كان والدى عالما من علماء الأزهر الشريف، سافر بلدانا عربية وأفريقية ليدرس للناس تعاليم الدين الحنيف وسماحة الإسلام. كان من ذلك النوع الذى يتفانى فى فهم دينه ولا ينسى حظه من الدنيا، فيومه مقسم بين طلاب العلم وقراءة الكتب ورعاية البيت، ولا بأس أن يشاهد إحدى مباريات المصارعة الحرة، وربما تجده يطرب لسماع بيت من الشعر تغنيه أم كلثوم، ولا يتحرج أن يشرح لنا أوجه البلاغة فى ذلك البيت، فإذا ما جن الليل، تسمع صوت أنين بكائه المكتوم وهو قائم ليله يناجى ربه سراً. وفى أوائل الثمانينات كان بشارعنا "أجزخانتان"، إحداهما مملوكة للدكتور "صبرى" المسلم، والأخرى للدكتور "رمزى" المسيحى، ولا يفصل بين الاثنتين سوى عشرة أمتار هى عرض الشارع، حيث إن كلتيهما متواجهتان تميز الأولى بلوحة "بسم الله" التى توضع بالمدخل، بينما صورة العذراء على الواجهة الأخرى، وكان "عمو صبرى" و"عمو رمزى" من ذلك النوع من الأصدقاء، الضاحكين، المتشاكسين والمتنافسين دائما أبدا فهما فى قمة الاختلاف، أحدهما مسلم والآخر مسيحى، أحدهما أهلاوى والآخر زملكاوى، واحد صعيدى والآخر بحراوى، باختصار هما دائما طرفا نقيض! وكانا يتباريان فى اجتذاب الأطفال للشراء من أحدهما دون الآخر، فيبتكران صنوفا من الإغراءات، فأحدهما يقدم للصغيرات تلك "العينات" الصغيرة من العطور التى تأتى للدعاية والآخر يحرص على إعطاء حبات "البنبون" المنعشة، أو ما كنا نطلق عليه وقتها "الباستيليا"! ولاشك أنى كنت أجد متعة خاصة فى التعامل مع كليهما فعلاوة على كونى أحد الصغار، إلا أنى أيضا ابنة صديقهما الحميم، ولذلك فقد كنت أعامل معاملة الأميرات، وكنت أحبهما حبا جما لا أفرق بينهما. وكان "المشوار" الوحيد المسموح لى به، وأنا فى تلك السن الصغيرة، هو "الأجزخانة" لأنى أستطيع رؤية منزلى من هناك، وأعرف كيف أعود وحدي. فكان أبى يعطينى النقود وقائمة المشتروات، ولا يحدد لى اسما أذهب اليه، فأختار من يحلو لى من كليهما، إما هذا وإما ذاك، وكانا يتباريان فى اختطافى من بعضهما حين يريانى، فيخرج أحدهما لسانه للآخر، وكأنه حظى بفوز ثمين، وكثيرا ما سمعت أحدهما يتوعد الآخر "والله يارمزى لأفتح الصيدلية 24 ساعة يوم الأحد وانت ف الكنيسة وأقش كل زباينك"، فيرد الآخر متعهدا بفعل مثله يوم الجمعة فينتهى الحال بفتح كليهما لصيدليته يومى الأحد والجمعة لإحباط مخطط الآخر، وكانت ضحكات أبى تعلو فى منزلنا على شجاراتهما اليومية وطرائفهما التى لا تنتهى، وكان دائما الحكم فيما شجر بينهما، و"صالون" منزلنا هو قاعة المحكمة التى يحكم فيها على هذا أو ذاك، ويخرجان راضيين بالحكم بعد تناول العشاء وتبادل النكات وذراعيهما متشابكان. وعندما بلغت التاسعة، قال لى "عمو صبرى" مازحا أمام صديقه القبطى اللدود: "أصلا انت لازم تيجى تشترى منى على طول عشان احنا مسلمين زى بعض أما ده فمسيحى، حرام تشترى منه خللى قرايبه يشتروا منه حتى اسألى بابا كده، حيقولك آه"، ولم ألحظ بسمات السخرية فى عينى كليهما، ونقلت السؤال كما ينبغى لأبى "بابا هوا حرام نشترى من عمو رمزى عشان هوا مسيحى؟"، وكانت المرة الأولى التى أنطق فيها هذا التعبير فى منزلنا، ولمحت الغضب لأول مرة يطل من عينى أبى، وبعد لحظات مرت بطيئة كئيبة من نظرة العتاب التى ألقى بسهامها إلى، قال فى نبرة بطيئة عنى فيها أن يتكئ على مخارج ألفاظه، حتى لا أنسى حرفا منها، بعد أن ظن أن هذا هو استنتاج بحت منى وليس مقلبا: "إن الله يبعث الرزق لعباده من كل الملل، ولا يبخل على أحد من عباده، وما نحن إلا وسيلة لإيصال الرزق لأصحابه، فأين أنت من كرم الله لتحجبى رزقه عن خلقه؟!" وصمت أبى لا يكلمنى ثلاثا حتى "تعلمت الأدب"! وبعد شهور قليلة، مرض أبى فجأة، وبرغم كل محاولات الإخفاء، إلا أن شيئأ حدثنى أن النهاية قد حانت. وأخذوا أبى إلى مسقط رأسه وتركونى عند الجيران، ولم أفهم لماذا إلى أن لاحظت أن "الأخزخانتين" مغلقتان للمرة الأولى، ولمدة ثلاثة أيام، فتيقنت من موت أبى! ذاك أن كلا الصديقين كانا يقفان على قبره، يبكى كل منهما على كتف الآخر لوعة على الصديق الذى رحل فجأة، وما ترك إلا حباً وسماحة. وفى زمن "الإخوان المسلمون" و"الإخوان المسيحيون"، وفى زمن إحراق القرى لاحتراق القميص، تذكرت ما مضى. فترحمت على أبى وعلى زمانه الجميل!