تميمة جدَّتي مازالت معلَّقةً علي الجدار ، وأنا صبي حاولت اللعب فيها ، رفض والدي بشدة بل ونهرني ، أحياناً أراه يقف أمامها ناظراَ إليها بألم ، ذات مرة لمحتُه يمسح دموع عينيه بطرف جلبابه ، هزَّتني هذه الدموع بالرغم من سنوات عمري الغضَّة ، هي المرة الأولي التي أري فيها دموع والدي ، أراني بعد مرور كل هذه السنوات الطويلة أنهرُ أبنائي الصغار كلمَّا حاولوا اللعب في التميمة ، دموع والدي حاضرة في ذاكرتي وقلبي ، تميمة جدَّتي ما زالت تطلُّ علينا كل صباح ..... أحكي لأولادي عن ليالي الشتاء الباردة ولمّْتنا أمام موقد النار ، من بعد العصر تجهِّز أمي حطب السنط ، تقطعه إرباً إرباً وتضعه بجوار الموقد المصنوع من الطين ، تحديداً في صالة البيت الواسعة يشعل أبي النار بعد أن نكون انتهينا من تناول وجبة العشا ، والتي غالبا ماتكون فتَّة لبن بالسكر ، ولا بد أن يكون اللبن ساخناً ، إلا يوم الخبيز ننتظر الفول الملذوذ في الفرن نأكله ساخنا مع الخبز الطازج ، بعد أن تُطفأ النار ، يصبح الموقد مملوءا بالجمرات ، يغمس أبي فيها كنكة الشاي ، الله علي طعم هذا الشاي الذي أشعر بحلاوته في فمي حتي اليوم ، يغلي علي مهل ، يوزع أبي علينا أكواب الشاي الصغيرة ، بعض الأوقات يأتي العم أمين يشاركنا الجلسة ، يسرد علينا حكايات جدنا الكبير الذي جاء ليقيم مملكته هنا بين الجبال ، وعن أولاده من بعده وحياتهم القاسية التي عاشوها ، علاقتهم بالبلاد والعباد ، أراه مُغرماً بهذه الحكايات التي تسكن ذاكرته ، أشعر أنه يعتز بسيرة أجداده ، كلما تذكر اسم أحدهم يقول : ربنا يرحمه ويبشبش الطوبة اللي تحت راسه ، ثم يرد أبي اللهم آمين ، يتوغل الليل ، فيفرد السكون قلوعه ليشمل الشوارع والبيوت ، حتي الكلاب يتوقف نُباحها ، من حين لآخر أسمع سخيل الثعالب ، التي تنام نهارها في أغوارها شرق البلد وتصحو ليلها باحثة عن طعامها والذي كثيرا ما يكون دجاجات أمي أو إحدي جاراتها. جدتي التي رحلت دون أن أراها يُحكي عنها أنها كانت امرأة شجاعة ، في موسم البلح تنام تحت النخيل بمفردها ، لا يؤنس وحدتها سوي كلبها الأسود الذي يظل الليل منتبهاً ، حتي الذئاب تخشاه ، لاتبرح مكانها إلا إذا سمعت صراخا وعويلا ، تأتي لتشارك في العزاء ، إذا كان المُتوفي امرأة تقوم بتغسيلها وتكفينها، ثم تذهب إلي سريرها المصنوع من ليف النخيل الذي يتوسط بؤرة النخيل السكوتي ، في موسم قطع سباطات البلح يأتي سيفين القلام ، يتسلق النخيل واحدة بعد الأخري، الوحيد الذي يستطيع تسلُّق هذا النخيل العالي ، يمرر الحبل خلف ظهره ويلفه حول ساق النخلة ويصعد إلي أعلي ، كلما صعد خطوتين يحرك الحبل إلي أعلي بمهارة وحرفية ، يقطع كل سباطة علي حدة ويرميها إلي أسفل ، نجمع البلح المتناثر من شدة ارتطام السباطة بالأرض ، نجمعه في مقاطف صغيرة ثم نضعه في الجوال الذي تجلس جدتي بجواره بعد أن ينتهي سيفين القلام من عملية القطع ، تعطيه جدتي كمية من البلح في مقطافه المصنوع من الخوص ، تتولي جدتي عملية توزيع البلح علي أعمامي والأقارب ولا تنسي الجيران والغلابة ، بقية البلح تبيعه للحاج عطية تاجر البلح ، الذي يشحنه في المركب إلي بلاد بحري . جدتي تحمل قلب أسد ، لا تخشي لوْمة لائم في قول الحق ، الجميع يحترم رأيها ويصغي إلي حديثها ، يُحكي أنَّها لم تقعد لمرض طوال حياتها ، المرض الوحيد الذي أصابها هو مرض الموت ، حمَّي شديدة سكنت جسدها وهي في السبعين من عمرها ، مر يومان والحُمَّي لا تفارق الجسد ، ظلت تُهزي ثم سكنت تماماً ، عرف والدي وأعمامي أنَّها النهاية ، رحلت جدتي وأخذت كل شيء جميل معها ، حتي النخيل السكُّوتي بدأ يتلاشي ، بدأت النخلات تتهاوي واحدة بعد الأخري ، بعد سنوات قلائل من رحيلها لم يعدْ البلح السكوتي يدخل بيوتنا ، غُرست مكانه الآن أشجار المانجو والليمون وغيرها ، وبالرغم من ذلك مازالت تميمة جدتي معلَّقة علي الجدار تطِّل علينا كل صباح .