي للنص. طريق كتابة النص المسرحي عند (أبوخنيجر) لا تقدم مساعدة للاكتشاف، بل تترك قاريء النص وربما المتفرج في العرض المسرحي بعد ذلك يتحسس طريقه الوعر في محنة التأويل، والتأويل يختلف عن الفهم، لأن الفهم الصحيح مجرد فرض قد يصدق أو يكذب، بينما التأويل يظل دوما وفي غالبية المواقف مجرد احتمال خلقته دوال التخمين التي قد تصدق وقد لا، وتكون الكارثة فادحة. أتبين أن التأويل لم يكن سوي بالونة ضخمة ملئت بالهواء، ولم تكن بحاجة لأي جهد كان، سوي الدبوس الذي يفرغ منها الهواء. وقد حاول (غاديمير) أن يفرق بين المنهج التأويلي والفهم ويميز بين نوعين من الفهم: 1 - الفهم الجوهري: وهو فهم محتوي الحقيقة التي تتكشف بقراءة النص. 2 - الفهم القصدي: وهو فهم مقاصد المؤلف وأهدافه. (فالفهم القصدي هو وسيلة استراتيجية يستعان بها في اللحظة التي يحقق فيها الفهم الجوهري في إدراك حقيقة ما يؤطره السؤال التالي: ماذا كان يقصده هذا الفرد بالذات؟). مساهمة مفهوم التأويل في النقد المسرحي المعاصر/ د.ثائر بهاء كاظم. مساهمة نقد المسرح: مقاربة النص ومقاربة العرض "خليفة بباهواري". ضمن فعاليات مهرجان صيفي ثقافي في موسمه التاسع عقدت ورشة عمل حول "تحليل النص المسرحي والمسرح العالمي المعاصر والنقد الحديث"، حاضر فيها د.أحمد بدوي. تكمن محاور الورشة في تحليل مسرحي يقوم علي عدة فروع منها: كتاب فن الشعر لأرسطو عن المسرح الإغريقي، والمسرح في القرن العشرين، إضافة إلي تاريخ الدراما، ويشتمل علي بدايات الدراما العالمية وأنواعها ومدارسها الحديثة وأنواع الصراع الدرامي والأسباب التي أدت إلي وجود تباين عبر التاريخ في الشكل الدرامي، "الوطن"، حضرت الورشة، وهذه التفاصيل: بداية تحدث د.أحمد بدوي قائلا: "بدأت بتاريخ المسرح لأنني رأيت أن الجمهور أغلبه غير متخصص فتحدثنا عن بدايات المسرح والأساسيات وكيف بدأت الدراما، إضافة إلي بعض المصطلحات المسرحية، وعناصر المسرح وتعريف أرسطو للتراجيديا والكوميديا والمحاكاة". وتابع: "المسرح ليس مكانا للتسلية فقط، بل يحتاج إلي أمور كثيرة، أولها: أن يكون الكاتب علي جانب من الثقافة، فالكاتب المسرحي يجب أن يكون ملما بالواقع الاجتماعي والسياسي ومؤمن برسالة المسرح، وبذل كل ما في وسعه لكتابة نص مسرحي يحمل رسالة هادفة لمحاولة إصلاح المجتمع". وأضاف: "النقد والتحليل المسرحي ليس بالأمر السهل بل يتوقف علي الإيمان بالمدارس المسرحية، فيمكن للعمل الدرامي أن يحتوي علي تحليل نفسي أو اجتماعي، فهناك العديد من المتطلبات التي يجب أن تتوفر في المحلل حتي يمكنه أن ينقد في المسرح، فالنقد المسرحي لا يقتصر علي المشاهدة أو علي الانطباع الشخصي كما هو حاصل في هذه الفترة عبر المجلات والصحف من غير التطرق إلي جوهر الموضوع": لكن وبرغم الخلفية الواسعة (لأبوخنيجر)، ظلت الكتابة الشعرية تفتقد التجربة الجادة للممارسة الشعرية التي ننتظرها ونتوقعها، وليس من باب المقارنة، نجد الشاعر الفذ (نجيب سرور) في نصه (منين أجيب ناس) يقول: البحر بيضحك ليه وأنا نازلة أدلع أملا القلل البحر غضبان ما بيضحكش أصل الحكاية مضحكش يا قلة الذل أنا ناوي ما أشرب ولو في القلة عسل لم يكن لأحد أن يطلب من (أبوخنيجر) أن يصل لكتابة (نجيب سرور) الشعرية، بل يصل حلمنا بتجاوز كتابة (أبوخنيجر) له. لا يمكن غض الطرف عن الانتقال السريع بالشخصيات عبر الزمن، فهي تكبر وتتنامي عبر النص بشكل خرافي، من الصغر للكبر، دون إتاحة الفرصة الكاملة للانحياز معها أو ضدها عبر أحداث ثانوية تخلق من رحمها المبرر والمنطق لما تقدم عليه وتفعله أو تتجنبه وتنقيه، مثال وصول الخولي للعمل لدي الباشا وقصة جبل الملح، وربما كنا بحاجة درامية لتفسير أن لأبي الطيب ينجب (ياسين)، والشرير ينجب (الخولي)، ونبحث عن سبب يفسر فجائية التساؤل لدي (ياسين) عن ماهيته وكينوتته، ربما جاء التساؤل متأخرا بشكل واضح، وبدا وكأنه (هاملت) في المسرحية الشهيرة بذات الاسم: (أكون أو لا أكون تلك هي المشكلة) لكن يضع (أبوخنيجر) القاريء والمشاهد والمخرج أيضا عند تصديه لاخراج هذا النص، صراع الداخل والخارج بينه وبين نفسه أو بالأحري بينه وبين العالم، ومنذ البداية لم يمد (أبوخنيجر) يده لنا جميعا، بل ترك الباب مواربا لكل التأويلات، لم نشعر بعمدية تأخذنا لتأويل بعينه أو هدف مقصود لذاته، لم يقدم لنا شخصيات النص أو تعريفا مقتضبا لكل شخصية، رغم أن ذلك صار عرفا سائدا، بعض الشخصيات لم تلعب دورا محوريا مثل (خليل وسيد) كان يمكن الاستعاضة عنهم برجل (1) أو رجل (2) أو رجل (3) وبخاصة أن (سيد) لم يتحدث إلا مرتين. مرت علي النص لحظات شجن وصراع وإحباط، لم يتم استثمارها وتفعيلها لصالح النص وتناميه، لكن خوف الكاتب علي صيده جعله يقنع بما غنم الكاتب المسرحي المحترف، هو زراع الورد الذي يضعه في الباقات المناسبة له، من يعرف قيمته وعطره، لكن المسرحي وإن تعاظمت بضاعته، يقنع ويرضي خوفا علي ما أوتي، أري أن لدي (أبوخنيجر) من الحكايا والأساطير ما يجعله زارعا للورد العجيب وللزهور، ليحمل لنا الأمل في كتابة زنيقة مدهشة، بدلا من الكتابة النافقة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع. المسرحية الثانية: (أبوزيد لما غرب) الكتابة التاريخية، أو بالأحري المستمدة من وقائع استقرت في ضمير ووجدان الناس ووجدانهم، ثم يتم استدعاؤه لربطها بما هو آني؛ لإعادتها للحياة وبعثها لتقاربها وتماسها مع حواضر تستلهمها، يحتم علينا النظر في ضرورات الاستدعاء والحضور بالتالي التناول والتعاطي، مع الاحتفاظ بالأسباب والنتائج والأحداث خصوصا ما تعارف وتأكد وثبت منها دون مساس. وعدم قبول تغييرها أو حذفها أو نسبها لغير أصحابها، وهنا تبدو السيرة الهلالية حاضرة وستظل حاضرة ومعينا للمبدعين، ولتحميلها حوادث درامية وزخما دلاليا ودراميا، لتفردها ولتظل حاملة أوجه وتخيلات متعددة وجديرة بالمتابعة لما تقدمه من نتائج درامية لمعطيات تستحق وتحتمل. إن الدراما المسرحية التي استلهمت من السيرة أكبر من أن تحصي وأعظم من أن تعد، يقدمها (أبوخنيجر) في مسرحيته ولم تزل الأسئلة حاضرة، بل وربما بأكثر شراسة وأكثر موضوعية، لقد ظل (أبوخنيجر) يقدم حوارا يتخذ من شكل المربعات التي اشتهرت بها السيرة الهلالية كشكل للحوار، ولكن دون ضبطها فنجح الحوار وأخفقت المربعات. يقول: (رجل4: سيرة الأبطال تنسي الهموم، وتخفف الهوان اللي عايشينه). ماذا لو كانت (تخفف المرار) بدلا من الهوان لكان ذلك مقبولا. ويقول: (عبدالرشيد: حكون راجلها في الميدان إزاي وأنا ما قدر أحمي دلالها). ماذا لو كنت أحمي شرفها وعرضها مثلا. ثم الحوار العاطفي الشديد بين عبدالرشيد وشاة الريم صفحة 53. في وجود فاضل وسعيد معهما، وقد شاركا في الحوار معهما بعد ذلك، كما أن فاضل يقول: كيف للبلا نتصدي. لو كانت نواجه أو نمنع بديلا من نتصدي، وأيضا رجل1 حين يقول: (غني عن لقمة العيش اللي مغلبانا، عن أحلامنا البسيطة اللي كاتمينها) هذه لغة أكبر من يقولها رجل عادي، ربما كانت ذائقتي انحازت الي مسرحية (ياسين) علي حساب مسرحية (أبوزيد لما غرب) ربما لأنني رأيت نفس المثالب مرة أخري لتتابع القراءة للنصين دون وقت كاف للخروج من فخهما، ويمكنني أن أقرر وأنا أتحدث بقلب صاف وروح مجردة ومتجردة، إنني أشعر بربحي لكاتب مسرحي. خالص ومخلص لهذا الفن العبقري الذي يميز بين جاديه ومدعيه. شكرا لهذه المتعة التي وهبتها لي وأتاحتها لي قراءة النصين الجادين للكاتب الروائي والسارد والمسرحي أحمد أبوخنيجر. قراءة في كتاب (سكة اللي يروح) لأحمد أبوخنيجر