عنوان هذا المقال كان سؤالاً عاديًا جدًا لأبناء جيلي، كان من المألوف أن يطرحه أحدهم على صديقه الجديد عند بداية التعارف؛ لأسباب كثيرة أهمها: مراعاة أن بعض الأحاديث بين المسلمين لا يصح طرحها أمام صديق مسيحي، أو أخرى يحرص المسيحيون على عدم طرحها أمام رفاقهم المسلمين، وهي أحاديث تتعلق غالبًا بالعقيدة نفسها، والحرص على تجنب طرحها -في سن الطفولة وضعف الخبرة- أمر صحي للعلاقات الاجتماعية، فلكل دين خصوصياته التي يتعارض بعضها مع الدين الآخر، وهذا أمر واقع تمكّنت الغالبية العظمى من المسلمين والمسيحيين من تقبّله وتفهّمه عبر قرون من التعايش المشترك في مصر وغيرها. المشكلة أن "التغني" بهذا التعايش والتفاهم قد كثر مؤخرًا، وهي في مصر علامة غير صحية! نعم، فنحن بالذات شعب يحب التغطية على خيبته في القيام بإنجازاته بأن يغني لتلك الإنجازات، وكلما كانت الخيبة أثقل كان التغني أكثر كثافة، الأمر الذي يجعلني لا أطمئن كثيرًا لتلك الكثافة المريبة للحديث عن الإخاء بين المسلمين والمسيحيين في مصر، أو الهتاف المادي والمعنوي للوحدة الوطنية سواء بالمقالات أو الأعمال الفنية أو الخطاب الرسمي الذي تعتبر نسبة كبيرة من المصريين أنه ليس بالمصداقية المطلوبة. أنا لا أقول إن مصر لا توجد بها وحدة وطنية، ولكني أنبه؛ لأن تلك الوحدة في خطر، فمع احترامي لكل السياسيين ورجال الثقافة الذين يؤكدون على خلوّ مصر من أبسط مظاهر الفتنة الطائفية، أنا أعترض، فالمقياس عندي ليس في اجتماعات قداسة البابا بفضيلة الإمام الأكبر، ولا في الإفطارات الرسمية الرمضانية للوحدة الوطنية، ولا في فيلم يتحدث عن علاقة المسلم بالمسيحي، ولا في التهاني المتبادلة رسميًا. المقياس عندي فيما أسمع من رجل الشارع العادي، وفيما ألمس من سلوك الفرد متوسط الثقافة خلال تعامله اليومي مع محيطه، فهؤلاء "ملح المجتمع" وهم من يحددون مساره! وللأسف فإن الثقافة الشعبية قد تم غزوها بأفكار غريبة تنخر كالسوس في بنيان الوحدة الوطنية الذي تم بناؤه خلال قرون طويلة، وهو سوس بطيء في نخره لكنه يُمارس عمله المدمر بثقة واطمئنان، ولا ألف بيان رسمي ولا مائة إفطار وحدة وطنية ولا عشرات الأفلام -مثل "حسن ومرقص"- قادرة على ردعه ما لم يتم الاعتراف بوجوده! وعلى سيرة فيلم "حسن ومرقص" ألم يوجد فيلم قديم باسم "حسن ومرقص وكوهين" قبل أن يُنتَج بعده بعقود "حسن ومرقص"؟ أعتقد أن هذا مؤشر غير مطمئن لإمكانية أن يأتي يوم ما يشاهد فيه أحفادنا فيلمًا بعنوان "حسن" أو آخر بعنوان "مرقص" لو استمرت سياسية دفن الرأس في الرمال والتعامي عن أن من يريد أن يرمم جدار الوحدة الوطنية المصرية، فعليه أن ينزل لأسفله وينظر أين ثغراته وشروخه! ولنعترف أن كلا من العنصرين -المسلم والمسيحي- يتحمل جزءه من المسئولية عن تلك الشروخ، ولنعترف أيضًا أن كليهما -المثقفون منهم تحديدًا- يعلم بعض أو كل ما يقول عليه الآخر، ولكنني هنا سأتطرق كمسلم فقط لما أرى أنه مسئولية القسم المسلم من المصريين عن الأمر، وهذا احترامًا للخصوصيات. وأرجو أن يتفضل أي أخ مسيحي يشاركني وجهة النظر العامة في وجود "خطر يتهدد وحدتنا" بأن يعرض ما يرى جانبه مسئولا عنه. نعم.. سأتحدث كمسلم عما ألمس من أفكار خاطئة هدّامة لدى بني ديني، وسأترك للأخ المسيحي فعل المثل مع بني دينه، وهذا لإيماني بأن على كل منا أن يقوم شاهدًا على نفسه لو كنا نرغب لأنفسنا في الصلاح! ولكني أنبه القارئ -بالذات المسيحي- إلى أن تلك الأفكار لا تعبّر عن الموقف المسلم العام، فما زال أصحابها أقلية، لكن من قال إن الأقليات لا تمثل خطرًا؟ ثم إن المثل الشعبي معروف "الغجرية سيدة جارتها" وهم قلة لكنهم يشوّشون على صوت الأغلبية العاقلة الناضجة. "بيقول لك.. عدوك عدو دينك!" كم مرة سمعت -عزيزي القارئ- هذه العبارة؟ للأسف كثيرًا ما يقولها البعض تبريرًا لقول سابق لها "أنا باكره المسيحيين". والعبارة "عدوك عدو دينك" صحيحة بالنسبة لكل دين، ولكنها ليست صالحة للتعميم على كل من يختلفون عنا في الدين. فالفارق كبير -وواضح- بين من "ليس على ديني" ومن "يحارب ديني". ومجرد الاختلاف في العقيدة لا يعني وجود عداء أو حرب، وإلا ما كان الله تعالى ليقول لنا: {لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [سورة الممتحنة: آية 8]. النص صريح: الله تعالى يفرّق بين من يقاتلنا ومن لا يقاتلنا، فالأول عدوّ بشكل صريح مباشر واضح لا جدال فيه، بينما الآخر مسالم لنا يحبذ الله تعالى أن نبره ونوده. ثم إن تطبيق عبارة "عدوك عدو دينك" على كل المسيحيين يؤدي لنتيجة هزلية، فوفقًا للشريعة الإسلامية، المسيحي في مصر من "أهل الذمة" أي أن حماية حياته وعرضه وماله وأهله، والعدل معه وأخذ حقه ممن ظلمه، واجب أبدي على المسلمين في مصر؛ إذ إن تلك "الذمة" هي "ذمة الله ورسوله"، وهي لا تنقضي إلى يوم القيامة. وبطبيعة الحال فإن الشيء الوحيد الذي يُخرِج المسيحي من الذمة هو تصرّفه بعدائية متعمدة مع المسلمين. إذن فالعدوّ تعريفه واضح، والذمي تعريفه واضح، مما يعني أن تعميم "عدوك عدو دينك" على كل مسيحي في مصر يعني للمسيحي المصري وضعين متناقضين، فهو عدوّ وهو ذميّ في آن واحد، وهو عبث، الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام منزهان عنه. والدين -أي دين- لا مكان فيه للمبدأ الظالم "من ليس معي.. ضدي!". فلنتحدث بصراحة.. أعتذر لو ضايقت البعض، دعونا نعترف بواقع يقول إن إيمان المسيحي بعقيدته يتضمن أمورًا لا تعترف بعقيدة المسلم، وإن إيمان المسلم بعقيدته كذلك يتضمن نفس الأمور تجاه عقيدة المسيحي، وكذلك إيمان أي صاحب دين سماوي أو غير سماوي به ما به من معارضات للعقائد الأخرى، هذه حقيقة لا نتحدث فيها سويًا -مسلمين ومسيحيين- ولكننا نعرفها ونتقبلها ونتعامل معها، وقد تعامل معها أجدادنا منذ الفتح العربي، فما المشكلة الآن؟ هل اكتشفنا فجأة -بعبقرية منقطعة النظير- أن "هذا لا يصح"، وأن على من يخالفنا أن يبحث لنفسه عن وطن آخر؟ في أي شريعة؟ هذا ظلم ليس في الإسلام، وأعتقد أن رجالاً مثل عمر بن الخطاب -خليفة المسلمين خلال فتح مصر- وعمرو بن العاص -فاتح مصر- هم أكثر أهل الأرض غيرة على الإسلام، ولو صحت المقولة الجائرة بأن "من ليس معنا هو ضدنا بطبيعة الحال" لكانوا هم أول من نادوا بها وطبقوها بكل صرامة. للأسف فأصحاب هذا الفكر الفاسد ينشرون بشكل واسع فكرة أن إيمان المسلم بدينه يلزمه أن يرفض "الآخر" ويعاديه، فماذا يكون تحريف الدين سوى هذا؟! -"يا عم على طول تلاقيهم ماسكين في بعض، ومربّطين سوا! ولو واحد احتاج حاجة على طول تلاقي الكنيسة مظبطاه".. سبحان الله! كأن قائل هذه العبارة يستنكر تجمع أهل دين واحد ترتبط كل مجموعة منهم بكنيسة معينة (رعية الكنيسة)! والعبارة تحمل من افتراض سوء النوايا أكثر مما تحمل من الدهشة. تعالوا نتأمل: في مصر عشرات الجمعيات التي تضم مختلف أصحاب الاهتمامات المشتركة، وبها أكثر من حزب أو حركة لأهل التيارات السياسية، فضلاً عن مئات المجموعات على Facebook وغيره لكل أصحاب اهتمام أو رأي أو فكر واحد، حتى وصلنا لمرحلة تكوّن "أحزاب" على الإنترنت لمحبي محمد منير أو عمرو دياب أو تامر حسني، مرورًا بروابط لكل شيء وأي شيء من جمعية "لا لقتل القطط" إلى "محبي عصير القصب المصري"! كل هذا ونستنكر أن تكون لمسيحيي مصر تجمعاتهم أو تجمعهم الكبير. ثم إن من الصحي -لهم وللمجتمع كله- أن يكونوا مترابطين، فترابطهم يمثل عامل طرد للعناصر المتطرفة المؤذية للمجتمع. ثم بحق الله ماذا يريد أصحاب العبارة الاستنكارية أعلاه؟ من حق كل إنسان أن يفعل ما يحب ما دام لا يؤذي غيره! فماذا جرى؟ إن مجرد استنكار وجود ترابط بين أصحاب هذا الدين أو ذاك -إسلاما أو مسيحية أو غيرهما- هو نوع من الوقاحة الصارخة المرفوضة شكلاً وموضوعًا! وأما عن مسألة تقديم الكنيسة والجمعيات المسيحية مساعدات للمحتاجين، ومنها مساعدات كبيرة كفتح مشروع أو مساعدة في تزويج أو سداد مصروفات تعليم، فهو مما يجب على أي جماعة بشرية محترمة، والعيب هنا ليس على من ساعد إخوانه في الدين، بل على من اكتفى بالفرجة وبين جيرانه من يتضور جوعًا أو لا ينام الليل من هم الديون! وأنا لا أستطيع وصف من يستنكرون وجود تكافل اجتماعي واضح بين المسيحيين وغيابه -فلنكن صادقين مع أنفسنا- بين كثير من المسلمين، هم بصراحة أناس لديهم قدر غير عادي من الصفاقة! هذه "بعض" الأفكار الغريبة المدمرة.. وأكرر تنبيهي لإخواننا المسيحيين أنها لا تعبر لا عن غالبية المسلمين ولا عن آراء عقلائهم ومثقفيهم.. وأن قدر الغضب والسخط والألم الذي تثيره في نفس القارئ المسيحي هو نفسه الموجود بداخل أخيه المسلم تجاه أصحابها ومروجيها.. لما فيها من تشويه للإسلام وأهله، وما تمثله من ضرب عنيف لبنيان وحدتنا الوطنية! وللحديث بقية إن شاء الله تعالى،،، (يُتبع)