في نصوص "ذاكرة جرح" للكاتبة السكندرية الشابة رانيا حمدي، الصادرة عن دار اكتب 2014 نجد هذه الإطلالة علي الواقع الذي يشكل ذاكرة الساردة/ المسرود عنها غالبا الأنثي بهذا الحس التقليدي للقص أو تنامي العملية السردية علي نحو ما تفيض به الذاكرة السمعية والبصرية الممتدة للكاتبة التي تمتلك وعيا جيدا بالسرد من حيث كونه الحكاية الممتدة علي مدار الزمن تقطعه طوليا غالبا لتنتج سردا/ نصا يعتمد علي تحميل الحالة الشعورية علي مداره ويلتمس معها الجانب الإنساني الحميم كمحرك لعملية السرد التي تتراوح بين التعانق مع الآخرين والانفصال عنهم بفلسفة خاصة ذاتية للتعامل مع المفردات والأشياء المحيطة، فيبدو الاستهلال الذي تمهد به الكاتبة لنصوصها غير منفصل عما احتوته النصوص من صراع بين الذات والآخرين، والذات ونفسها، وما تحبل به هذه العلاقات من التباس قد يتم إسقاطه علي المستوي الجمعي ليشكل صورة من صور التخفي الذاتي داخل ذوات الآخرين، حيث تقول: "أنا وأخري كلانا لا يشبه الآخر في شئ إلا في تفردنا.. تقوم علاقتنا علي الرحمة" ذلك العنصر المفتقد الذي يبدو من خلال العنوان الدال الذي ينتمي إلي حالة من حالات الرثاء أو استعذاب هذه الحالة من النوستالجيا التي تنز بالجرح، وهو ما تعول عليه الكاتبة في جل نصوصها التي تعاني فيها شخصياتها أثر الاستلاب المعنوي الذي ربما شكل حالة الانفصام مع الواقع لينتج واقعا بديلا بنفس آليات الواقع القديم، وإن اختلفت المسميات والأشكال ولكنه يؤدي إلي ذات النتيجة، إلا أن الكاتبة قد تعتمد في بعض نصوصها علي تلك المسحة النفسية المستمدة من داخل الذات والمؤطرة والرامزة لحياة تتشبع بالألم والمرارة والشجن، فنجدها في نص "الحب المستحيل"، وكما يبدو من عنوانه المباشر إلي حد كبير مدي التورط في هذه الحالة التي تقدم لها الكاتبة بداية بقول ساردها تقريرا قد يبدو مباشرا، ولكنه دال علي سمات الشخصية إلي حد بعيد: "أنا أكره القهوة الجاهزة.. أكره ما هو سهل.. أحبها تقليدية الصنع.. رائحتها دون إضافات نافذة، وجه سميك، قاتمة.. تميل للمرارة إلا من نفثة سكر.." هذا التحميل النفسي الذي تدفع به الكاتبة علي سطح النص من خلال مفردات تنضح بكل تلك العناصر الدالة علي شخصية تنتابها الصرامة والتقليلدية الشديدة وتختلط بهذا الحس النفسي للشخصية المركبة التي تستمر في تفتيت ذاتها ووضعها علي المحك لتصنع مفارقتها الإنسانية، حيث يقول السارد/ المذكر: "لا أعلم وأنا القدير، كيف أحلتني لطفل حولك.. وددت لو أحطتك بسياج وطوقتك بذراعي.. وددت لو أخفيتك داخل صدري فلا ينفذ إليك بشر ولا تطلين إلا من خلف حجاب" حيث يتحول إلي الشاعرية في التناول لينقل الشخصية إلي فضاء آخر مغاير يعمق من الحالة ويرصد مدي التوغل فيها والانتقال من ثم إلي سرد الحكاية التقليدية التي تملأ فراغات النص، والتي تتضمنها التضمينات الشعرية لنصوص محمود درويش تحديدا، التي تلجأ إليها الكاتبة هنا من خلال الشخصية الأخري/ الأنثي المتصارعة التي تتقاطع مع مراحل استدعاء تلك العلاقة من الحب المستحيل، وحيث تتبادل الكاتبة علي وعي المسرود عنهما/ طرفي المعادلة الرجل الصارم والمرأة التي أغوتها أضواء الشهرة، لتصنع العلاقة بينهما متن النص السردي وصراعه بين الداخل والخارج: "لكل لقاء رهبة تسبقه، وكان هذا لقاؤها التليفزيوني الأول.. آثرت أن تبدو كزهرة فيه.. تنورة بيضاء وقميص أبيض مرصع ببتلات وردية يتوجهما وجهها بعينيها اللامعتين وشفتيها الدقيقتين" تملك الكاتبة براعة الوصف بصورة جيدة، وهو ما تستفيد به في نقل الفقرات التي تسرد فيها الحكاية المتبادلة، ليكون الوصف الجيد سمة من سماتها الأسلوبية التي تستفيد بلا شك من خبرات سابقة، ولتبين من خلال الوصف/ السمة الأسلوبية الأثر الانفعالي/ الفعلي لتلك المناوشات بين طرفي النص/ العلاقة، والتي تدلل علي آثارها بتعبيرات غير مخلة ولا مختلة، لا تخدش ولكنها تلمح وتصرح في ذات الوقت بفنية جيدة في مواضع عدة: "علي أطراف أصابعها خرجت من الغرفة لتغتسل مما لحق بها من تنكيل لأنوثتها زلزل كيانها.. وقفت تحت المياه تبكي ألما كيف انتهي بها الأمر مع هذا الوحش النهم؟!!." في مقابل ما تصبو إليه من تكامل المعني بالمقاطع الضمنية والتأكيد عليه لتجسيد حلم لن يتحقق علي أرض الواقع انتظارا لفارس الأحلام الذي تعيش معه علي صدي مقاطع درويش: "أتعلم عيناك أني انتظرت طويلا".. تكالبت عليها جراحها، ودمعت عيناها، فحضر بكامل بهائه يكفكف دمعها.. جلست بين يديه.. أسندت رأسها علي ركبتيه.... " إلي نهاية هذا المثال من التخييل الذي يهرب من الواقع بالانفصال عنه بالحلم والشاعرية، وهي بلا شك تيمة كتابة تراوح بين التقليدي في شكل الحكاية، وغير النمطي في استخدام الوصف لنقل توترات الحالة النفسية الداخلية وكشف مخبوء الذات التي تتعمق جراحها دائما.. ذلك الذي قد نجده علي مستوي التقنية القصصية متوفرا إلي حد بعيد في نصوصها القصيرة الثلاث المعنونة ب "ثلاثية البحر" حيث تختلف تقنية الكتابة تماما بعيدا عن إطار الحكاية التقليدية إلي حيث تقطير الحالة التي ربما كانت أو استمرارا لحالات كثيرة داخل نصوص المجموعة التي اتكأت علي الجرح ونكأته، حيث تتكامل النصوص الثلاثة الداخلية في "ثلاثية البحر" في مستويين، الأول: مستوي العناوين المرتبطة ماديا بحالات البحر "مد.. جزر.. غرق"، والمستوي الثاني: علي مستوي المضمون النفسي الذي يحمل تفاصيل حالة مكتملة متسلسلة تؤدي في مجملها إلي حالة الغرق الذي ربما كان ماديا أو معنويا.. تتكيء الكاتبة بداية علي صيغة التشبيه والاستدعاء في بداية المقطع الأول "مد" لتعمل علي تخييل الحالة ووضعها في إطار حكائي (علي العكس من غالبية النصوص) يشكل صورة بصرية خارجية، ونفسية داخلية متكاملة في ذات الآن.. تؤسس لحالة من الحيرة والغموض والوهن والشاعرية، وتشكل عالما خاصا بتلك الشخصية/ النموذج/ الأنثي، يظهر فيه البطل المنتظر من خلال سماته: "كطفلة حائرة ظلت تبحث عنه.. ضلت لو أنه لم يدركها.. ما أن نادي اسمها انتبهت عيناها وركض قلبها صوبه بطفولة عمر ضائع ولهفة شوق أضناه البعد" تعمل اللغة هنا علي صنع عالم خاص وتصير عصبا للنص الذي يمتلك شرعية وجوده من خلال ما تقدمه من رهافة ودقة مفردات ترسم الحالة جيدا مع عملية التخييل والاستعارة التي تبلغ مداها في كل مقطع علي حدة، لتكون نهاية كل مقطع دالة علي إنجاز إحدي تلك المراحل النفسية الحميمة ما يعبر هنا إلي حد كبير عن سمات المد، وإن كان بصورة معنوية أكثر حساسية وشاعرية ودخولا في غمار الحالة الإنسانية: "جلسا علي مسافة سؤال وجواب.. في صمت.. في وجد.. ظل يشاهدها وتشاهده دون النظر لبعضهما.. تآلفا .. امتزجا.. وجدت موطنها داخله" هكذا تكتمل عملية المد/ الاحتواء من خلال التوحد والانغماس، وهذه اللغة المجازية التي أراها استفادت من خبرة التضمين الشعري في نصوص سابقة للكاتبة، وتعتبر من نقاط التجاوز التي تخطو بها الكاتبة نحو التخلص من السمات التقليدية للكتابة علي مستويي الأسلوب، واللغة والتناول، وهو ما يتأكد مع النقلة التالية للنص في حالة "الجزر" بسماته المادية/ الانحسار والبعد التي يوظفها النص هنا معنويا مع نقلي من نقلات الحالة الشعورية التي لا تأخذ من الطبيعة المادية إلا حيزها، أو وجودها كحقل تنبت فيه هذه العلاقة، ولكنها تنطلق في الأثير: "يشيح بنظره صوب البحر.. يقفز قلبها محتجا:"ألا يكفي أننا علي فراق؟!".. ينظر إليها وكأنه سمعها مبتسما بثغره المنمق الدقيق.. تبتسم هي الأخري خجلي.. ينظر كلاهما صوب الغروب.. غربت شمس اليوم كما شمسهما" تتجسد هنا حالة الجزر المرتبطة بالغروب ماديا ومعنويا، بما يسقط علي دلالات العلاقة المتخيلة بين العنصرين هو/ هي.. تلك الإشكالية الأزلية التي تعمق من دلالات اغترابها عن واقعها وغروب هذا الواقع المشترك بينهما، ما يؤدي نهاية إلي حالة الغرق التي تمثل عملية التماهي والانغماس في مدلول البحر/ الحياة/ العشق/ الوجود الذي تلجأ إليه الذات المنغمرة/ المنتحرة فيه: "تلاشي الظمأ حين حلت أميرة علي عرشه بالأعماق.. علي الشاطئ أخذت رياحه تقلب صفحات كتابها بقوة.. تطوي قصة ودت لو ترويها" لتكتمل الحالة النصية اكتمالا علي مستوي اللغة وعلي مستوي التقنية القصصية التي أفادت من الكثير من عناصر الكتابة واللغة التي ربما نقلت الكاتبة من أسر التقليد بخطي حثيثة نحو رحابة التعامل مع الكتابة كمغامرة إبداعية..