في الصباح تجمعوا حول التليفون يطلبون من باريس أن توضح الموقف، أن تقول لهم شيئا مختلفا، وفي الصباح كانت باريس تردد معني البرقية بألفاظ مختلفة! وراحت دائرة الأهل والأصدقاء التي تلتف حول تليفون الساعة العاشرة تنتظر، وتنمو، وتتغير، وتتلهف، وتحاول عبثا أن تجد في مكالمات باريس شيئا آخر غير ما تصر علي قوله! وراح كل واحد في الدائرة يحاول أن ينقذ (وحيد النقاش) بطريقته الخاصة، راح كل واحد في الدائرة يسترجع قصة أو أكثر لمريض قال عنه الطبيب مثل هذه الكلمات التي يطلقها الأطباء في بساطة كما يطلقون تنهيدة، ثم خيب المريض ظنون أطبائه، وتحققت له معجزة الشفاء، ولأول مرة يستريح مثل هذا العدد من المثقفين المصريين إلي الحديث عن المعجزات، وإلي أن كلمة العلم في أمور الجسم البشري وفي لغز الحياة والموت، لم تعد بعد قاطعة أو غير قابلة للخطأ!! تركز الأمل في ثغرة واحدة صغيرة اسمها الخطأ.. خطأ الحساب أو التقدير تركز في المجهول، في أن العلم لم يحط بعد بكل أسرار الجسم البشري ولم يحل كل ألغازه!! وسافرت شقيقة وحيد إلي باريس لتكون إلي جواره، وهو يواجه محنة المرض القاسي، وأصبحت هي التي تتكلم من هناك.. ولكنها أيضا كانت تردد كلمات البرقية.. انضمت إلي باريس، وأصبحت تتكلم لغة الأطباء هناك!! الأطباء الذين يقولون أن المسألة مسألة وقت.. ولكن دائرة الأهل والاصدقاء راحوا يركزون أملهم من جديد في الوقت نفسه.. في مرور الوقت!! ما معني أن يمر كل هذا الوقت دون أن ينفذ المقدور!! ها هم الأطباء يخطئون خطأ صغيرا في حساب الوقت فلماذا لا يخطئون خطأهم الاكبر وينجو وحيد؟! وأفاق وحيد من غيبوبته.. بدأ يتكلم ويداعب مجموعة الأطباء العالميين الذين أعادوا فحصه وتقدير حالته قائلا: هل أصبحت حالتي في حاجة إلي هيئة الأمم؟ ولكن هيئة الأمم التي تعني بصحة الأفراد وسلامتهم، كانت تؤكد من جديد أن صحة وحيد في خطر حقيقي ولم تأبه دائرة الأهل والأصدقاء؟.. انحصرت آمالهم في أمل صغير متواضع.. أن يعود وحيد إلي وطنه.. مجرد أن يعود.. أن يروه.. أن يسمعوه.. أن يقولوا له بضع كلمات! ففي عيون الجالسين حول التليفون كانت ثمة كلمات حبيسة، ودموع حبيسة، وخلف الكلمات والدموع تطل صورة وحيد الغائب هناك في باريس يصارع وحده المرض والموت!! كل واحد هنا له مع وحيد قصة فريدة.. اختلفت البدايات، ولكن اللحظة التي تجمعهم الآن - وبعضهم يري البعض الآخر لأول مرة - هذه اللحظة تزيل الحجب بينهم، وتوحد المعني والشعور الذي ينبض في قلوبهم وفي عيونهم! أصبح السؤال الذي يهربون به من كل الأسئلة: متي يعود؟ وأصبحت الاجابة التي تحدد أحيانا اليوم والساعة تحاول أن تغطي علي مشاعر كثيرة، أخطرها - اذا لم أكن مخطئا - شعور دفين بالذنب! وكان لهذا الشعور تاريخ قديم لدي عدد كبير من هؤلاء الاصدقاء! فمنذ أكثر من أربعة أعوام ودع وحيد أصدقاءه وسافر إلي باريس ليستكمل دراسته بإعداد رسالة لنيل درجة الدكتوراه في النقد المسرحي. وقبل ذلك بخمسة عشر عاما كان وحيد قد ودع أصدقاءه في قرية منية سمنود ليستكمل دراسته في مدارس القاهرة ثم في الجامعة! وهكذا كانت حياته سفرا دائما من أجل أن يستكمل أدوات المعرفة وقبل أن يتصدي لأداء المهمة التي يريد أن يهبها كل حياته! وحين التقينا به، وتصادفنا معه في أوائل الخمسينيات.. كنا مثله مجموعة من التلاميذ القادمين من الأرياف، والحالمين بكل ما يستطيع أبناء العشرين أن يحلموا به!! ومعا كنا نفتش في المذاهب والنظم والفلسفات عن حلول لمشكلاتنا كأفراد وجماعات! ولكنه لم يكن مثلنا يعتقد في بساطة أن الحلول تكمن هناك علي قيد خطوات أو ذراع في تطبيق هذا النظام أو ذاك!! كان علي ولعه الشديد بالقراءة يملك حسا نافذا بما في الحياة من تعقيد يند أحيانا عن كل محاولة بشرية لتنظيمه وتنظيره وعلاجه وكأن شعوره بعناصر العبث والتفاهة والقسوة في الحياة قويا إلي أبعد الحدود! وكان حديثه عنها حديث العارف بمواطنها في الطبيعة والمجتمع والفرد علي السواء، وكان من الممكن أن يسلمه ذلك الشعور القوي المبكر بهذا كله إلي اللامبالاة، إلي السقوط في هواة الفردية البغيضة، إلي أن تصبح قضيته الأولي والأخيرة هي انقاذ ذاته وحياته في عالم لا أمان فيه ولا ضمان لشيء أو أحد!! ولكن الغريب أن هذا الشعور القوي المبكر أسلمه في فترة مبكرة إلي النقيض تماما.. إلي الشعور القوي بالمسئولية والجدية! ولا أظن أن هذا المزاج كان فقط ثمرة لتأثره بالثقافة الوجودية وقد كان أقرب أبناء جيله إليها.. ولكنه كان ثمرة لمجموعة عوامل في تربيته، نزعت من شعوره بالجدية والمسئولية كل احساس بالمرارة يخالج كل من يأخذ الحياة بجد كامل...! ووسمت ذلك الشعور القوي بنوع من الرضا الذي قد تجده لدي المتصوفين والمتسامحين، والناظرين في فهم وعطف عميقين إلي ضعف الناس وقسوتهم علي حد سواء! وفي الوقت الذي كان عدد كبير من أبناء جيلنا يطلبون النجدة من إله جديد اسمه الاشتراكية، ويرون في اعادة تنظيم المجتمع علي أساس اشتراكي حلا لمشكلات الفرد والجماعة، كان هو في هذه الفترة المبكرة من حياته وحياتنا يري أن مأساة الحياة الإنسانية أعمق جذورا من بركات الآلهة القدامي والمحدثين ولكنه لم يكن ليرفض أي منحة حقيقية من أي إله قديم أو جديد، أو حتي من البشر!! فقط كان يرفض الاعتقاد الساذج بأن الفردوس الأرضي يقع هناك علي بعد أعوام أو كيلو مترات! كان يثق بأنه لابد أن يتحقق للإنسان نوع من الفردوس، لكننا لن نصل إليه إلا إذا كانت ثقتنا في الفرد لا تقل عن ثقتنا في الجماعة، وإلا إذا كانت عيوننا مفتوحة، وعقولنا مدركة لما في الطريق من أخطار ومزالق هي جزء من حياتنا البالغة التعقيد! وكاد شعاره أن يكون: علينا أن نواجه الحياة بقدر من الفكاهة يعيننا علي احتمال ما في الواقع من عبث وتفاهة، وبقدر من الجدية يعيننا علي صنع الحياة التي نحب، والتي تجعلنا نحترم أنفسنا" وحين بدأنا نخطو خطواتنا الأولي في طريق الحياة العملية، حين بدأنا نواجه ذلك التعقيد البالغ بين الوسائل والغايات، بين مهمة المحافظة علي الوجود، والمحافظة علي معني الوجود، حين بدأ الكثيرون منا يتحدثون في إسهاب عن ضرورة تأمين الوجود أولا لأن في ضياع هذا الوجود ضياعا لمعناه ولمعني كل شيء، كان هو وحيد النقاش يتحدث بسلوكه عن وحدة السلوك، عن أن الوجود لا ينفصل عن معناه، عن أن المشكلة ليست هي أن توجد أولا ثم تبدأ في الدفاع عن معني وجودك بل هي كيف توجد، ولو أدي الأمر إلي التضحية بالوجود ذاته! حين بدأ الكثيرون يتحدثون في فصاحة عن أنه في مثل ظروف مجتمعاتنا لا تستطيع أن تنقذ بعض الصواب إلا من خلال بعض الخطأ، وأن الكلام غير العمل، كان هو وحيد النقاش بعمله الصابر والمثابر لا ينقذ الا ما يراه صوابا، ولا يمد يده إلا لما هو خير وجميل وطيب. وكانت تلك مفارقة مريرة، أن يتحول عدد من أصحاب النظريات الشاملة والكاملة إلي الحديث عن أنصاف الحلول، وما في الواقع من تعقيد، وأن يصر أول من تحدث عن هذا التعقيد، علي ما يشبه مواقف القديسين والأبطال القدامي! وحين أصر وحيد علي المضي في طريقه غير المأهول.. وعلي أن يدخل من الباب الضيق، أصبحنا نتحدث عنه أكثر مما نتحدث معه! وكان حديثنا يبدأ بالخوف عليه، ولكنه يشي بالخوف علي نفوسنا! "هذا المجنون سوف يفقد كل شيء إذا ظل مصرا علي أن ينقذ كل شيء" وحين سافر إلي باريس، لم يكن يملك إلا ارادة محارب، وجسد محارب مثخن بالجراح، ولم يسافر وحده، بل حمل أحلامه، وما تبقي من أحلامنا الطيبة، حمل بقايا آمالنا التي تخلينا عنها في زحمة صراع الحياة اليومية والعملية! وبدا وكأن هناك رهانا غير معلن بيننا وبينه! وأنه مصر علي كسب الرهان!! ولأنه كان يحارب بنفس الأسلوب فقد كان من الضروري أن هناك كما كان يعاني هنا من خصوم هذا الأسلوب، وهم كثيرون في كل الدنيا، وفي كل الأنظمة! وهناك كان يدفع الثمن، ولكنه كان يدفعه هذه المرة من حياته ،أداة حياته، من جسده المثخن بالجراح! ولكنه وحيد النقاش الذي لم يعترف يوماً بأولا وثانيا وثالثا لم يتردد في دفع أي ثمن، ومهما يكن غاليا! وكانت كتاباته من هناك كما كانت كتاباته هنا تؤكد أن وحيدا يتغير موقفه البطولي والإنساني، جسده وحده هو الذي كان ... يوما بعد يوم، وساعة بعد ساعة، دون أن يتوقف أو يوقفه ليقول له إلي أين؟ وما الذي تفعله بنفسك أو تفعله بك الحياة!! وكاد أن يحقق المعجزة، وأن يكسب الرهان، فلم يبق سوي شهور قليلة يعود بعدها وحيد وقد انجز وعده! ولكن الحياة التي كان هو أول من اماط اللثام لجيلنا عما فيها من عناصر القسوة والعبث والتفاهة لم تغفر له ما فعل! كانت له بالمرصاد، وكانت بالمرصاد لذلك الأمل الصغير .... تجمعت حوله دائرة الأهل والأصدقاء حول التليفون في حجرة بمنزل رجاء النقاش! وفي اليوم الذي كنا ننتظر فيه عودته.. عادت شقيقته وحدها فقد عاوده الاغماء من جديد، وقبل أن يحمل شقيقه رجاء حقيبته ويمضي ليكون بجواره، حمل إلينا التلغراف نبأ وفاته! ووضع هذا التلغراف بكلماته القليلة حدا لانتظار الاصدقاء ولإيمانهم بالمعجزات، وللقصص التي كانوا يصرون علي حكايتها. ليلة عن جهل الاطباء وقدرات الجسم البشري اللامحدودة، ولغز الحياة والموت! ولكنه عجز عن أن يضع حدا لشعورنا الدفين بالذنب! فالتلغراف لم ينع وحيد النقاش وحده، ولم ينع أحلامه الكبيرة وحدها، ولم ينع أسلوبا فريدا في الحياة وفي معني الكرامة والبطولة والشرف والإنسانية، ولكنه نعي لنا جميعا بقايا أحلامنا التي تركت بين يديه حين امتدت أيدينا لفتات الحياة!! من الذي خسر الرهان ومن الذي كسب؟ ومن الذي ملك القدرة علي الاجابة علي هذا السؤال ولا أقول حق الاجابة؟! ومضي أصدقاء وحيد إلي استقباله، ولم يشهد جامع عمر مكرم الذي تعود أن يشهد نهايات الكبار جميعا في الحياة وفي الموت أن يشهد مثل هذا الموكب العاطفي البليغ! ولم يكونوا جميعا يعرفونه، ولكن عبر تجربته العظيمة الذي نظنه بعض أسرارنا كان يملأ الآفاق والصدور والعيون الظمأي للعبير الطيب! وتحدر وحيد دمعة في عين مصر، شهيدا في وقت تحتاج فيه بلادنا إلي آلاف الشهداء لكي تعيش! وفي قرية منية سمنود، كانت دورة الشهاب الساطع تكتمل، أو تحقق كل الكمال الذي كانت ترجوه! وفي قرية منية سمنود وقف عدد من أهله وأصدقائه يودعون أحلام شبابهم في مكان من أرض مصر التي وهبته الحياة فوهبها أعظم ما في الحياة. فيا أصدقاء وحيد، وقبل أن تجف الدموع، إن أحلامه وأحلامنا تحوم في الآفاق تبحث عن مأوي، وإذا لم نفتح لها قلوبنا وعقولنا فلن يكون وحيد وحده هو الذي قضي، ولن ينقضي أبدا شعورنا بالذنب وليرحمنا الله!! القاهرة