في كتابه » في بلاد العبابدة « الصادر في سلسلة » اقرأ « عن »دار المعارف« ( نوفمبر 1983) التقط الجيولوجي الدكتور » سمير محمد خواسك« جوانب من حياة» العبابدة «، وسجلها بأسلوب أدبي عذب ربما أفضل من المتخصصين. فيقول عنهم :«عائلات العبابدة على الرغم من قسوة الطبيعة عليهم سعداء بالحرية والانطلاق والسفر بين الأودية بحثاً عن العشب والرزق والمال، بل إنهم يشفقون علينا من صعوبة معيشتنا في المدن حينما يسمعون عن وجود مساكننا بعضها فوق بعض بالعشرات، وأكثر ما يستعصي على خيالهم تصوره هو كيفية توزيع الماء على كل هذه الحشود الهائلة من البشر فى المدينة. ويحمدون ربهم على أن بلادهم واسعة فيها متسع لكل ساكن وأنه سبحانه وهب لكل زوجين منهم بيتاً مستقلاً يستطيع أن ينقله فوق بعيره حينما شاء. والرجل العبادي يشارك نساءه أعمالهن فهو يحسن مثلهن تشييد موقد يشبه «الكانون» وخبز الرقاق، وطهى اللحوم إن حل ضيف أو مرضت عنز أو أصيبت نعجة. وهى أيضا تحل محله إن كان مسافراً.. وترعى الإبل والأغنام، وتجيد الاحتطاب متسلقة الأشجار برشاقة لاعبات البالية، وتعرف أسماء الأودية والجبال، وتهتدى في طريقها بالجبال الشامخة وبمواقع النجوم، وتصنع الثياب لزوجها وتغزل صوف النعاج والجمال.. وتحلى ملابسها بجلد الثعلب أو الأرنب أو الغزال، وترتق القديم من الملابس أو » تقييفها« ملابس للأولاد. وهى مخلصة لزوجها.. تتزوج عادة وهى في الثانية عشرة من عمرها، وقد يكون زوجها صبياً في مثل سنها، أو شيخا في عمر أجدادها، وفى الحالين تجد ولاءها له وإعجابها به يفوق الخيال. وهو إن مات لا تفكر في الزواج من غيره قبل مرور أعوام طويلة.. وباضطرار تفرضه عليها البيئة الصحراوية وضغط اجتماعي شديد وتظل حافظة لعهده وذكراه مع الزوج الجديد.. الذى يشجعها على هذا ويشاركها احترام الراحل الكريم، ويذهب بها لزيارة قبره في الوادي الذى وافته المنية فيه مهما طال السفر. ومعيشة الزوجات واحدة.. يتعاون في الشئون اليومية وينتقلن في جماعة واحدة. وعندما يعود رب الأسرة من سفره يحل العيد بينهن.. فتلبس كل منهن أحسن ما عندها من ثياب، وتتحلى بما قد يكون لديها من أقراط أو خواتم أو أساور من ذهب أو من الأحجار الكريمة كالفيروز والياقوت والزمرد.. التي جلبها الزوج من وادى الجمال وغيره.. وشكلها بنفسه لتصبح زينة للنساء. وهى شديدة التحفظ .. ليس في الجوهر فقط وإنما أيضا في المظهر.. الذى تعتبره لا يتجزأ أبداً عن الجوهر، فإن مر بها أحد الغرباء أو سمعت صوت سيارة أدارت ظهرها وجلست القرفصاء ووضعت رأسها بين ساقيها ورمت غطاءً على جسمها كله فظهرت وكأنها كومة صغيرة سوداء. ولا تظن أن نساء العبابدة لهذا متزمتات أو رجعيات.. هذا فقط مع الغرباء، فحياة العبابدة الاجتماعية لا تقل في تحررها عن أكثر المجتمعات حضارة، فكما قلنا.. هي تقابل الرجال من العبابدة وتناقشهم في كل شأن من شئون الحياة. وتلتقى الفتاة أو المرأة المخطوبة بخطيبها أمام الأهل أو على انفراد، لا يوجد أي قيد عليهما.. يرعيان الغنم معاً طول النهار، ويجريان ويلعبان ويتسامران.. في أي فج أو مسلك من مسالك الصحراء، وقد يسافران معاً من بئر إلى أخرى. والثقة بين العبابدة كبيرة. لا يوجد عندهم شىء اسمه الخيانة إلا في النادر من الأجيال ويستبعد الخائن من مجتمع العبابدة، لأن طبيعة البيئة تحتم عليهم التعامل بثقة كاملة، فكل أسرة كما بينا تعيش في عزلة، وغياب رب الدار معتاد، وبكاء النساء وحدهن في منطقة شاسعة جبلية وحاجتهن إلى سؤال الرعاة في أثناء غياب الزوج أو الأب يحتم التعامل بينهم بالأمانة والشرف فمن يخرج على هذه الأخلاق ينبذه المجتمع العبادي، ويمشى شريداً حتى يموت وحيداً تحت سفح أي جبل من الجبال. وللعبابدة نوادرهم التي تحكى في مجالس السمر الخاصة بهم، وتعبر عن البيئة المحيطة، وعن اختلاط بعضهم بالغرباء الذين يجيئون إلى بلادهم للبحث والتنقيب، فتجد الظرفاء منهم يقلدون كلام القاهريين ولهجة أهل الصعيد، ويتندرون على بعض تعبيراتهم وكلماتهم، ويسخرون من تسميتهم بعض الألوان بغير مسمياتها، فاللون الذى يسميه العبابدة لبنى.. يقول عنه القاهريون أزرق ! فأما اللون الأزرق يقولون عنه أسود ! ويقصون على النساء حكايات عن طمع بعض الغرباء، فهذا رجل منهم جاء إلى » حمدان العبادي« وأخذ يشكو له قلة المال وكثرة العيال، ويرجو حمدان أن يعينه على هذا البلاء، فيتعجب حمدان كيف يتسنى له ذلك وهو رجل فقير ؟ ويتضح أن أحد أشقياء العبابدة أوهم الرجل الغريب أن حمدان يعرف أماكن الذهب في الجبال التي تخلفت في الموقع الذى كان يستغله الخواجات منذ زمن بعيد، وأنه لا يرضى أن يأخذه لنفسه أو يبوح بسره لأحد. ويتندرون على تلك المرأة التي عاد زوجها من سفر طويل ذهب فيه إلى الصعيد، ودخلت خباءه فوجدت على الأرض ما يشبه الرأس المشقوق المخضب بالدماء.. فصرخت وفزع إليها الزوج، وضحك من جهلها وأفهمها أنها » بطيخة« تؤكل فتروى الظمأ ولها طعم لذيذ. وهذا الشخص الذى عين كدليل في إحدى البعثات التي تأتى إلى بلادهم وبها غرباء، وعاد يحكى للأهل والأصدقاء كيف أنه وجد عندهم صندوقاً يتكلم أحياناً بصوت الرجال وأحياناً يغنى كالنساء ( يقصد الراديو)! وقصة هؤلاء الرجال الذين ولدوا في الجبال، وعاشوا فيها حتى بلغوا سن الشباب، ولم يلتقوا بأهل الريف قط، فهم لا يفقهون أي شىء خارج المجتمع الصحراوي العبادي، صدر أمر من شيخ العبابدة بأن يمثلوا بين يديه في القصير ليقدمهم إلى الحكومة فهم خارجون على القانون، لأنهم لا يؤدون الخدمة العسكرية. فقبضت عليهم الشرطة. وقدموا إلى محكمة الغردقة، ووجه إليهم القاضي سؤاله : ألا تعرفون أيها الناس أننا في حالة حرب مع إسرائيل ؟ فلم يفقهوا مقصده.. واكتشف أنهم لم يسمعوا قط عن إسرائيل هذه. فسألهم القاضي : في أي مكان نحن الآن ؟ قالوا: في بيت القاضي. فتعجب القاضي وأشار إلى صورة الرئيس جمال عبد الناصر المعلقة خلفه قائلا: ومن هذا ؟ فارتبكوا ثم أجابوه : أليس هذا هو والد القاضي؟ واستطاع المحامي الأريب أن يكسب عطف المحكمة عليهم حينما قال : ليس هذا مجرد مثال يا حضرة القاضي للجهل بالقانون، ولكنه دليل على أن الدولة قد جنت على هؤلاء المواطنين، فهي لم تقدم لهم أي نوع من الرعاية الاجتماعية ولم تتذكرهم يوماً واحداً طول حياتهم. والمحامي على حق، فهؤلاء الناس مواطنون مصريون من الناحية النظرية فقط، والشىء الوحيد الذى يربطهم بمصر هو أنهم يعيشون ضمن حدودها السياسية. وقد نشر الأهرام في ذلك الوقت كلمة لي.. كتبتها لتعبر عن حاجة هؤلاء المواطنين المجهولين للرعاية الاجتماعية هم وأمثالهم ممن يعيشون في صحارى مصر.. ولا ندرى عنهم شيئاً.