وسط عالم متجرد من الحكاية التقليدية المباشرة، والزمن المتسلسل، والأماكن الأليفة للأبطال تمضي رواية " الخالق" للكاتب أحمد شافعي الصادرة عن دار كتب خان- في غلاف مميّز يشغل فيه عنوان الرواية نصف مساحة الغلاف. في بداية الرواية اختار الكاتب تصدير عمله برسالة إلي الحاكم، تبدو للوهلة الأولي بعد الانتقال للصفحة الثانية منفصلة عن العمل، إلا أن بناء العمل الروائي ككل يكشف عن سبب اختيار الكاتب لهذه البداية، ليس في الصفحة الأولي فقط، بل كتيمة ، سيطرت علي النص القائم علي وجود تقنيات سردية مختلفة، تتوازي مع أكثر من محور يعبر كل منها عن مسارات الرواية في تشعباتها المختلفة. هناك المعماري الياباني " هاتوري مساناري" الذي يبلغ الرابعة والثلاثين من عمره لكنه يبدو في السبعين" وأجري العديد من جراحات التجميل، لا ليتخلص من الوجه الطاعن في السن، بل ليحصل عليه"ص6 مع هذه البداية، يضع شافعي القارئ في مواجهة غير نمطية مع فكرة الشباب ونقيضها"الشيخوخة"؛ فالمعماري الياباني يدفع الأموال للحصول علي وجه رجل عجوز، مناقضاً بتصرفه للسلوك البشري التقليدي في العلاقة الجدلية حول أهمية الصبا، وهنا عبر الجنوح نحو الشيخوخة لا يقلب الكاتب المفاهيم الكلاسيكية للعلاقة مع الزمن فقط، بل إنه يمضي في مسار تحطيم الفكرة الميثولوجية عن الآلهة، وما يتماهي معها من أفكار جدلية عن كينونة الإنسان ووجوده الذي يمكن اعتبار تصدير كلمة " الخالق" كعنوان للرواية تنشغل ضمناً بمراجعة تأملية لفعل الخلق وما ينطوي عليه، ويتلبسه من أفكار مسبقة عن الميلاد والموت والخلود، عن عبث الحياة وتناقضاتها غير المجدية.. في موازاة شخصية المعماري الياباني هناك الراوي للأحداث، الكاتب المصري الشاب الذي يحصل علي السيرة الذاتية لهاتوري مساناري، تحت عنوان "الخالق"؛ بيد أن ما تتضمنه تلك السيرة يمثل المحور المركزي أو الخط الثالث للسرد. لنقرأ ما يكشفه الراوي في الصفحة الأولي : " تخيلوا لو كان محمد عليه الصلاة والسلام كتب سيرته الذاتية، تخيلو لو أننا نعرف بالضبط ما " أبو بكر" لديه صلي الله عليه وسلم، وما " علي"، هل كنا لننقسم إلي شيعة وسنة؟" إن المقطع السابق من الرواية، يمكن اعتباره جزءاً من نص داخل رواية أخري هي السيرة الذاتية للمعماري الياباني والتي حملت عنوان الخالق، وصدرت عن دار نشر أميركية عملاقة. يحصل ماسوناري علي سيرة النبي من شاب ثمل يلتقيه في الصحراء خلال إحدي رحلاته، لكن الحديث عن سيرة النبي ووجودها وتناقلها سراً، لا تلبث أن تتلاشي كفكرة تخييلية، أمام حضور سيرة المؤلف الياباني الذي يشرع في سرد حكاية خلقه إحدي المدن المشيدة في الصحراء، في مقابل نفي الراوي السارد لفعل الخلق هذا وتبريره أن ياسوناري أراد " من سيرته الذاتية في كتابه الخالق، أن يؤكد حقيقة واحدة هي أنه ليس خالق المدينة، ولا صانعها، وأن كل المجد الذي ناله من جراء نسبة هذه المدينة إليه، لم يكن أكثر من مجرد حدبة علي ظهره". فما هي تلك المدينة التي حملت لصاحبها المجد واللعنة في آن واحد؟ يمضي المنحي التخييلي في الرواية عبر شخصية البطل السارد في افتراضه فعل الخلق ونقيضه في آن واحد، كما هو مطروح منذ البدء مع فكرة تشويه الفكرة المثالية عن زمن الشباب. هناك أيضاً الفيلم الذي لم يكتمل والمستوحي من سيرة " الخالق" ومات مخرجه الإيراني في ظروف غامضة، إلي جانب وجود " حاكم" مجهول يسيطر علي المدينة، ويتحكم في حياة سكانها، بما يمتلكه من تقنيات عصرية تتجاوز التكنولوجيا المتاحة، بما يضمن سيطرته علي فعل الموت والحياة. البطل السارد للرواية يقوم بمراجعة السيرة الذاتية للمعماري الياباني وما ورد فيها، وتقديم آرائه الخاصة لضحضها والتشكيك بما جاء فيها، في محاولة نقدية واعية لديمومة التنقل السلس بين أكثر من محور، بما يتوازي مع الهدم الجريء لطرق الكتابة المألوفة، حيث ينحو الشافعي في " الخالق" إلي سرد تفكيكي يتشكل معماره الروائي وفق لغة خاصة وضمن أفكار تتقاطع في تفاعل سريالي، رغم ابتعاد الرواية في سردها عن الفانتازيا من حيث الشكل والتصاقها بها من حيث المضمون؛ فالقضية الوجودية التي تنشغل فيها الرواية ليست فعل الخلق بقدر فعل الامتلاك، امتلاك الخالق لعباده، امتلاك الحاكم لشعبه، امتلاك الإنسان للأرض، وفي موازاة هذا الامتلاك هناك " العزلة" الحتمية التي تقبض علي الجميع: المالك والمملوك، الحاكم والمحكوم، لأن عزلة الكائن هي الحقيقة الأكيدة التي توازي في ماهيتها حقيقة الموت، حيث كل كائن في النتيجة معزول داخل عالمه الخاص؛ ولعل هذه العزلة أيضاً ينبثق منها فعل الخلق المبدع الذي يجسده الشافعي في خطابه للحاكم في قوله :" إنما أخاطبك أنت لا اللجنة، فلا تقرأني بوصفك رئيسها، بل بوصفك الحاكم، بوصفك صاحب الرؤيا". إن هذا الخطاب الافتراضي للحاكم والطلب المباشر بالمساواة في فعل الكتابة والقراءة، أي أن من كتب النص هو خالق له أيضاً، وبالتالي يجدر بمن يقرأه أن يكون علي موازاته، فلا يقرأ الرسالة من هم أدني لأنهم لن يفهموها، كونها كُتبت بلغة أخري. وإذا كان فعل الوجود " المديني" للحياة، بل للعالم ككل، هو فعل خلق أيضاً، فإن هذا الوجود يتعرض لمراجعة في رواية " الخالق" عبر تضخيم التفاصيل الواقعية والحديثة في حيوات المدن، لنقرأ ما يرد في رسالة أخري موجَّهة للحاكم : " عزيزي الحاكم: إننا نولد أفرادا. لا أحد يصل إلي الدنيا في فوج سياحي..صحيح أننا نجد سعادة في الاقتراب من آخر، أو حتي في الاقتران به، ولكن كل سبب في سعادة هو سبب في حزن، فماذا لو فقدنا هذا الآخر؟" ص 36 تتوازي هذه التساؤلات الوجودية، مع فكرة العلاقة مع المدينة، حيث يتم طرح " العزلة" كمكون أساسي لقيام المدينة التي سيشيدها المعماري الياباني علي أطراف الصحراء : " لا ينبغي أن يعيش فيها إلا أفراد. سيكون واضحاً ومعلناً أن أيَّ مكان مغلق لن يستوعب من الطاقة الحرارية إلا ما ينبعث من جسد بشري واحد". ص 36 النص مكتوب في جزء منه علي شكل رسائل موجهة للحاكم، وفي جزء آخر يمسك خيط السرد راوٍ شابٍ يكشف عن حكايته الخاصة ووجوده الموازي لأبطال الحكاية، هذا إلي جانب التمويه بحضور أجزاء يسبغ عليها الشافعي صبغة اللغة المترجمة للتأكيد علي هويتها كنص غريب، بالإضافة لوجود لغة فلسفية، تنفلت أمام حضور الهواجس التساؤلية المطروحة علي مدار النص، سواء في حياة هاتوري ماساناري" الذي مات منتحراً، أو في الانطلاق من فرضية وجود سيرة للنبي محمد صلي الله عليه وسلم، تمكن ماساناري من جمعها وكتابتها في " الخالق" بل وتضفيرها ضمن سيرته الذاتية. بيد أن المنحي السريالي الضمني الذي يتوثق حضوره مع البطل السارد، الشاب المصري الذي تم توظيف شخصيته للكشف عن علاقة المعماري الياباني بمصر ودراسته الهيروغلوفية فيها، وموته منتحرا بالسيف علي أرضها. يتخذ الشافعي من روايته " الخالق" ذريعة لمواجهة التناقضات الحضارية، والالتباسات الفكرية التي تبني سدوداً تعزل الإنسان عن نفسه، أولا، وعن الآخر، وتوهمه بالعكس، فالأمان الوهمي هو في وجود الآخر، فيما الحقيقة هي وجود الفرد نفسه، ومواجهته واعترافه بهذا وتقبله كجزء من وجوده العبثي في النهاية، كما مضت حياة المعماري الياباني بعبثية مطلقة، سواء في مراوحته بين الصبا والشيخوخة- وتفضيله الأخيرة- أو في اختياره لموته أيضاً، متحرراً بذلك من فكرة " التملك" التي أرادها الآخرون له، عبر رفض الشباب، ورفض الحياة، والتنصل من فكرة المدينة التي شيدها بنفسه.