عندما توجهتُ إلى حلايب وشلاتين في العام 2014، لم تكن رحلتي مجرد مهمة عمل لتصوير حلقات تليفزيونية لصالح قناة "دريم"، بل كانت ارتماءً كاملاً في أحضان المجهول، انتقالة من ضجيج القاهرة الذي لا يهدأ إلى صمت الصحراء الذي يتحدث بلغة لم أكن أفهمها بعد الرحلة كانت برفقة الصديقة العزيزة، الإعلامية الدؤوبة منى سلمان، لتسجيل حلقات برنامجها "مصر x يوم"، لتكون أول كاميرا تدخل تلك المناطق بعد يناير 2011. وثّقنا حياة أهل "مثلث حلايب وشلاتين وأبو رماد"؛ عاداتهم، تقاليدهم، قضاياهم، حيث تعرّف الجمهور -لأول مرة- على منطقة ظل صوت أهلها بعيداً عن صخب الإعلام، عرضت هذه الحلقات مقابلات مع شيوخ القبائل الذين أكدوا بلهجة صادقة انتماءهم الأصيل لمصر. كان محركي الأول في هذه الرحلة حماس منى سلمان الذي لا يهدأ، ورغبة جامحة في الاكتشاف، تغذيها صفحات كتاب صغير الحجم، عظيم الأثر، وقع في يدي قبل السفر بليالٍ، كتاب "رحلة في بلاد العبابدة" للدكتور الراحل محمد سمير خواسك. لازمتني ظلال "خواسك" على رمال الواقع منذ لحظة وصولنا مطار مرسى علم، انطلقنا منه إلى شلاتين، في طريق امتد لأكثر من 250 كيلومتراً، كان يقطعها مزيج من الحماس والفضول: "ماذا ستخبئ لنا هذه الرحلة؟". الجبال هناك كما وصفها د. خواسك في كتابه الفريد؛ ليست مجرد تضاريس، بل لوحات طبيعية حية، كل لون على صخورها يحمل سر المعادن الكامنة، ويكشف تدرجات الأرض وغنى باطنها. حين وطأت أقدامنا أرض شلاتين ومنها إلى حلايب ورماد، كان الكتاب بمثابة "البوصلة الروحية"، لم يكن مجرد توثيق لبعثة جيولوجية قديمة، بل كان "أنسنة" للمكان. تذكرتُ وصفه البديع لصمت العبابدة، وكيف أن الصحراء علمتهم أن "الكلام ترف قد يؤدي للظمأ"، فصار الصمت عندهم طقساً للحفاظ على الحياة. بين الوديان التي شهدت صراعات البعثات الجيولوجية القديمة مع "الطريشة" والعقارب وقلة المياه، شعرتُ أنني أرى "عبد الشافي" القادم من "أبو تشت" في وجوه العمال، وتخيلتُ ذلك الحلاق القاهري الذي كان يجوب الجبال ليقص شعر الرجال ويكتب لهم خطابات الحب بأسلوب تجري فيه الحلاوة، واصلاً بين قلب في عمق الصحراء وقلب ينتظر على ضفاف النيل. في تلك الأصقاع، أدركتُ معنى ما نقله خواسك عن حب العبابدة للحرية. لفت انتباهي مشهد الجمال المنتشرة في الصحراء؛ يتركها الرعاة هائمة في الفضاء الفسيح بقلب مطمئن، يعرفون يقيناً أنها ستعود، كأن بينها وبين الإنسان عهداً لا تخونه الصحراء. في "سوق الجمال"، رأيتُ عظمة هذا المخلوق الذي يمثل شريان الحياة الاقتصادي والروحي هناك. شعرتُ لوهلة أن أهل المنطقة ينظرون إلينا بعين الشفقة؛ نحن "سكان المدن" المحرومين من عظمة الطبيعة. في حلايب، لا يُقاس الوقت بالساعات، بل بحركة الظل وهبوب الريح. تذكرتُ حديثه عن "سعاة البريد" من الرعاة الذين ينقلون الرسائل الشفهية من "قول إلى قول"، يطمئنون الأمهات بكلمات عابرة للوديان، وينقلون أخبار المهور والوفيات بصدق لا يعرف الزيف. أدهشتني "المرأة العبادية" التي كتب عنها خواسك قبل نحو ستين عاماً بوصفها رمزاً للثقة والحرية. رأيتُ في نساء شلاتين تلك الرشاقة وصحة البدن وقوة الإبصار التي تحدث عنها، كأنهن منحوتات من صخور الجرانيت التي تحمل في جوفها طاقة "اليورانيوم". نساء هن مثال للمثابرة، يشاركن في الحِرَف التقليدية ويحافظن على التراث، بأيدٍ تعرف الحرفة وذاكرة لا تنسى. في شلاتين، التقيت بفتيات يدرسن ويحلمْن بإصرار هادئ. واحدة منهن أوقفتني بحزمٍ عاصف، معبرة عن غضبها من الدراما التلفزيونية التي تصوّر حلايب وشلاتين كعقاب أو منفى، مؤكدة: "إحنا هنا مش منفى… إحنا جزء من مصر"؛ جملة بسيطة كشفت وعياً وانتماءً لا تخطئه العين. كانت منى سلمان بجانبي، بخبرتها وحسها الإنساني المرهف، تلتقط خيوط الحكايات كما كان العبابدة يقتفون أثر الضالين في الصحراء. كنا نبحث في عيون الناس عن تلك الحيرة التي وصفها خواسك قديماً؛ حين كانوا يرون صور "عبد الناصر" فيظنونها صورة "والد المأمور" تعبيراً عن البر بالوالدين. وبينما كان العبابدة قديماً يتساءلون بوجل: "هل تصل إلينا إسرائيل هنا؟" خلال سنوات الصراع الساخنة، كنا نحن في العام 2014 نتساءل عن كيفية دمج هذا النسيج المصري الأصيل في قلب الوطن، تماماً كما اقترح خواسك في مشروعه للمسح الاجتماعي الذي لم يكتمل. في ليالينا هناك، تداخلت حكايات الكتاب مع واقعنا. جلسنا نشرب "الجبنة"، قهوة العبابدة المميزةوطقسهم الاجتماعي الذي يكسر صمت الصحراء، اللحظة التي يتحول فيها الغريب (أنا ومنى سلمان وفريق العمل) إلى صديق أو ضيف محمي"، طقس للود. رائحة القهوة التي يطهونها على الجمر، صوت الهون الخشبي وهو يدق الهيل والزنجبيل، كان يضبط إيقاع قلوبنا على إيقاع الصحراء، هناك، وتحت سقف السماء المفتوحة، ذابت الفوارق بيننا وبين أبناء القبائل؛ لم نعد مجرد (إعلاميين) من المدينة بكاميراتهم الثقيلة، بل صرنا رفاقاً يتقاسمون الدفء والحكايات، نستمع إلى نوادرهم، كأن الزمن لم يمر منذ أن كتب خواسك صفحاته. لقد كان هذا الكتاب "كشافي" الذي لم يثقل علينا بمعلومات جيولوجية جافة، بل نقل لنا "حياة الخيام"، فصار "الإردواز" والصخور البركانية مادة للأدب الرفيع. أتذكر الآن تحذير مدير إنتاج البرنامج حين قال بصوت حذر: "هاتوا معاكم غطاكم وملايتكم ورش مبيد حشري"، إذ لم تكن هناك فنادق ملائمة حينها.. مررنا عبر "وادي الجمال"، تلك المساحة النادرة حيث يتعانق البحر مع الصحراء في توازن مدهش، عالم مفتوح للجمال ترويه الطبيعة بلا تدخل. أدهشتني أيضاً المفارقة بين ثراء البحر وعزوف "المعدة". فرغم الثروة السمكية الهائلة والأنواع النادرة التي تملأ السواحل، والتي أثارت دهشتي بجمالها ووفرتها، إلا أن الأهالي لا يميلون لأكل السمك، مفضلين لحوم الأغنام والماعز (السلات)، في تمسك عجيب بهوية "الراعي" حتى وهو ينام على حافة البحر. لم أعد من حلايب وشلاتين كما ذهبت. لقد تغيرت نظرتي تماماً لصمت الجبال، ذلك الصمت الذي كان في البداية "مجهولاً" صار الآن "ملاذاً". علمتني تلك الرحلة أن الانتماء ليس أوراقاً ثبوتية فقط، بل هو "اقتفاء أثر" للمحبة الممتدة عبر آلاف السنين. أدركتُ أن "مثلث" حلايب ليس مساحة جغرافية، بل هو زاوية غالية من زوايا القلب المصري، تضيء بصدق أهلها، وصمت جبالها، ورايات صالحيها التي ترفرف فوق الرمال.