في البداية، قد يظن قارئ رواية "الخالق"، للكاتب والمترجم أحمد شافعي، أنها نوع من "الميتارواية" ( الرواية داخل رواية)، حيث صار الميتاسرد، بتبدياته المختلفة، شكلا مهيمنا علي الكثير من الروايات الجديدة، وتقنية متبعة لدي العديد من الروائيين، لكن النص الروائي ما يلبث إلا أن يكشف عن زيف هذا الظن، أو مراوغته للميتاسرد كبنية روائية. فلا نجد في "الخالق" روايتين متداخلتين، أي حكاية إطارية تضم نصا آخر (رواية أو كتاب)، بل عمدت الرواية إلي التباعد عن الحكاية التقليدية والبني الروائية المألوفة، والإيهام بوجود نص آخر يتضمنه العمل، دون أن تهدر ما يمكن أن يوفره الميتاسرد من تأمل في طبيعة الكتابة والخلق الفني. تبدو الرواية كمقال نقدي، أو مراجعة لكتاب "الخالق" لمعماري ياباني اسمه "هاتوري مساناري". تبدأ الرواية بفرضية جريئة ومثيرة: احتمالية وجود سيرة ذاتية للنبي "محمد" كتبها بنفسه.. "السيرة العطرة كاملة نقية محفوظة في صدور قوم منا لا يعرف بعضهم بعضا.."، مما يوهم بدلالات دينية محتملة، ثم يقول الراوي، أو الكاتب الضمني، إن ذلك خلاصة الفصل الأول من كتاب "الخالق" الذي صدر عن دار نشر أمريكية عملاقة، ثم يورد طرفا من مقدمة الناشر وكيف وصل "الخالق" إليه. تُنهي كلمات هاتوري مساناري، مبكرا، ما تثيره تلك الفرضية من جدل، فيقول: "إن محمدا فيما يقال كان أميا!"، ثم يضيف " إنما هي سيرتي أنا التي تنتظركم فيما بقي من هذا الكتاب، وأعرف أنكم بعد هذا الفصل المثير من الكتاب، لن تجدوا فيها إلا تفاهة خالية من كل إثارة". ويأتي تعليق الراوي ليقوض هو الآخر ما افترضته الرواية في بدايتها: " علاوة علي أن طريقة وصول السيرة إلي "مساناري" مثيرة للريبة كثيرا، فالناقل سكران، والمنقول إليه منهك، ولاديني." حيث يذكر مساناري أن من بلغه بوجود مثل هذه السيرة شاب قابله في "منتجع صحراوي في رمال الإمارة" وسط حفل صاخب. يتحدث الراوي عن خلق هاتوري مساناري للمدينة، حيث وضع "مساناري" تصوراته الفلسفية الأقرب إلي "اليوتوبيا"، كما يتساءل عن ماهية "المدينة": " ما المدينة؟ كيف تنشأ المدن؟ متي و كيف ولماذا كانت المدينة الأولي؟". يصطنع "هاتوري مساناري" تاريخا للمدينة، قوامه " الدم والذهب والخرافة"، ويلح مساناري علي مسألة "الفردية": " وأري أن أحدا لا ينبغي أن يدخل المدينة إلا فردا"، "إلي حد أنه جعل المدينة تقتل سكانها إن اجتمع منهم اثنان أو أكثر لما يزيد علي خمس عشرة دقيقة". يخاطب المعماري الياباني حاكم الإمارة، ويكتب إليه ليطلعه علي الأفكار التي تعتمل بداخله. يتحدث الراوي عن شوارع "المدينة" التي تتحول إلي أنهار مالحة، وطيورها الصناعية، لكن ما يبهره في "المدينة" فكرتها :" قيامها دون كل مدن الدنيا علي اللاغرض"، كما يتساءل: "لماذا المدينة لا منطقية؟ لماذا تبدو كذلك للكثيرين؟ لعلها لاغرضيتها مرة أخري". هكذا يجازف النص الروائي عبر تقويضه المستمر لخطابه ومقولاته. تتأرجح الرواية بين ادعائها الخفة، وطرحها للأسئلة الكبري، أو المفاهيم المؤسِسة للعقل الجمعي ( الله، السلطة، الموت، التاريخ...)، وكأن "الخالق" قد وجدت أن السبيل الوحيد كي تكتسب وزنا في عالم متخم بأعمال فنية طرحت الأسئلة ذاتها، هو أن تغدو خفيفة و"أن تصنع الفن حيثما لايتوقعه أحد"، كما قال الكاتب السويسري "فردريش دورنمات": " علي الأدب أن يغدو خفيفا... هذا هو السبيل كي يكتسب وزنا من جديد". يستمر الإيهام بالخفة واللاجدوي (تفاهة السيرة، لاغرضية المدينة)، ويتجلي ذلك من خلال الافتراضات أو الفرضيات التي يطرحها الراوي طوال النص. يبدو الراوي صاحب تأملات مجدِبة: "وذلك بالضبط كأن يكون ثلاثة جالسين حول مائدة، وإذا النادلة تضع أمامهم أربعة فناجين، في ثلاثة منها شاي أخضر والرابع فارغ.. أين هذا الرابع الخفي .. أم هو طلب هذا: الخواء؟". " تخيل نفسك وقد غاص بك مقر عملك، هل ينفعك مثلا موبايل؟... هل "المدينة" هي التي كانت وراء اختراع الموبايل؟" "لو تخيلنا الهضبة حوتا عملاقا رأسه في البحر، وذيله في عمق الصحراء، فهنالك شجرة عملاقة تثمر مظلات". كما يتحدث عن انتحار فيلسوف إغريقي يسمي "إمبيدوقليس"، حيث عمد إلي فوهة بركان حي فقفز فيه، لكنه ترك حذاءه علي حافة البركان، ثم يتخيل لو أنهم ثلاثة شبان من قرية يونانية ووجدوا في مكانهم حذاء زائدا، فسيتركون الحذاء ويمضون " ذلك أنه مجرد حذاء، كآلاف الأحذية". لا تفضي تلك الافتراضات أو التأملات إلي أية معاني محددة، وهي في ذلك شبيهة بما يسمي بالإنجليزية "Nursery Rhyme"، ومثالها الأشهر ذلك الموجود في كتب الإنجليزية المدرسية: If all the seas were one sea""، سلسلة من الافتراضات في أبيات مسجوعة لاغرض لها سوي الطرافة والتعليم، فتنتهي كما يقولها عادل إمام في مسرحيته الكوميدية " أكيد هيحصل طرطشة كبيرة أوي". يتضافر مع هذا السرد الهزلي ما ينتجه الراوي من خطاب حول الحاكم، والسلطة، والتي يبدو سؤالها محوريا بالرواية، فيقول في كلمات دالة: " دعوني أعترف أنني أتخذ من الحاكم موقفا لا يستند إلا إلي النفور الطبيعي الذي يشعر به البشر الأسوياء تجاه الحكام". ثم يستكمل حديثه ساخرا: " هل يمكن أن يطرق أبوابنا شخص من الجهاز، أعني جهاز المخابرات المصرية، فيسألني لماذا أجبت يومها بالقلم الرصاص... أو يسأل "سامحا" لماذا كان يضحك؟". تتصدي السخرية، بوصفها أهم أدوات التعبير الفردي، للسلطة بتبدياتها المختلفة وأنساق قيمها وممارستها القمعية. يقوم الضحك بتفكيك "رصانة السلطة"، بتعبير الروائي العراقي "علي بدر"، حيث " السرد الهزلي والتهكم والضحك والسخرية والعبث والخلط والاستهتار أدوات الراوية الساخرة". تقيم "الخالق" أوجه التناظر بينها وبين العديد من القصص المجازية، والتي ورد ذكرها بالنص، لكن الكاتب (الفعلي) يرسم تلك التناظرات بنوع من التفكه، كما فعل "صمويل بتلر" في روايته "إيرهون"، فينزع النص الأليجورية عن حكايات مثل "سنمار" و"بجماليون" و"بينوكيو"، أو ينحو النص إلي التهكم بوصفه وسيلة سردية أساسية، فلا تكشف السخرية عن وجه "المأساة"، قدر ما تنعي غيابها. " المأساة حل" ، يصف الراوي نهاية علاقة مساناري بالمدينة بنهاية موظف (عدم تجديد العقد السنوي، ويمكننا اعتبار مساناري مقلوب "ك" موظف المساحة في رواية "القصر" لكافكا)، بلا مأساة تمنح حكايته الخلود... لكن السخرية هي ما تمنح للرواية وجودها.
في فيلم "الكوميونة"، يقوم المخرج البريطاني الكبير "بيتر واتكنز" بتقديم شكل مغاير للسينما، سينما هجينة، شبه روائية شبه وثائقية، حيث يتخذ الفيلم شكل الكواليس: مقابلات و حوارات مع الشخصيات التي تتحدث عن آرائها وأدوارها، كما تنتقل الكاميرا داخل الديكورات المختلفة للفيلم. تشترك رواية "الخالق" مع "كوميونة" واتكنز في رؤيتها لوظيفتها الفنية، حيث تسعي "الخالق" لتصبح أكثر تمثيلا لذاتها، وكأن التاريخ الفوضوي للعالم لا يكفي مجرد سرده في العمل الفني، بل يتطلب الأمر طرح سؤال التاريخ داخل بنية شكلية تبحث في ماهيته، وتعريه، وتتناوله كسردية تتم مساءلتها وتحريفها وإعادة كتابتها: " ولكن أي شخص ينظر إلي التاريخ بهدوء، يجد أنه قابل للتصنيع. بل لابد أن هذا التصنيع حدث ويحدث وسوف يحدث"، كما تقول الرواية. تفضي البنية السردية للرواية إلي تعزيز الشك، وهو ما يؤطر ويبني رؤيتها للتاريخ والعالم، وكما يقول "بورخيس" فإنه حين تصبح الشخصيات في عمل روائي هي قارئة العمل (مثل الراوي) فإن ذلك يذكرنا "بالجانب الخيالي والنسبي لوجودنا الخاص". تستفيد "الخالق" من كونها "رواية شارحة"، حيث تستوعب المنظور النقدي في العملية الروائية ذاتها، فالراوي يستبق الانتقاد أو يدرج النقد المحتمل في النص، كأن يصف ما يرويه قائلا: "يا للاستطراد"، أو يقول " لست ناقدا في نهاية المطاف". وفي مقابل فقد الرواية إيمانها بالواقعية، أو التخلي عن عناصرها المألوفة (التسلسل والتتابع المنطقي للعمل، التطور الطبيعي للعلاقة بين الأفراد...)، ينمو إدراك و وعي " بالإمكانية الشعرية والرمزية للعمل الروائي" كما يبين "مالكوم برادبري"، لذلك تتجه الخالق لداخلها لتتفحص "المنابع الرمزية والأسطورية للعمل الروائي"، وتعقيدات وقلق عملية الخلق.
قد يبدو النص الروائي نص "قراءة" Lisible، بتعبير رولان بارت، وهو نوع من النص "المنغلق" لا يسمح للقارئ إلا بأن يكون مستهلكا لمعني ثابت، فالكاتب يتقنع خلف راويه أو كاتبه الضمني، وهو في ذلك يخاطر بإغلاق العملية الدلالية للنص أو حصرها فقط ضمن القراءات التي يوردها، كما يعمد إلي تفكيك المجاز أو كشف الأبعاد المضمرة له، فيهدر ماتقوم به اللغة المجازية من إعتاق النص من الخضوع لرؤية بعينها. لكن النص رغم كونه يحتفي بالقراءة وبمحاولة إقامة تناظرات مع نصوص أخري، فإن الكاتب يتحرر أو يتجرد من المكانة الميتافيزيقية له كخالق وأصل للنص، ومصدر لمعناه والسلطة الوحيدة لتفسيره. وكما يبين "بارت"، يتحول الكاتب من خالق للنص إلي "ساحة تلتقي وتعيد الالتقاء فيها اللغة التي هي مخزون لا نهائي من حالات التكرار والأصداء والاقتباسات والإشارات (الغيطاني، روسو، توماس مور، أوسكار وايلد..)، علي نحو يغدو معه القارئ "حرا تماما في أن يدخل النص من أي اتجاه يشاء". تصبح "الخالق" نص "كتابة" Scriptible علي مستوي المعني، يتيح للأنا القارئة، وهي نفسها "كثرة من نصوص أخر"، أقصي درجة من الحرية في إنتاج المعاني، أي يتحول القارئ إلي منتج، إلي خالق، يهب النص من روحه، فلا تصير القراءة "أداة نفي" للذات، كما قال الراوي، الذي يملأ من روحه، في أثناء قراءته لكتاب الخالق، ما يلاقيه من فجوات.
للمدينة خالق، هو هاتوري مساناري، يموت منتحرا بعدما يقابله الراوي في الأقصر. وللمدينة من كان يسعي لتخريبها كمعتصمي زين الدين، صاحب فيلم "الخالق"، والذي سعي إلي الانتقام عبر خلق عمل منطقي عن مدينة لا منطقية، وتشير الرواية إلي احتمالية كونه "الحاكم". يحاول الراوي أن يحد منطق الواقع منطق كتاب "الخالق"، في تساؤله عن الذي قد يدفع مساناري، الشاب الثري في الثلاثينات إلي إجراء عمليات تجميل ليحصل علي وجه طاعن في السن مليء بالتجاعيد، لكن منطق النص هو الذي ينتصر في النهاية: " وفي ذلك شيء من "دوريان جراي"، "أن يجعل هاتوري مساناري من وجهه قماشة يسوعية تحمل الأوزار لا عن صاحبها نفسه، بل عن الحاكم".. تلك رصانة "اللعب" التي تطرح الرواية من خلالها رؤاها المغايرة عن الخلق الفني، الحياة والموت، وعبثية الوجود.