خطاب من شخص ما غير معروف، يتم توجيهه كما سمعنا إلى وزارة المالية المصرية يطلب بكل وضوح بحث فكرة طرح الآثار المصرية فى مزاد علنى للشركات العالمية للحصول على حق الانتفاع والتصرف فى الأهرامات وأبوالهول ومعابد الأقصر وأبوسمبل لعدد من السنين، وبما قد يحقق مبلغ 200 مليار دولار.. يا بلاش! إلى هنا والأمر عادى.. المجانين كتير ولا يستطيع أى إنسان مهما كان أن يمنع أى شخص من كتابة خطاب يوجهه إلى من يشاء ويقول فيه ما يشاء! أما المصيبة فهى فى المتلقى وليس المرسل، حيث قامت وزارة المالية بتحويل الخطاب إلى وزارة الآثار لأخذ الرأى ولبحث ما يمكن عمله، خاصة أن وزارة الآثار أصبحت تعتمد على وزارة المالية فى توفير مرتبات موظفيها بعد أن كانت تمول نفسها ذاتيا من دخل المناطق الأثرية والمتاحف، ويصل الخطاب إلى وزارة الآثار، وبدلا من أن يلقى فى سلة المهملات وهو التصرف الطبيعى من أى مسؤول يعرف مسؤوليات العمل العام وكيف يدير وزارته أو هيئته، للأسف الشديد يبدأ البحث فى الخطاب، بل تحويله إلى القانونيين لأخذ الرأى القانونى، وعندما وصل الرأى القانونى بالرفض لمخالفته الصريحة للقانون، بعدها ولكى تكتمل المسرحية الهزلية تتم مناقشة الخطاب فى مجلس إدارة المجلس الأعلى للآثار، ويتم الرفض بناء على رأى المستشار القانونى! أكاد أجزم أن من أرسل هذا الخطاب لا ينوب عن أى دولة، وأن ما تناولته الصحف من أن دولة قطر وراء هذا الخطاب هو تخمين خاطئ، فلو أن قطر ترغب فى إدارة تراثنا الحضارى عنا، وهو الجنون بعينه، فلن ترسل خطابا إلى وزارة المالية، وإنما ستكون هنا وفود لجس النبض، ثم المباحثات يعقبها المفاوضات المغلقة، وفى كل الأحوال سيتم رفض المقترح أو المشروع لسبب بسيط، وهو أننا كجيل على قيد الحياة مسؤولون فقط عن الحفاظ على هذا التراث وإدارته بالطريقة المثلى لكى يصل إلى الأجيال القادمة، نحن لا نملك الآثار وإنما هى ملك لمصر ما دامت مصر على الخريطة، ولن نبيع ونشترى فى الآثار.. كان يجب على المسؤول الذى وصله خطاب العار أن يلقى به إلى سلة المهملات، لا أن يحال إلى مستشار قانونى ثم يناقش فى مجلس إدارة.. عيب! إن رقم ال200 مليار دولار رقم خرافى لا يمكن تصديقه بحال من الأحوال لسبب بسيط، وهو أن مجمل دخل الآثار فى ذروة الانتعاش السياحى لمصر هو مليار جنيه مصرى سنويا! أى أقل من 200 مليون دولار، ولقد حقق معرض توت عنخ آمون فى ست سنوات 120 مليون دولار بعد أن كانت المعارض لا تدر دخلا وتخرج بحجة الترويج السياحى لمصر، خلاصة القول إنه من المستحيل علميا وحسابيا تحقيق 200 مليار دولار من دخل المناطق والمتاحف لا فى خمس أو حتى عشر سنين، إلا إذا كان هذا الشخص مقدم الخطاب ينوى بيع حجارة الهرم! ليست هذه هى المرة الأولى التى تأتى فيها خطابات كهذا الخطاب، حيث هناك الملايين من المهوسين بآثار مصر الفرعونية يقومون بإرسال مثل هذه الخطابات، وبصفة شبه يومية تكشف عن هوسهم وولعهم بالفراعنة لدرجة أن أحدهم يؤمن أنه هو الملك خوفو ويطلب تسليمه هرم الملك خوفو أو الهرم الأكبر، وهناك سيدة إيطالية تأتى شهريا إلى الأقصر وتل العمارنة وتدعى أنها نفرتيتى وتطالب بمعبد الكرنك أو الجزء الخاص بزوجها الملك إخناتون، وكذلك تطالب بمدينة تل العمارنة التى عاشت بها نفرتيتى الحقيقية مع زوجها وبناتها الست، هذه الخطابات كانت تصلنى بصفة دورية من مجانين الآثار وهناك تعبير إنجليزى معروف باسم Egyptomania أى عشق أو الجنون بالآثار المصرية القديمة. ولا يزال الخطاب الأكثر أهمية والذى وصلنى هو ذلك الخطاب الذى أرسله مواطن أمريكى مقيم بكاليفورنيا يطلب فيه تأجير الهرم نظير ما نحدده من ملايين الدولارات فى حين أن المؤكد أنه شخص عاطل، وربما لا يمتلك مليما واحدا، وقد حدث خلال حكم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر أن طلبت إحدى الشركات الكندية أن تقيم مشروع قرية سياحية وسكنية إلى الجنوب مباشرة من الأهرامات، وتم فعلا التعاقد الرسمى مع الشركة من قبل وزارة السياحة وموافقة مجلس الوزراء، وقد وقف العديد من المثقفين ضد هذا المشروع وعلى رأسهم د. نعمات فؤاد، وعرف المشروع باسم مشروع هضبة الأهرام، وقد قمنا بوقف المشروع بعد أن تم العثور على آثار، ويومها قلنا إنه حتى لو دفعت الشركة كل كنوز الدنيا فلا يمكن استمرار هذ المشروع الذى يؤذى ويلوث الهرم بصريا، كذلك وقفت يوم أن كنت مسؤولا عن أهرامات الجيزة وسقارة ضد مشروع استكمال وصلة الطريق الدائرى التى كان مخططا لها أن تشق جبان منف، العاصمة المصرية القديمة، وذلك على الرغم من أن الجميع كان موافقا على المشرع، ومنهم د. عبدالحليم نور الدين، الذى كان يرأس فى ذلك الوقت المجلس الأعلى للآثار، ومن أشد المتحمسين لإتمام المشروع رغم خطورته على التراث الحضارى المصرى! واستطعت مع نخبة من المثقفين الغيورين على تراثنا وقف الوصلة والحفاظ على هضبة الأهرامات. كانت هيئة الآثار لا تزال تبيع الآثار المكررة فى صالة داخل المتحف المصرى، وذلك فى عهد الرئيس جمال عبدالناصر، وقد استغلت إسرائيل هذا الموضوع للتشهير بمصر والقول بأن مصر تتاجر فى آثارها، وأن هذا مثل الذى يتاجر فى عرضه، وقرر عبدالناصر وقف بيع الآثار المكررة فورا لأن الموضوع أصبح يمس الكرامة المصرية. لابد من محاسبة كل يد شاركت فى هذا العبث وناقشت هذا الخطاب الذى كشف لنا ما يمكن أن يصيبنا طالما أن هؤلاء هم مسؤولونا الذين يحمون تراثنا.. لك الله يا مصر.