اتفق المؤرخون على أن الانطلاقات السياسية أو العسكرية أو حركات التغيير وبدايات نهضات الأمم والشعوب، لابد أن يكون وراءها فلسفة (فكرة) معنوية أو أدبية أو تشريعية أو اجتماعية أو غيرها. أما إذا حرمت الانطلاقات العسكرية والوثبات السياسية وحركات التغيير من هذه الفلسفة (الفكرة)، فما أسرع أن تزول وينتهى أمرها ويمحى أثرها. فالتتار ملكوا العالم يوما، ولكنهم ملكوه فى معارك وحشية بربرية سريعة وتخلص منهم العالم أيضا فى معارك سريعة، ولم يتركوا أثرا لأنه ماكان يسيرهم او يوجههم شىء. الثورة الفرنسية أو الشيوعية جاءت ومن ورائها نظريات وفلسفات وأفكار وكتب لقادة الفكر الغربى، فبقيت لبعض الوقت أو على الأقل كان لها بعض الامتداد والاستمرار. الدولة العثمانية التى قامت بالإسلام، فصار الإسلام فلسفتها وفكرتها ومرجعيتها، فدان لها الشرق والغرب، فلما توارت وخبت الفكرة، وصار الأمر ملكا عاديا غابت واندثرت وانتهى بها الأمر إلى زوال. فما من شك فى أن أى نشاط إنسانى أو نهوض حضارى لابد أن ينطلق من فكره مبدئية، وهى عبارة عن مجموعة من المبادئ العامة والقيم المرجعية التى تعتمدها حركة المجتمع فتصوغ كل مظاهر الحياة وفقها وتصبح هى محور حركة المجتمع. وهذا الإطار المرجعى أو الفكرة يجب أن توافق سنة من السنن التى فطر الله عليها خلقه حتى تكون هذه الفكرة قابلة للتنفيذ فلا تصطدم بسنن الله فى كونه. فعلماء الإدارة حين يتحدثون عن التنمية والتغيير فى المنظمات والمؤسسات والدول ينصحون بأن يكون متفقا مع المنظومة القيمية الأساسية داخل المنظمة، وأنه فى حالة اختيار منظومة قيمية نقيضة للمنظومة السائدة فى البيئة فإن حركة المقاومة ستكون أشد وأعنف. والعقيدة الإسلامية كانت دوما هى الفكرة الأصلية والفلسفة الصحيحة التى يتولد عنها التحرك نحو الأفضل وبها تتحقق المعجزات. وبالتالى فإن اختيار الإسلام كفكرة مرجعية فى مجتمعاتنا كفيل بتحريك الشعوب وتحفيزهم للعمل والنهوض من أجل تحصيل الجزاء الأخروى. وذلك لأن العقيدة الحقة رباط معنوى مقدس يربط المسلم بمثل أعلى فلا تحله أزمة ولاتؤثر فيه شدة ورجل العقيدة الحق لا يعيش لنفسه، بل يعيش مع الحق وللحق، ويموت فى سبيل م ايؤمن به ويعتقد ولقد نحت العقيدة يوما وعزلت عن تربية الأمة، فلما قامت معركة الخامس من يونيو كان معنا سلاح كثير وإيمان قليل فلم يغن السلاح شيئا، لأن هذه الأسلحة على حداثتها وضخامتها لم يقم عليها رجال أصحاب عقيدة وفكرة وكما قال الشاعر: وما تنفع الخيل الكرام ولا القنا إذا لم يكن فوق الكرام كرام والكرام الذين نريدهم، هم أصحاب العقيدة الحق، والفكرة الصحيحة، هم الأبطال المغاوير، والأبطال لا يصنعهم إلا الإيمان والعقيدة الحق، وقد ظهر ذلك جليا فى حرب العاشر من رمضان، حيث انطلقت من فكرة موجهة واجتمعت لها فلسفات دفعت إليها ووقفت وراءها ففجرت طاقات هذه الأمة وحفزت رجالها، فكان ذلك هو سر خلود هذه الحرب، يتغنى بها الصغير والكبير. ونحن اليوم نعمل جاهدين على الخروج من حالة الرقود والسكون إلى حالة الحركة والتغيير، من حالة التخلف إلى مرحلة النهضة الحضارية فى كافة مجالات الحياة. فما أحوجنا إلى الاعتراف بأن سرعة حسم اختيار مرجعيتنا وفكرتنا يوفر علينا آلام تجارب الآخرين، ونحن نحاول استنبات أفكار لا تتفق مع منظومة شعبنا، بل تصطدم بالمنظومة القمية المترسخة فى مجتمعاتنا الإسلامية وتكون النتيجة خسائر وهزائم ونكسات وتراجعات. وصدق من قال: فإذا الإيمان ضاع فلا أمان ولا دنيا لمن لم يحى دينا ومن رضى الحياة بغير دين فقد جعل الفناء له قرينا.