مازالت تلك الأيام الجميلة في خاطري . لها نفس الطعم الحلو والذكري الخاصة. مازلت أذكر وجه " ستي " أم أمي كان اسمها " ست الحسن سليمان علي " فلاحة من قرية " ميت رهينة " وهي نفسها مدينة " منف " الفرعونية . قرية مصرية وادعة في قلب غابة من النخيل الباسق . وآثار الأجداد مدفونة في باطن غيطانها حتي اليوم! كل ثلاثة شهور كانت ستي تصطحبني معها إلي القرية . في زيارة سريعة لتحصل علي ايجار أرضها . توقظني مع تباشير الصباح الباكر وننطلق إلي الاتوبيس الذي سوف ينقلنا إلي قرب القرية .كان اسم الاتوبيس " الكافوري " ولا يركبه سوي الفلاحين مع طيورهم وضجيجهم .ومازلت أذكرها في كل رحلة وهي تجادل كمسري الأتوبيس عندما يطلب منها تذكرة الصغير الذي هو أنا . وتعترض ستي قائلة : ده ابن بنتي .. وكمان قاعد علي حجري وعندما تنتهي رحلة الكافوري عند مركز البدرشين الذي يبعد عن القرية كيلومترات قليلة . كانت ستي دائماً تضعني أمام الاختيار الصعب . ناخد ركوبة يا حبيبي . أوأجيب لك حاجة حلوة ؟ أما الركوبة فهي حمار ينقلنا إلي القرية ويجري وراءه صاحبه أما الحاجة الحلوة فكنت أظنها لصغر سني شيكولاته أوعلي الأقل بونبوني . لأه .. هاتي لي حاجة حلوة يا ستي ننطلق إلي القرية وسط الغيطان علي طريق زراعي طويل وكلما شعرت بالتعب . وأخبرتها كانت تمسك بيدي ماضية في الطريق . وتحاول أن تبث الصبر في نفسي . كلها فركة كعب يا حبيبي وكلما سألتها : طيب فين الحاجة الحلوة يا ستو؟ ترد مبتسمة : هانت .. دقيقة يا ابن الغالية .وما أن نقترب أخيراً من القرية وتشاهد أحد مستأجري أرضها من أقاربها يعمل في الحقل حتي تناديه : أبوسريع يا واد يا أبوسريع يشاهدها أبوسريع عن بعد فيهرع الينا ويقبل يدها في احترام . نورتي البلد يا عمه تقول له : أطلع النخلة وهات بلحتين للولد يتسلق أبوسريع النخلة في مهارة القرد ويعود حاملاً بعض بلحات شكلها أحمر جميل . يغسلها جيداً في القناية تحت اشراف ستي التي في النهاية تعطيني البلح قائلةً : خد الحاجة الحلوة أهيه ! ورغم احباطي أكلت البلح فوجدته لذيذاً كالشهد مازال طعمه العسل في فمي ونفسي رغم السنوات . وماتت ستي . ودفنت هناك في مقابر القرية . ذات صباح ذهبت أقرأ الفاتحة علي روحها . فوجئت بمشهد نخلة طويلة تخرج من القبر إلي السماء . وخفق قلبي بشدة لابد أن ستي عندما ماتت . وخرجت روحها إلي الأعلي . صعدت نصف روحها إلي هذه النخلة ولابد أن بعض روح ستي قد أصبح هذا البلح الجميل الأحمر . ولابد أن هذا البلح وتلك الذكري هي الحاجة الحلوة التي كانت ستي تعدني بها . آه يا ستي .. لا شيكولاته ولا البنبوني انما .. انت الحاجة الحلوة .