عجبا لتلك المدينة التى تغنى لها جميع الشعراء، وتسكعوا فيها، عجبا لها ولحالها الذى تبدل كثيرا، القاهرة التى كان يتسكع فيها أمل دنقل، وكتب كثيرا عنها، وقال عنها أحمد عبد المعطى حجازى إنها مدينة بلا قلب، وسهر على مقاهيها المبدعون، وأبدع سيد مكاوى وصلاح جاهين رائعتهم "الليلة الكبيرة"، والتى كانت ملحمة حقيقية سجلاها بعد زيارتهم لمولد السيدة زينب.. وتغنى فيها عبد المطلب لحبيبته "ساكن فى حى السيدة وحبيبى ساكن فى الحسين". وتغزل فيها عمنا نجيب محفوظ فى روائعه التى تخلب العقل، إنها القاهرة العاهرة الساحرة، كما وصفها عمنا سيد حجاب، القاهره الآن كما نراها عام 2011 قاهرة أخرى جميلة بعض الشىء، ولكن الزحام يكاد يخنقها، ويشوه هذا الجمال الحقيقى فيها، فالنتخيل يوما فى حياة مواطن قاهرى عام 2011 وماذا سيحدث له. يصحو حسين وهو موظف فى مجمع المحاكم بالتحرير، وبداخله ازدحام بالأفكار والتساؤلات، هل سيأتى الأتوبيس فى موعده، أم سيتاخر كثيرا كعادته اليومية، يغسل وجهه، بينما تقوم زوجته بإعداد الإفطار له ولابنهم. وبعد الانتهاء من إفطارهم جميعا، ويتوجه الأب إلى العمل، بينما تمسك الأم يد ابنها ذاهبة به إلى مدرسته لتوصله ككل يوم الأب مازال منتظرا الأتوبيس ناظرا فى ساعته خائفا من التأخير عن العمل، وتوبيخ مديره له. ككل يوم ويتمتم بينه وبين نفسه "طب انا ذنبى ايه بس ياربى اعمل ايه ف الزحام الفظيع دا"، بينما الأم تركب الميكروباص لتوصل ابنها إلى مدرسته، هاهو الأتوبيس ياتى قادما من بعيد والكل يتسابق نحو صعوده، لأن معظمهم موظفون أيضا، يجرى الأب ع الأتوبيس، بينما امرأة عجوز تحاول الصعود، لكنها تفشل ولا يمد لها أحد يد العون، يمشى الأتوبيس ببطء شديد، وكل راكب ينظر فى ساعته، بينما الكمسارى ينادى فيهم (لو سمحتم يا جماعه وسعو شويه ورا الاتوبيس فاضى قدام)، بينما الأتوبيس يكاد ينفجر من الزحام زحام بالخارج والداخل، أيضا الطريق متوقف، والكل يتصبب عرقا، وفى الخط المقابل، وبجوار الأتوبيس يركب أحد الشباب حديثو التخرج مرتديا بدلته الحديثة تاكسى، حيث إنه متوجه إلى إحدى الشركات لمقابلة المسئولين فيها لعمل (إنتر فيو) للالتحاق بالشركة، وكل لحظات ينظر إلى الساعه الخاصة به قائلا: "مش معقول الطريق واقف بشكل غير عادى، أنا مش عارف أعمل ايه بجد ميعادى هيروح عليا كده شد حيلك والنبى يا اسطى شويه". الأسطى.. مش ذنبى يا أستاذ والله الطريق واقفة بشكل فظيع، إنت أهو شايف الأتوبيسات مليانه اد ايه والناس واقفة اد ايه، واللى رايح شغله، واللى رايح مدرسته وجامعته إحنا أكتر من 17 مليون كل يوم فى القاهرة. الكمسارى مازال ينادى فى الركاب كأنه بغبغان "يا جماعة لو سمحتو وسعو لقدام الأتوبيس فاضى خلو غيركم يركب"، والركاب فى ضيق يمتثلون لأوامره، والطريق مازال مزدحما بشكل غير عادى، والكل ينظر فى ساعته تزاحمه أفكار كثيرة. الشاب مازال يرجو من السائق بخوف وقلق أن يزيد من سرعته، حتى يلحق ميعاد الاختبار الخاص به، إنها أمنية حياته التى كان ينتظرها منذ تخرجة تلك الوظيفة. وفى الطريق المزدحم يقف الأتوبيس والتاكسى، وكل السيارات بجوارهم تمر دقائق بدون حركة، تمر ربع ساعة، فنصف ساعة، إلى أن يعرف الركاب أن هناك حادثة على الطريق اصطدام سيارتين ببعض يقوم أحد الأشخاص الذين شاهدوا الحادث بالاتصال بالأسعاف، فتأتى الإسعاف مطلقة صفارة الأنظار الشهيرة، لتقوم السيارات بالتوسيع لها، ولكن دون جدوى الطريق مزدحم بشكل خانق، والمصاب يحتضر منتظرا قدوم الإسعاف، بينما يقوم أحد الأشخاص كل ثانية بالاتصال بسائقها لاستعجاله لإنقاذ المصاب "بسرعة أرجوك المصاب بجد بيموت إحنا مش عارفين نعمل ايه مش عارفين نتصرف ازاى ارجوك سرع شوية". فيجيبه سائق الإسعاف "والله أنا ماشى سريع وبحاول أتفادى العربيات بشكل جنونى، بس اعمل ايه ف الزحام المرعب، دا انا بجد مش عارف اعمل ايه اكتر من حاله مصابه للأسف بسبب الزحام مش بنقدر ننقذها" تحاول الإسعاف اختراق صفوف السيارات الكثيرة، ولكن الزحام يعقوق أية محاولة اختراق يقوم بها. "سماح" رسامة كاركتير تذهب يوميا إلى الجريدة التى تعمل بها فى وسط البلد، تقطن ف الهرم تستقل ميكروباصا للذهاب إلى الجريدة، يعوقها أيضا الزحام تنظر فى ساعتها أيضا ككل المتأخرين عن مواعيدهم بسبب الزحام. تدور فى رأسها أكثر من فكرة كاركتير عن الزحام ومعوقاته، فتخرج قلما رصاصا وبضع أوراق بيضاء، وترسم بعض الرسومات الكاركاترية التى طرأت فى رأسها فى تلك اللحظة العصيبة، ومنها تضيع وقتها بدلا من الإحساس بالملل، وأيضا تمارس هوايتها فى الرسم الكاريكاترى ترسم بقلمها أكثر من رسمة معبرة عن الزحام الرهيب فى القاهرة. "أستاذ محسن" مدير عام فى إحدى الشركات يركب عربة اثنين كابينة حديثة، بجوار السائق ذاهبا إلى عمله، ويعانى من نفس المعاناة التى يعانيها غيره، وينظر أيضا فى ساعته، نظرا لأن اليوم وكيل الوزارة سيزور موقع العمل، ويجب أن يكون قبله فى الموقع لتظبيط بعض الأمور ويصيبه القلق والخوف من التأخير بسبب الزحام الرهيب. يصل الأب إلى عمله فى مجمع التحرير بعد طول عناء، ولكنه يصل متأخرا، ويسمع نفس كلمات التوبيخ من رئيسه فى العمل. ويصل الشاب إلى الشركة لعمل "الإنتر فيو"، فيجدهم فى الشركة تخطوه، حيث انتظروه أكثر من ساعتين لعمل الاختبار، ولم يأت فتصيبه خيبة أمل وانكسار، ويلعن تلك الزحمة التى أضاعت حقه فى الاختبار وألغت آدميته بشكل كبير. سيارة الإسعاف تواصل السير لتنقذ المريض، وبعد ساعتين أو أكثر تصل، فتجد أن بعض الأشخاص أخدوا المصاب إلى أحد المستشفيات، ولكنهم حملوه خطأ، فزودوا نزيف جرحه ومات فى طريقه إلى المستشفى.. فيصاب سائق الإسعاف بخيبة أمل كبيرة، قائلا "لعنة الله ع الزحام اللى بيخلى الواحد مكتوف اليد ومش عارف ينقذ حد بشكل كويس" أمل سماح رسامة الكاركتير استطاعت أن ترسم معاناتها داخل الميكروباص، ووسط الزحام ببعض الرسومات الكاركاتيرية الجميله، وما إن تصل إلى الجريدة، تذهب مباشرة إلى زملائها، قائلة لهم "شفتوا المعاناة اللى عانتها النهارده من الزحام مش ممكن شىء صعب جدا الرسومات دى هى اللى هتشرح المعاناة الكبيرة اللى عانتها". أما الأم فتصل إلى مدرسة ابنها متأخرة أيضا، فتجد أن الجرس ضرب والتلاميذ دخلوا فصولهم، فتذهب لناظرة المدرسة متأسفة لها عن التاخير فتقول لها الناظرة "معلش أنا مقدره تاخيرك دا انا نفسى بعانى كل يوم بسبب الزحمه الكبيره ف البلد". أما محسن فيصل إلى موقع العمل متأخرا، فيسمع كلمات توبيخ من وكيل الوزارة له عن تأخيره قائلا له "المفروض تكون أول واحد ف الموقع هنا الشغل مينفعش يمشى من غير مسئول يكون على رأس العمال". تمر ساعات على الأب فى العمل، ويواجه نفس المصير فى العودة إلى البيت، ولكن الفارق هنا أنه ليس هناك أحد سيحاسبه على عودته متأخرا، ويركب نفس الأتوبيس وكأنه فى ساقية لا تنتهى. وسماح تواصل عملها إلى آخر النهار مستغرقة فى رسم الكاركتير والشاب يعود فى نفس اللحظة التى وجد فيها أن فرصته فى الاختبار ضاعت، وأستاذ محسن يواصل إطلاق لعناته على العاملين معه فى الموقع، وتكديرهم، وسائق الإسعاف يواصل عمله لإنقاذ مريض آخر، متمنيا أن يلحقه تلك المرة قبل أن يموت أو تحدث له مضاعفات كبيرة. الأب والأم والابن يقررون بعد العودة إلى البيت، وتناول الغذاء والنوم بضع ساعات قليلة، أن يخرجوا إلى الكورنيش للتنزه بعد عناء اليوم الرهيب، فيركبون ميكروباصا تلك المرة، حيث إنها فسحو وليس عمل، لكنهم يمرون بنفس الزحام، إذ إنهم يجدون من أنفسهم نسخاً كثيرة مكررة عانت مثلهم فى الصباح، بسبب الزحام، وتريد الخروج لتشم الهواء، فتستقبل السيارات بشتى أنواعها، مسبيين زحاما كبيرا أيضا وكأنه دائرة، لا تنتهى من المعاناة يصل الأب والأم والابن إلى الكورنيش بعد أكثر من ساعتين مواصلات، واجهوا فيها ضغطا كبيرا رغم أنهم خرجوا أصلا للترويح عن أنفسهم، ولكنه الزحام المسبب لمعظم أمراض الضغط والعصبية.. وبعد بضع ساعات يقضونها على الكورنيش، يعودون إلى بيتهم مستقلين ميكروباصا ليواجهوا نفس المعاناة، حيث إن الآخرين أيضا عائدون فى نفس التوقيت، وكأنهم أخذوا إشارة الرحيل بصفارة واحدة، مواجهات ومواقف يراوها فى الطريق، وبعد بضع ساعات يصلون إلى البيت منهكى القوى. بعد يوم عصيب ضاع أكثر من نصفه فى المواصلات والزحام، فيضعون رأسهم على المخدة ليناموا، بينما هم مستغرقون فى النوم يقوم المنبه بالتنبيه، إنها السادسة صباحا هيا إلى العمل لمواصلة معاناة كل يوم.