أداما ديانج: شيخ الأزهر صوت عالمي للحكمة وركيزة في مواجهة التطرف والكراهية    النصر يحسم لقب كأس السوبر للبوتشيا بجامعة المنوفية ..صور    وزارة الشؤون النيابية تصدر إنفوجراف جديدا بشأن المرحلة الثانية من انتخابات مجلس النواب    أسعار الذهب تواصل الهبوط والجرام يخسر 150 جنيهًا    تداول 61 ألف طن و900 شاحنة بضائع عامة بموانئ البحر الأحمر اليوم الجمعة    محافظ المنيا يبحث مع وفد الإصلاح الزراعي خطة تطوير المشروعات الإنتاجية    وزارة الطيران تنفى فى بيان رسمى إنشاء شركة طيران منخفض التكاليف    الهيئة القومية للأنفاق: تشغيل المرحلة الأولى من الخط الأول للقطار السريع في الربع الأول من 2027    تداول 61 ألف طن و900 شاحنة بضائع عامة ومتنوعة بموانئ البحر الأحمر    البرهان يدعو كل السودانيين المشاركة فى المعركة ضد ميليشيا الدعم السريع    الاتحاد الأوروبي يبحث تدريب 300 شرطي من غزة لهذا السبب    اليابان تستدعي سفير الصين للاحتجاج على تعليقات «غير لائقة» لدبلوماسي صيني    اتصال هاتفي بين وزير الخارجية ونظيره السعودي    إنفانتينو: الدوري الأمريكي يدخل عصرًا جديدًا قبل كأس العالم    دقيقة حدادا على روح محمد صبري قبل انطلاق ودية مصر والجزائر    سيطرة آسيوية وأوروبية على منصات الصدارة في بطولة العالم للرماية    الكرة النسائية.. الأهلي يحقق فوزًا كاسحًا 12-0 بعد انسحاب فريق الطيران    مباريات اليوم الجمعة 14 نوفمبر 2025.. مواجهات نارية في تصفيات أوروبا وكأس العالم للناشئين والوديات الدولية    "طلق مراتك وإلا هحبسك لو رجعت مصر"، الأمن يكشف حقيقة تهديد ضابط شرطة لمواطن    مصرع شاب برصاصة طائشة في أولاد عمرو بقنا    ضبط 25 طن ملح صناعي يعاد تدويره وتعبئته داخل مخزن غير مرخص ببنها    محافظ الدقهلية: ضبط 3.3 طن من مفروم اللحوم والدواجن غير الصالحة للاستهلاك    محمود عبد السميع بمهرجان القاهرة: الاهتمام بالمكان جزء أصيل من "الدراما"    بدء تطبيق نظام الحجز المسبق لتنظيم زيارة المتحف المصرى الكبير الأحد    المسلماني: مجلس «الوطنية للإعلام» يرفض مقترح تغيير اسم «نايل تي في»    مع انخفاض حرارة الجو، تعليمات يجب الالتزام بها لحماية أسرتك من الفيروسات    "سد الحنك" حلوى الشتاء الدافئة وطريقة تحضيرها بسهولة    حبس زوجة أب في سمالوط متهمة بتعذيب وقتل ابنة زوجها    أذكار المساء: حصن يومي يحفظ القلب ويطمئن الروح    مؤتمر السكان والتنمية.. «الصحة» تشارك في جلسة «تعزيز العمل اللائق بمصر»    اليوم.. عبد الله رشدي ضيف برنامج مساء الياسمين للرد على اتهامات زوجته الثانية    الائتلاف المصري لحقوق الإنسان: صعود المستقلين وتراجع المرأة في المرحلة الأولى لانتخابات النواب    محمد عبدالعزيز عن ابنه كريم عبدالعزيز: "ابني ينوي إعادة تقديم فيلم انتخبوا الدكتور"    بسبب تغيرات المناخ.. 29 حريقا خلال ساعات الليل فى غابات الجزائر.. فيديو    اللهم صيبا نافعا.. تعرف على الصيغة الصحيحة لدعاء المطر    «الصحة» و«الاتصالات» تستعرضان دور الذكاء الاصطناعي في دعم التنمية البشرية    وكيل شباب الدقهلية تشهد فعاليات إنتخابات مجلس إدارة نادي المنصورة الرياضي    اليوم العالمي للسكر| وزير الصحة يعلن توجيه ميزانية موسعة للوقاية منه    سلامة عيون أطفال مصر.. مبادرة الداخلية "كلنا واحد" تكشف وتداوي (فيديو)    استقبال الشرع بواشنطن يقلق إسرائيل بسبب جبل الشيخ    مبابي: سنعود أقوى بعد التوقف الدولي ونسعى للفوز بجميع البطولات    مؤتمر السكان والتنمية.. «الصحة» تنظم جلسة حول الاستثمار في الشباب من أجل التنمية    الداخلية تضبط آلاف المخالفات في النقل والكهرباء والضرائب خلال 24 ساعة    ضبط مصنع غير مرخص لإنتاج أعلاف مغشوشة داخل الخانكة    العثور على جثمان غريق داخل ترعة مياه فى جنوب الأقصر    نشاط الرئيس الأسبوعي.. قرار جمهوري مهم وتوجيهات حاسمة من السيسي للحكومة وكبار رجال الدولة    أحمد سليمان ينعى محمد صبري: «فقدنا أكبر مدافع عن نادي الزمالك»    قيصر الغناء يعود إلى البتراء، كاظم الساهر يلتقي جمهوره في أضخم حفلات نوفمبر    أيمن عاشور: انضمام الجيزة لمدن الإبداع العالمية يدعم الصناعات الثقافية في مصر    زيارة الشرع لواشنطن ورسالة من الباب الخلفي    أسعار اللحوم اليوم الجمعة في شمال سيناء    زى النهارده.. منتخب مصر يضرب الجزائر بثنائية زكي ومتعب في تصفيات كأس العالم 2010    هل ثواب الصدقة يصل للمتوفى؟.. دار الإفتاء توضح    سنن التطيب وأثرها على تطهير النفس    كيف بدأت النجمة نانسي عجرم حياتها الفنية؟    وزارة التعليم تضيف معلمي ثانية إعدادي للفئات المستحقة ل«حافز التطوير»    سنن الاستماع لخطبة الجمعة وآداب المسجد – دليلك للخشوع والفائدة    اليوم.. أوقاف الفيوم تفتتح مسجد"الرحمة"بمركز سنورس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العولمة ومنغصاتها.. ملاحظات عالِمٍ مترحل
نشر في أخبار الأدب يوم 25 - 09 - 2015

إن لغَتَيَّ الأساسيتين كانتا العربية والفرنسية، ولكن اللغة الإنجليزية كانت لغتي المفضلة، اللغة التي كنت أكثر إحساساً بها. وكنت في هذا مثل الملايين الذين جعلوا من الإنجليزية اللغة الأكثر تداولاً علي النطاقين المحلي والعالمي - ومن ثم ساعدوا علي تحولها. كيف صارت اللغة الإنجليزية لغة التعامل في عالمنا المعاصر ( أمر سوف يغضب الحكومة الفرنسية)؟ القوة العسكرية، والاقتصادية، والتكنولوجية،
لا أطمح في عقد المقارنة بيني وبين علماء القرون الوسطي من الشعراء الموهوبين، الذين عالجوا قضية الأدب مثلما فعلت، حيث حاضرت وقمت بتدريس الأدب من وقت لآخر في العقود الخمسة الماضية في كل القارات ما عدا قارتين: أنتاركتيكا وأمريكا الجنوبية. ولقد كانت التجربة محورية بالنسبة لحياتي المهنية وحياتي الشخصية. لقد استوعبت أيضاً، كما لو كان في مرآة مضببة، انعكاسات التحولات الفكرية والجيو- سياسية في النصف الأخير من القرن. وما يلي هو تأمل موجز في هذه التجربة، في لحظة خاصة من تاريخ العالم - قلقة علي المستوي العالمي، ممزقة علي المستوي المحلي. وكون ملاحظاتي تمس أيضاً الألفية الثالثة في بدايتها مصادفةٌ تاريخية عادية، عادية ولكن لا يمكن فصلها مع ذلك عن لغزٍ أعمق هو الزمن.
وعلي نحو مماثل، أعتبر مولدي في القاهرة مصادفة وليس قدراً. ولكن يمكن للمصادفة أن تنطوي علي حكمة أكثر ثراءً مما يعرف قانون العِلِّية. وعلي الرغم من أن ملاحظاتي تستوعب وتعبر عن حياةٍ، وحساسية، فإنها تنفتح أيضاً علي سماء أوسع. ومن الحماقة بمكان أن نطمح في أن تكشف هذه الملاحظات أيضاً في الأحداث الشخصية أو الاتجاهات العامة عن السمات المميزة لما نصرح به؟ هنا، علي أية حال ما سوف أخلص إليه: علي الرغم من أن الكثير، الكثير قد تغير في العالم، فإن شيئاً ما في الأدب لا يزال يقتضي إخلاصنا البناء.
إن عالمنا غالباً ما يوصف بأنه ما بعد حديث. ما معني هذا؟ نحِ جانباً مغالطات وتعقيدات المصطلح، الذي غدا الآن دالاً يطفو في بحر من التضليل والخداع. ومع ذلك فإن المصطلح، المتنازع عليه، كما هو الحال في الاستعمال المقتصد، ينم عن إجماع: ما بعد الحداثة تعددية، هجين، ساخرة، مظهر من مظاهر المجتمعات التي تحركها وسائل الإعلام المتطورة، وملمح من ملامح كون يتسم بالتفاعل المفتوح بين العالمي والمحلي.
لقد صغت عام 1977 مصطلح "تأصل اللا محدد" indetermanence )الذي يجمع بين كلمتي غير المحدد indeterminacy و التأصُّل immanence) لوصف دافعين متضادين قويين في ما بعد الحداثة . لقد قصدت أن أربط بطريقة لا ديالكتيكية بين الاتجاهين المشوهين لتلك الظاهرة (التي تتضمن الانفتاح، التشظي، اللامركزية، النسبية، الهرطقة، من بين مفردات أخري وثيقة الشبه) بالإضافة إلي شفراتها المُبَعثِرة (التي تتضمن الانتشار والتشتت والتفاعل والإجراءات المعقلنة، والإسقاطات السيميوطيقية عبر الوسائط التكنولوجية). والمصطلح المستحدث ينطبق أفضل ما يكون علي ما بعد الحداثة الثقافية، وأشكالها الفنية. ولم أكن أتصور بناء علي ذلك أنه سوف يصبح حقيقة كوكبية.
إن ما كنت أُلمح إليه أصبح الآن المادة اليومية لأخبارنا، أعني سيطرة الرأسمالية الاستهلاكية عالية التقنية، من جهة، وتفشي حركات الانفصال، وتصفية الاستعمار، والنزعات الانفصالية العرقية الدينية والجنسية واللسانية والسياسية العديدة، من جهة أخري- الأقمار الصناعية هنا، والممارسات الدينية التي تقوم بها القبائل البدائية للحصول علي الثروة المادية للمجتمعات المتقدمة تكنولوجياً عن طريق الطقوس السحرية هناك، مادونا من جانب، والشيطان الأعظم (أمريكا) من جانب آخر. لقد تحولت ما بعد الحداثة الثقافية باختصار إلي، وربما تضمنت دائماً، ما بعد الحداثة في بعدها الكوكبي التي ارتبطت بالإبادة الجماعية (البوسنة، كوسوفو، رواندا، الشيشان، كردستان، السودان، أفغانستان، والتبت...) كما أفضي عدم التحديد إلي علاقات جديدة بين المراكز والهوامش، والهوامش والهوامش، والمراكز والمراكز، اللامكان واللا مكان (اليوتوبيات؟). وفي ذات الوقت، تحولت ما بعد الحداثة الثقافية ذاتها إلي ألعاب عقيمة وزائفة، وفنون هابطة، هزلية مسدودة الأفق، وإلي إثارة إعلامية وأوهام بارودية.
إن قوي الدمار الخاصة بالعولمة، كما هو واضح في كل مكان، تتسبب في الكثير من أشكال الفوضي والخراب، شأنها شأن قوي الدمار الخاصة بالتركز المحلي، وهو دمار لا يسمح للبشر بامتلاك ثقافاتهم أو سكني الكرة الأرضية، اللهم تحت لافتة السخرية أو الانتهاكات الوحشية. كيف يمكن تسوية التطلعات، والولاءات، والمصالح التي تتطلبها هذه القوي المتصارعة؟ كيف يمكن الإبقاء عليها في حالة من التوتر الدينامي المزعوم؟ كيف يتحقق التكافل، ناهيك عن التكامل، بين مجتمعات متعددة الثقافات، داخل إطار عالم متعدد الحضارات؟ (لقد غذت الإجابات أحياناً حقول القتل والإبادة الجماعية علي كوكب الأرض) والسؤال الأكثر اتصالاً بمهنتنا هو: ما دور الأدب وما مهمته في هذا العالم؟ لماذا بالذات قوته الروحية، إذا كنا نعني بالروح ما عبر عنه فيليب زالسكي " قاعدة الوجود الإنساني- لماذا نحن هنا، إلي أين نحن سائرون، وكيف نتناغم ]ضمنياً، فيما آمل[ مع فكرة الجدارة واحترام النفس جنباً إلي جنب"؟
في فضاء السخط هذا، الذي أصفه مجرداً، والذي ملأه رحالة مثل مايكل إجناتيف وروبرت كابلان في كتبهما حديثاً بتفاصيل مرعبة، يُقرأ الأدب في اللغة الإنجليزية ويُكتب، ويُعلَّم ذ ويُكْتَب عنه أحياناً مع ذلك- بلغة نثرية بشعة.
إن التفصيل يستدعي بعض التعليقات التي تتعلق بالسيرة الذاتية. إن لغَتَيَّ الأساسيتين كانتا العربية والفرنسية، ولكن اللغة الإنجليزية كانت لغتي المفضلة، اللغة التي كنت أكثر إحساساً بها. وكنت في هذا مثل الملايين الذين جعلوا من الإنجليزية اللغة الأكثر تداولاً علي النطاقين المحلي والعالمي - ومن ثم ساعدوا علي تحولها. كيف صارت اللغة الإنجليزية لغة التعامل في عالمنا المعاصر ( أمر سوف يغضب الحكومة الفرنسية)؟ القوة العسكرية، والاقتصادية، والتكنولوجية، التي مارستها بريطانيا والولايات المتحدة علي التوالي؟ السهولة المفترضة للغة نفسها التي جذبت أعداداً كبيرة من المتحدثين الأجانب من خلال أبجديتها المتحولة ونطقها الاعتباطي؟ شئ يتعلق بالمؤسسات والأفكار والمواقف الأنجلوساكسونية، ناهيك عن الأساطيل أو دوائر الكمبيوتر الإلكترونية المدمجة "الأنجلو ساكسونية" ؟ يمكنني أن أقدم بعض الطرائف الشخصية عوضاً عن الحكايات التاريخية.
في مذكرات بعنوان" الخروج من مصر" تذكرت أن أيام المدرسة لم تكن أياماً سعيدة بالنسبة لي، ولكن "مستر ميلر، الشخص الذي كان يتولي تعليمنا اللغة الإنجليزية في ذلك الوقت، حمل إلينا إشعاعاً ما انتقل حتي إلي أكثر الأرواح غلظة وأنار أيامي. وربما يرجع إليه الفضل أيضاً في فوزي بالجائزة الأولي الوحيدة التي حصلت عليها في المدرسة- لتفوقي في اللغة الإنجليزية". وفي يوم ما، وبطريقة ما، أصبحت مفتوناً باللغة الإنجليزية وآدابها، بينما لم يُفسد بغضي للمستعمر الانجليزي ميولي الاختيارية - كانت مصر من الناحية الفنية تقع تحت الحماية البريطانية. إنني أتساءل كم يبلغ عدد الكُتَّاب المغاربة، والتونسيين، وحتي الهنود، والأندونيسيين الذين انجذبوا إلي لسان أجنبي؟ هل الميل أو الانجذاب هو الوجه الخفي للإمبريالية، مثلما تُعد القوة (السلطة) وجهها المكشوف ؟
في عام 1943، عندما كنت طالباً في الجامعة، أتي الغرباء اليانكي إلي مصر. وشأن الكثير من الطلاب المصريين الثوار، المثاليين غير المتعمقين، نَظرتُ إلي روميل عام 1942 بوصفه محرراً. لقد كنا بكل تأكيد نعتقد أن عدو عدوك صديقك. ولذا عندما ألحق الحلفاء الهزيمة بثعلب الصحراء في العلمين، تحول ولاء نفس الطلاب للأمريكيين، ووجدوا فيهم ليس محررين فقط، وإنما نماذج جديدة لتطلعاتهم. كنا نشرب الكوكاكولا، ونلتهم الريدرز دايجست ونرتدي النظارات الريبان الخاصة بالطيارين، نحدق ببله في الجنود الأمريكيين طوال القامة ذوي الأجسام النحيفة الذين بدأوا يتوافدون علي مدينة القاهرة في ذلك الحين، وهم يلوكون العلك، ويتشدقون بلكنة تختلف مخارجها عن مخارج أي لكنة سمعناها من قبل. لقد بدت هوليوود قريبة المنال. ولكن بعض اليانكي جلبوا معهم الكتب أيضاً، شذرات من الحلم الأمريكي. لاحت لهم أمريكا، بعبارة سكوت فيتزجيرالد، "إرادة القلب". وبعد ذلك بنصف قرن، أتساءل هل أصبحت أمريكا إمبراطورية الضغائن، إمبريالية الانحطاط.
ثم جاء اليوم الذي أوفدتني فيه الحكومة المصرية في بعثة للحصول علي درجة الدكتوراة في هندسة الكهرباء من أمريكا للمساعدة في بناء سد أسوان. وبدلاً من ذلك حصلت علي الدكتوراه في اللغة الإنجليزية وبقيت في أمريكا. وهناك لم أشعر أبداً بأنني منفي.
إن للطرائف هدفها، والهدف هنا مزدوج: علاقتي بأمريكا، وعلاقة أمريكا المتغيرة بالعالم.
كان لديَّ مثل الكثيرين من المهاجرين الاختياريين هويً دائم بأمريكا، هوي تشوبه فكرةٌ أو مثال، حلمٌ أو ألق ما، وعدٌ بإعادة بناء الذات يتجاوز الكسب المادي. ولكن هذا الحلم أخذ في التلاشي لأن القوة العظمي الوحيدة صارت عصي غليظة لكل القطعان الضالة، المخبولة أحياناً في العالم. لقد كانت أمريكا بالنسبة لجيلي رمزاً لشئ غير الرأسمالية أو ماكدونالدز أو إسرائيل أو القنبلة الذرية. هل لا تزال تحتفظ بالبريق ؟ هل لا يزال أدبها كذلك؟إن الآلاف، وربما الملايين، من آسيا وأمريكا اللاتينية لا يزالون يخاطرون بحياتهم كل عام ليدخلوا الولايات المتحدة، بطريقة شرعية أو غير شرعية. ولكن المهاجرين الذين تحفزهم الضرورات الاقتصادية والسياسية، مثلما حدث مع أسلافهم، يتمسكون الآن بجذورهم. والدافع وراء ذلك لا يكمن فقط في سياسة الهوية، أو الأهواء العرقية، بقدر ما يكمن أيضاً في هشاشة تعريف الذات في العالم في حقبة من الهجرات غير المسبوقة والاضطرابات الثقافية. لقد قال لي لاجئ من التاريخ ذات مرة "كيف أعرف من أنا، إذا لم أعرف من أكره؟" لقد فكرت "لدي استعداد لاكتشاف هويتي في شخص آخر أو العالم، ولكن ليس في مجموعة. الوطن ليس هو المكان الذي تفتحت عيناك فيه علي الضوء لأول مرة، وإنما المكان الذي تستجمعه داخل نفسك."إن علاقتي بأمريكا لم تكن أبداً ملتبسة مثل علاقة بعض المهاجرين اللاحقين ( شأن علاقة إيفا هوفمان التي عبرت عنها في سيرتها الذاتية، مثلاً) ، علي الرغم من انتقادي المتزايد للحياة العامة فيها، ولوسائل إعلامها، و"عبادة المال" المتفشية. إن البساطة التي تتسم بها مشاعري تلك، تعقد رسالتي المهنية: ملاحظة التصورات المتغيرة المتعلقة بأمريكا في العالم، حيث يمكن لهذه التصورات أن تؤثر علي عمل العلماء أو المحاضرين المتجولين. إن اليمين، كما نعرف، يعتقد أن أمريكا منزهة عن الخطأ: "اعشقها أو اتركها." ولكن اليسار يعتقد أن أمريكا لا يمكنها أن تكون علي صواب. في المحيط الأكاديمي، يمكن للمرء أن يتحدث فقط عن أمريكا برفق- هل بإمكان العقل النقدي، كما يجادل البعض، أن يغرس شيئاً عدا الموقف المعارض؟
إنني أفضل موقفاً مستقلاً، وذاتياً، ولا أميل إلي التحزب أو التعصب. وعلي الرغم من أننا جميعاً نعرف أين تقع التزاماتنا، فإننا نمتلك جميعاً بالإضافة إلي ذلك إمكانات التعاطف والفتور العاطفي. وطبقاً للمناخ العالمي السائد الآن المناهض للأمركة- هناك استثناءات بالطبع مثل آيرلندا والكويت- صار المزاج المناهض للإمبريالية الثقافية والتجارية ولا سيما الفتور العاطفي، هو حالة التجلي.
لقد صارت تهمة الإمبريالية الثقافية الغربية، بالنسبة لأي محاضر أمريكي في الخارج، تتسم بشئ من الحدة، لأنها أصبحت تصاغ بمفردات مستمدة من الفكر الغربي نفسه، ويتم توجيهها بلغات القوي الكولونيالية السابقة. وأنا لا أخجل من التحدث إلي شخص مغربي أو هندي، أو ياباني باللغة الإنجليزية، أو أن ألقي محاضراتي حول الأدب البريطاني أو الأمريكي في الخارج بتلك اللغة، ولا أعتقد أن حياتي كانت سوف تكون بالتأكيد أكثر ثراء لو لم أتعلم اللغة الإنجليزية، أو لو أنني تعلمتها بوصفي مهندساً ثم عدت إلي مصر للمساعدة في مشاريعها للري. ولكني أتفهم مع ذلك موقف المتحاورين عندما يبدون الغضب، والهوان، والحسد، واهتمامهم الصادق في أغلب الأحيان- كل هذا مرة واحدة- إزاء أي شئ أمريكي.
حدث ذات مرة، في خريف 1997، أثناء وجودي بالمغرب، أن وقفت كاتبة مغربية بعد محاضرة ألقيتها حول الدراسات ما بعد الكولونيالية، وعلقت غاضبة "أمريكا تمتلك قوة مفرطة في العالم". أجبت بدون تفكير"وما البديل؟"، ثم أضفت لكي أهدئ محدثتي" تعنين قوة يساء استخدامها؟" بعد ذلك تساءلْت، ما القدر المعقول من القوة؟ هل ينبغي علي العالم العودة إلي الحرب الباردة؟ أم خلق حالة من التوازن بين القوة الأمريكية والقوة الأوروبية، واليابانية، والصينية ؟ وكيف يتحقق ذلك؟ أم أن علي الأمريكيين تقليص إنتاجيتهم، والتبرؤ من تكنولوجيتهم، وتخفيض مستوي معيشتهم، وتصفية مايكروسوفت، ونقل ملكية بيبسي كولا وفورد للمملكة المغربية؟ لقد كانت الكاتبة تفصح عن رغبتها بالطبع في تحسين الأحوال في بلادها، وعبرت عن ذلك في صورة الاستياء من مظاهر الظلم والاستبداد السائدة في العالم.
أي نوع من الاستياء هذا؟ لقد طور المفكرون الغربيون- ولسبب معقول دعني أضيف- ضميراً فاسداً، إن لم يكن كراهية ذاتية، تجاه عمليات النهب التاريخية التي قام بها الغرب. ولكني عندما أفكر في الإمبريالية، الثقافية أو غيرها، فإنني أفكر أيضاً في مصر القديمة، وآشور، وفارس، والصين، والهند، وبلاد الإغريق، وقرطاجنة، وروما، وبيزنطة، والأزتيك، وشعب الإنيكا، والعرب، والخمير، والتتار، والعثمانيين، والزولو، والأشانتي... ليس دفاعاً عن الإمبريالية أو تسويغها، إذا كانت كلمة تسويغ هي الكلمة التي تنطبق علي كل أشكال العنف التاريخي- عن نفسي، لا يمكنني أن أسوغ ، مثلاً، معسكرات الاعتقال، أو الهولوكوست. هل الأمر إذن مجرد إساءة شخصية أو وجهة نظر تاريخية؟ هوي أخلاقي خاص أو عمومي؟ هل ما يقوم به الآخرون من أفعال، مهما تكن درجة شناعتها، مظهر من مظاهر ثقافتهم، وما نفعله في الغرب مظهر من مظاهر طغياننا؟ أم يمكن لنا البدء في اكتشاف، بعيداً عن الإدانة أو الاحتفاء، "منافع خلق ثقافة عالمية" مثل تلك التي تحدث عنها كوامي أنتوني أبيا وهنري لويس جيتس في مقدمتهم ل "قاموس الثقافة العالمية"؟
هنا نلمس مأزقاً- لا، نمس عصباً عارياً. كيف نوائم بين المثل الأخلاقية والتاريخ؟ كيف نوفق بين مطالب المصلحة، والرغبة، والقوة، من ناحية، ومطالب اللياقة، والعقل، والعدالة، من ناحية أخري؟ كيف نوفق بين الاحتياجات الضيقة والآمال الكلية؟ علي سبيل المثال، ما موقف المغاربة من حق متمردي البربر أو البوليساريو في أرضهم؟ أم يجب علي النفاق أن يسود دائماً، حتي في الخطاب الفكري، حيث تعني حرية الرجل قمعاً للمرأة؟
وتتدافع في الرأس أمثلة أخري وأسئلة أخري، تومئ إلي "أجندات"، وتثير الشكوك السياسية. هل استغلت وكالة المخابرات الأمريكية التي كنت أحاضر فيها علي نطاق واسع بعد حرب فيتنام اسمي العربي بقصد أو عن غير قصد لإحباط النزعة المتزايدة المضادة للأمركة لدي جمهور المستمعين في الخارج؟ هل يفسر"ميل" الهند للاتحاد السوفيتي في السبعينيات والثمانينيات عدم الاطمئنان للأدب الأمريكي الذي أحسست به في إحدي الندوات التي عقدت في نيودلهي عام 1985؟ هل يفسر الاهتمام الواضح بالأدب الأمريكي الذي لمسته في ندوة أخري عقدت في نفس العام في لاهور في باكستان ذات الاتجاه المخالف؟ وماذا عن كل تلك التحولات عن فوكنر وهمنجواي التي لاحظتها في الطلاب اليابانيين بين زيارتي الأولي عام 1974 وزيارتي الاخيرة عام 1998 ؟ هل يمكن لفوكنر نفسه أن يلقي اليوم نفس الترحيب التلقائي، بعيداً عن مظاهر الكياسة المعروفة، التي تلقاها في مدينة نيجانو عام 1955؟ هل يمكن لي أن ألْقَي اليوم نفس الاستقبال، نفس الاهتمام الحار المرحب الذي شاهدته في الطلبة الصينيين في بكين، وشنغهاي، وناننجنغ، وتينان عام 1982 ؟ هل لا يزال الطلاب في رومانيا يقبلون علي قراءة الأدب الأمريكي كما كانوا يفعلون في بوخارست عندما كانت البلاد تقع تحت وطأة القبضة الحديدية لبريجينيف وشاوشيسكو؟ هل لا يزال الطلبة الراديكاليون في جامعة تايبيه يبغضون إرث شيانج كاي شيك كما كانوا يفعلون عام 1986 في ساحة تيانانمين في بكين؟ هل أصبح المثقفون الاستراليون متمركزين حول المحيط الهادي، حيث يرجع الفضل في ذلك جزئياً لبيان برنارد سميث حول الفنانين الأستراليين المحدثين المعادين للفن التجريدي؟ وهل تبشر الدورية الأوربية الجديدة لدراسات اللغة الإنجليزية بقومية أوربية جديدة يمكن ملاحظتها في علاقات أوربية بينية وليست داخلية، عندما تؤكد في إحدي افتتاحياتها: "الخطة تتمحور حول خلق فضاء للأوربيين للانخراط في حوار مع بعضهم البعض في أول الأمر، ثم مع المتخصصين من أماكن أخري بعد ذلك".
قد يوحي هذا بوجود هوية أوروبية مميزة. ربما. أو بمعني أصح، اكتشاف شكل من أشكال الوحدة يعتمد علي الاختلاف. هنا، علي سبيل المثال، يقع التمييز الحاسم بين أوروبا والولايات المتحدة: نحن الأوروبيون نحب مشاهدة الأفلام في نسخها الأصلية، ولا حاجة بنا لإعادة وضع فيلم Retour de Martin Guerr(عودة مارتين جير) في الجنوب الأمريكي أثناء الحرب الأهلية .]...[ . في فيلم " ناشفيل" Nashville لألتمان تغني بلدة كاريكاتورية ونجم غربي أغنية وطنية تقول كلماتها "ينبغي أن نفعل شيئاً صحيحاً/ لنستمر مائتي عام". وما أن نتخلص من آثار العبوس علي وجوهنا وتجهمنا، حتي ندرك كل مزايا وعيوب قرون التاريخ الثقافي والقومي التي تفصل بيننا نحن الأوربيين. هذا يشجعنا علي مقاومة بوتقة الانصهار الفكرية التي تسعي العقلانية والعولمة لفرضها علينا. وقد يغرينا هذا أيضاً لرفض عملية الوحدة ذ داخل الاختلاف التي هي بمثابة فرصتنا الوحيدة لصد المد الحتمي لتلك العولمة ذاتها.
"الوحدة داخل الاختلاف"- أم "الاختلاف داخل الوحدة"؟- كلام أجوف بعض الشئ، نقي بعض الشئ كما عودنا الصراع في البوسنة وكوسوفو وما ترتب عليه من إبادات جماعية مروعة. عندما يتوقف "الحوار"، تبدأ المذبحة التي يذهب ضحيتها الآمنون؟ أين يتوقف التباهي العرقي، ويبدأ التطهير العرقي؟ اسأل الأكراد، والألبانيين، والأرمينيين.
ولكن الامثلة غدت مزعجة، كما يحدث مع هرمنيوطيقيات الشك الجيو- سياسي. إنني أشعر وراء هذه المساوئ الخاصة، بضغط، أو تقريباً وجع أسئلة أكبر اكتفيت فقط بمسها مساً خفيفاً، أسئلة تتعلق بالغرب كما تتعلق بدرجة لا تقل - كما يذهب البعض-، بالآخرين. وهنا أشعر علي نحو غريب بالصلة المُجَدَّدة بالأدب.
تأمل مسألة مسستها مساً خفيفاً: العلاقة بين القوة والحقيقة، المصلحة والمبادئ الاخلاقية، السياسة واللذة، الاحتياج الضيق والروح الكلية. إن الأطراف الثانية من حدودي الثنائية ( ثنائية فقط مؤقتاً) يمد الثقافة بالطاقة، ولا سيما الأدب. ولكنها أيضاً ما يجب علي القوة- سمِّها متطلبات الذات أو، كما يطلق عليها نيتشه، متطلبات الكينونة ذاتها- التوسط بينها وتضمينها.
إن محاضراً في الأدب يصبح علي وعي حاد بهذه الحقيقة في سياق عالمي محل نزاع. ولكن وعي المحاضر يصبح أكثر حدة بشئ آخر: ليس فقط قدرة الأدب علي الاستجابة ولكن أيضاً مقاومته للسلطة، مقاومة النصوص الأدبية لسياقاتها. وإلا لما قرأنا أعمال هوميروس قط هو ودانتي، وشكسبير، وسافو، وأوستن، وموريسون، وجلجامش، والبهاجافاد جيتا، وحكاية الجني، التي وصلت إلينا من عصور أخري، وأماكن أخري. في كل هذه الأعمال، في كل هؤلاء الكتاب، يوجد عنصر يتعدي التاريخ، يتعدي الثقافات يدفعنا للقراءة. ما يعني القول أيضاً، كما اكتشفت مراراً وتكراراً أثناء محاضراتي في الأقطار الغربية وغير الغربية، أن أي شئ يضيع في عملية الترجمة- نقل اللغة، أو اللحظة، أو الأعراف- يأتينا من باب آخر: كل الأدب نقل بوسائل أخري. هل يرجع هذا إلي العنصر الروحي في الأدب؟ لما يدين به من فضل للذة؟
إنني لا اقصد إنكار الخصائص الأساسية للاستجابات الإنسانية، إنكار الخصوصيات الفردية، والثقافية، أو التاريخية، وإنما أعني فقط الاعتراف بأن وراء ذ لا عَبْرَ- هذه الخصوصيات يستحوذ الأدب علينا، شأنه شأن أي فن: الأقنعة الأفريقية، راقصي الباليه، الرسومات البدائية، فن العمارة العربي، المطبوعات اليابانية، الشعر الفارسي، الموسيقي الهندية، الخزف الصيني، هاملت، موبي ديك. وليس صحيحاً أن لا شئ يقاوم أشكال النقل الثقافية وأن لا وجود للكليات التداولية- كليات مثل اللغة، الشعيرة، الآلهة أو الأرواح، الوضعية الاجتماعية، أعراف الزواج، محاولة إشباع الاحتياجات والرغبات، بالاضافة للجوع، والتزاوج، والموت. إن الذاتية المفرطة لا تعوق فقط أحكام القيمة، وإنما تكبح أيضاً امكانية التعاطف الإنساني الذي تستحيل بدونه المعاملة بالمثل. لماذا يتوجب عليَّ الاهتمام بشخص يمثل "آخر" تماماً، بينما تمارس الحيواناتُ الغيريةَ التبادلية؟ يمكن للبوذيين فقط الإجابة باستدعاء التكافل بين كافة الخلائق.
دعني أستخلص سريعاً أن العالم يمكن أن يحتمل مساوئه العريضة المتفشية، ولكن يمكن للقارئ، أو المُعلِّم ، أو كاتب الأدب أن يَخْبُرَ "حقيقة النص"، وهي حقيقةٌ تمثل طاقة محسوسة في العمل، لحظةً معاندة تُدرك بوصفها تعالياً أو تجرداً، خصوصيةً بعمق، ولاشخصيةٍ من الناحية الكونية في وقت واحد- شبيهة ربما باللحظة التي عاناها إيفان إيليتش أثناء سقوطه علي عتبة الموت في نهاية قصة تولوستوي المسماه باسمه. إن الأدب، السياسي كما يمكن أن يكون، الوجودي في أغلب الأحوال، الشكلي كما يدرك الجميع، مهما يكن من أمر تشككه، يواصل إغراء محبيه- هل يتعين عليه إغراء أعدائه أيضاً؟- بأن رحلة الحياة الأرضية سرٌ وبؤسٌ ومجدٌ يتجاوز حساباتنا، يتجاوز حدودنا البشرية.
يمكنني أن أصرح بشكل روتيني، بوصفي محاضراً رحالة، أن الأدب هو الموقع الذي يتعامل خيالياً مع المحلي والعالمي، المحسوس والمجرد، ومعضلة البشر. وهذ هو السبب في أن جملة جميلة يمكن أن تحمل حباً أكبر من عقل يزخر بالمواقف والمبادئ والمذاهب والمعتقدات والنظريات التمييزية المتحاملة. وهذا أيضاً هو السبب في أن صول بيلو أصاب كبد الحقيقة في المحاضرة التي ألقاها بمناسبة فوزه بجائزة نوبل من خلال ملاحظة بسيطة وروحية: "عندما تزداد التعقيدات، تزداد الرغبة أيضاً في الأسس والماهيات". ومع ذلك لا أقول أن الأدب يحرر، ولا أقول إنه لا يحرر أي شئ. ومن ثم، ظلت هيئة المحكمين عاطلة عن العمل لمدة ثلاثة آلاف عام. ولكن علينا برغم ذلك أن نؤدي عملنا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.