للشعر الإيراني، كما الشعر في أي مجتمع آخر، صلةٌ وطيدة بما يطرأ علي الوضع الاجتماعي والسياسي والثقافي في البلد. والشعراء الإيرانيون الكبار أغنياء عن التعريف، من أمثال جلال الدين الرومي، وحافظ الشيرازي، وسعدي الشيرازي، وعمر الخيام، والعطار والفردوسي. وكل هؤلاء الشعراء- ومن سبقهم أو أتي بعدهم- كتبوا القصيدة العمودية بمختلف أنواعها ومضامينها، منذ القرن الثاني للهجرة حتي القرون المتقدمة. وحتي القرن التاسع عشر الميلادي، كان الشعراء في إيران يكتبون قصائدهم في القوالب الكلاسيكية القديمة، والمضامين هي نفسها التي ورثوها عن أسلافهم، من وصف، ومديح، وهجاء، وغزل . بل لا شك أن أولئك الأسلاف كانوا أروع، قياسًا بالأبناء، في المضامين واللغة والصورة الشعرية والخيال . فالعصور الذهبية للشعر الفارسي تمتد من القرن السادس للهجرة حتي القرن الثامن . ومع الثورة الدستورية في إيران، في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، شهدت البلاد تطورات ملحوظة، لا سيما علي الصعيدين السياسي والثقافي؛ ما جعل هذه الحقبة التاريخية نقطة انعطاف في الحياة الإيرانية، ومختلفةً بشكل كبير عن الحقب السابقة كلها. وقد بدأت العلاقات مع الغرب في نهايات حكم القاجار، لا سيما طيلة حكم ناصر الدين شاه القاجاري وابنه مظفر الدين شاه في بدايات القرن العشرين، وتركت أثرًا لا يستهان به علي الأوساط الثقافية والحركات السياسية، التي كانت تطالب بالحرية والعدالة؛ وغيرت من ملامح الشارع الإيراني إلي حدٍّ كبير . فمع بداية الثورة الدستورية "ثورة المشروطة"، اهتم المثقفون الإيرانيون بمكافحة الاستبداد السياسي وديكتاتورية الشاه، وتطلعوا إلي مثل تلك التطورات في المجال الثقافي . وكان تعرُّف الأدباء والكتاب في إيران علي الأدب الأوروبي، وعودة المتعلمين الإيرانيين في الغرب الذين تشبعوا بالثقافة الأوروبية إلي بلادهم، عاملين أساسيين في التحولات والتطورات الأدبية حينها. فكثيرًا ما كان المثقفون يقارنون الثورة الدستورية في إيران بالثورة الفرنسية، ما جعلهم يتطلعون إلي خلق فضاءات جديدة، وتحقيق تطلعات حديثة في إيران، ترافقها شخصيات أدبية وفنية تضاهي الأدباء والفنانين الأوروبيين؛ فضلًا عن رغبة المثقفين الإيرانيين في الاطلاع علي الأدب الأوروبي، لا سيما الأدب الفرنسي، ما أدي إلي ترجمة الكثير من أعمال الأدباء الفرنسيين إلي الفارسية، من أمثال ألفونس دي لامارتين، وجان جاك روسو، وشاتوبريان، وفيكتور هوجو، وغيرهم . في مثل هذه الظروف، لمع نجم عميد الشعر الفارسي الحديث نيما يوشيج، الذي شهد- منذ مراهقته وشبابه- أحداثًا سياسية واجتماعية مهمة، أخذت تعصف بالبلاد. ولد نيما عام 1895 في قرية "يوش" التابعة لمدينة "نور" شمال إيران، وفي الثانية عشرة انتقل إلي طهران برفقة عائلته، وهناك تعلم اللغة الفرنسية، وبدأ كتابة الشعر . نشر نيما- عام 1921- قصيدته الطويلة "القصة الشاحبة"، في أسبوعية أدبية معروفة (وكان قد كتب تلك القصيدة قبلها بعام، وخرج فيها علي القوالب الكلاسيكية في الشعر الفارسي، ما جعل كثيرين من الشعراء الكبار في إيران آنذاك يسخرون منه، ويعارضون كتابته الشعرية). أما ثورته الكبري في الشعر، فبدأت خلال العامين 1937 و1938 وتجلت في قصيدتيه "العنقاء" و"الغراب". بعد ذلك، وبنشره قصائد حديثة أخري أهمها قصيدته المطولة "أفسانه"، استطاع نيما يوشيج أن يخرج علي الأطر والقوالب الشعرية التي حكمت الشعر الفارسي لألف عام، وكانت تبدو بديهية ومقدسة. وما قام به نيما من خروج علي الأوزان والمعايير كان أشبه بما قامت به نازك الملائكة وبدر شاكر السياب في الشعر العربي، ولكن قبلهما بعقد من الزمن، وما قدمه وكتبه كان نظيرًا لشعر التفعيلة؛ فلم يكن شعره فاقدا للأوزان العروضية، بل اقترح أن يتغير عدد التفعيلات وطول الأبيات والأشطر الشعرية، وتكون القافية بين حاضرة تارةً وغائبة تارةً أخري في القصيدة، تمامًا كما حدث في العراق منتصف أربعينيات القرن الماضي . أما الأمر الآخر الذي لابد من الانتباه إليه، في ما يخص ثورة نيما في الشعر، التي تركت أثرها البالغ علي مَن أتي بعده من الشعراء، فيتعلق بالمواضيع والمفاهيم التي أدخلها إلي الشعر الفارسي، ونظرته المتميزة بثوريتها واختلافها، إلي المجتمع والمحيط . فمنذ قصيدة "أفسانه" التي اعتُبرت البيان الأساسي للشعر النيمائي، وفي المقدمة النظرية التي كتبها الشاعر لهذه القصيدة، اقترب نيما من تصوف جديد ملموس وواقعي في الحب، مبتعدًا عن النظرة الصوفية القديمة والقدسية في الحب . وإلي جانب ذلك، فلم يغفل أبدًا عما يحدث في المجتمع . ومن جهة أخري، بدت نظرته الشاعرية للأشياء وعلاقته العاطفية المباشرة بها متميزة، وغير مسبوقة في نصوص أسلافه الشعراء . ويطلق نيما العنان لخياله الشعري في أسلوب قريب من السرد المسرحي، ويعكس خيباته في الحب والحياة، معبرًا- بشكل أو بآخر، وبطريقة لطيفة- عن مصير المجتمع وأوضاع عصره . لقد حاول نيما أن يغير من النظرة التقليدية التي سادت المراحل المتأخرة من الشعر الفارسي. وقد عصف التغيير بالمفاهيم الشعرية الراسخة، وهو ما قاده، عمليا، إلي تغيير الشكل وتحرير القالب من القيود والأوزان القديمة . هكذا انتزعت طريقة نيما في الشعر مكانتها في الشعر الإيراني وبين مجتمع الشعراء، وسرعان ما شغلت حيزًا أساسيًّا في الكتابة الشعرية في إيران، واعتبرت المحطة التي انطلقت منها حركة الشعر الفارسي الحديث، وتفرعت منها حركات شعرية مهمة، أهمها الحركة التي سُمِّيت ب"الشعر الأبيض"، وتعادل "قصيدة النثر" في الشعر العربي الحديث . فما بدأه نيما من تغييرات بلغ قمته في أعمال الشعراء الذين ظهروا بعده، وشكلوا المشهد الشعري الإيراني الحديث، ومن أهمهم "أحمد شاملو"، والشاعرة "فروغ فرُّخ زاد"، و"مهدي أخوان ثالث"، و"سهراب سِبِهري"، و"منوتشهْر آتَشي"، ويُعتبرون جميعًا الجيل الشعري التالي علي نيما يوشيج، وغالبًا ما يسمونهم "تلامذة نيما" . ومع أن بعضًا من أتباع نيما، أمثال سِبِهري وأخَوان ثالث، قد التزموا بقصيدة التفعيلة، أو ما سُمِّي ب"الشعر النيمائي"، إلا أن شعراء آخرين- أمثال أحمد شاملو وفروغ فرُّخ زاد- كتبوا قصيدة النثر، وأبدعوا فيها، وتحولوا إلي أسماء لامعة في سماء الشعر الفارسي المعاصر . لم يقتصر المشروع الشعري- لدي هؤلاء الشعراء- علي الإبداع في القالب، والخروج حتي علي الأوزان والأشكال النيمائية، بل وسَّعوا من آفاق شعرهم وعوالمهم الشعرية ونظرتهم إلي الكون والحياة . فهذه فروغ، وقد أصبحت علامة بارزة علي صعيد الشعر العالمي، وأثرت رصيد الشعر الفارسي الحديث، من حيث الشكل والمفاهيم الإنسانية، بشعرها الذي يمتلك كل مقوِّمات الشعر الحديث من معني ونظرة وأسلوب. وهذا شاملو، الذي أصبح في إيران رمزًا لشعر الحبّ والحرية والإنسان، وقد أغني الشعر الفارسيّ بقصائد يمكن وضعها بمحاذاة نصوص كبار شعراء العالم . وقد التقي شاملو ب نيما يوشيج عام 1946، وكتب قصيدة التفعيلة متأثرًا به، واستمر هكذا إلي أن أطلق نفسه من حصار الأوزان وكتب أولي قصائده المنثورة عام 1950، تحت عنوان "حتي زهرة حمراء في قميصٍ ما"، التي نشرت آنذاك تحت عنوان "قصيدة الغفران البيضاء" . وبذلك أسس لأسلوب جديد في الشعر الفارسي؛ وهو الذي تعادله قصيدة النثر في العربية، فأصبح من أهمّ رواد هذا النمط الشعري، حتي أن ثمة من أطلق علي هذه القصيدة، "القصيدة الشاملوئية" . وقد أثَّرت لغته وعالمه الشعريان علي الأجيال الشعرية التي تلته، لا سيما بلغته ومفرداته الرصينة والفخمة التي دخلت حتي فضاءاته الغزلية بشكل إبداعي رائع . كما أن هناك من الشعراء والنقاد مَن يعتقد أن تأثير شاملو علي الشعر الفارسيّ يلاحظ اليوم أكبر من تأثير نيما يوشيج . ولا تكمن أهمية شاملو في الشعر الإيرانيّ بكونه شاعرًا وحسب، إنما قام شاملو بترجمة وتقديم كثيرين من الشعراء والكتَّاب العالميين إلي الفارسية، ومنهم لوركا، ولانجستون هيوز، وأنطوان دو سانت إيكسبيري، الذي ترجم له روايته الشهيرة "الأمير الصغير"؛ ورغم الترجمات الكثيرة التي تمت بعد ذلك لنفس الرواية، إلا أن ترجمة شاملو ما تزال هي المقروءة، وهي الأجمل . كان شاملو صحفيًّا وكاتبًا وباحثًا ومؤلفًا لموسوعة مهمة في اللغة الفارسية، تضم المفردات والمصطلحات العامية والموروث الفولكلوري في مختلف أنحاء إيران، وقد أسمي هذه الموسوعة ب"كتاب كوتشه"، أي "كتاب الزقاق" . وإلي جانب ذلك كله، كان شاملو ناشطًا سياسيًّا يساريًّا، وواجه الكثير، بعد الانقلاب الذي حصل عام 1953 في إيران، وأدي إلي سقوط دولة "الدكتور مصدق"، الذي كان ينادي بمبادئ الاستقلال والحرية في إيران، وتأميم النفط وخروجه من يد الأجانب؛ اذ تلت هذا الانقلاب اعتراضات واسعة في البلاد، واعتقالات كثيرة . فسُجن شاملو، وفقد خلال تلك السنوات كثيرًا من أعماله المترجمة أو المؤلفة، إثر تفتيش بيته وسوقه نحو السجن. لكنه في السجن أيضًا عكف علي كتابة قصة طويلة ضاعت في انتقاله من سجن إلي آخر . كما بدأ بالبحث والدراسة لكتاب "الشاهنامه"، الملحمة الشعرية الإيرانية التي كتبها الفردوسي في القرن الرابع للهجرة .