أكثر ما يلفت انتباهي في قضية "كريمة" ضحية العنف الزوجي في المنوفية، هو حضور حماتها ودفاعها المستميت عن ابنها، بداخلها شيء يرى ما حدث شيء عادي بين زوجين. عادي أن يضربها، كان عليها أن تتحمل، ضل راجل وغيرها من شعارات اجتماعية يرتكن عليها المجتمع بوصفه الأمر العادي كي تستمر الحياة. إذن هذا الحادث يبدو ليس حادثًا فرديًا معزولًا، بل كاشف عن طبقات عميقة من العنف الصامت الذي تعيشه نساء كثيرات. خلف الخبر العاجل، تختبئ ذاكرة طويلة من الألم، لا تبدأ بالقتل… ولا تنتهي به. كيف يتحوّل الوجع المتراكم إلى بنية اجتماعية صامتة؟.. ليس الوجع في حياة النساء المصريات حادثًا عابرًا، بل ذاكرة متراكمة، تُنقل من جيل إلى جيل كما تُنقل الوصفات القديمة أو أسماء العائلة. إنه وجع لا يُروى كاملًا، لأن الإفصاح عنه كثيرًا ما يُقابل بالتشكيك أو التهوين أو الاتهام. هكذا يصبح الصمت جزءًا من الوجع، لا نقيضًا له. ذاكرة الوجع عند النساء في مصر ليست شخصية خالصة، بل اجتماعية التكوين. تبدأ مبكرًا، في الطفولة، حين تتعلّم الفتاة الفرق بين ما يُسمح لها به وما يُغتفر لها إن خالفته. يكبر الجسد تحت رقابة مستمرة، ويكبر معه وعي خفي بأن الخطأ غالبًا ما يُحسب عليها وحدها، حتى حين تكون الضحية. من هنا، لا يتشكّل الألم فقط من التجربة، بل من تفسير المجتمع لها. في البيوت، تُربّى كثير من النساء على تحمّل الوجع بوصفه فضيلة. الصبر يُقدَّم كقيمة عليا، لا كخيار إنساني، والاحتمال يُمدَح أكثر من السؤال. هكذا يتحوّل الوجع إلى معيار أخلاقي: المرأة الجيدة هي التي "تستحمل". هذه الثقافة لا تُنتج الوجع فحسب، بل تُعيد تدويره، وتمنحه شرعية اجتماعية تحمي استمراره. ما يميّز ذاكرة الوجع النسوية في مصر أنها غالبًا غير معترف بها رسميًا. لا تظهر في الإحصاءات، ولا تُروى في التاريخ العام، لكنها حاضرة في التفاصيل اليومية: في قصص الزواج غير المتكافئ، في العنف الصامت، في العمل غير المرئي داخل البيوت، وفي الإقصاء المتكرّر من المجال العام. هذه الأوجاع الصغيرة، المتراكمة، هي التي تصنع العبء الأكبر، لأنها لا تُرى، ولا تُعالج، ولا تُسمّى. كما أن الوجع لا يتوزّع بالتساوي. فالطبقة الاجتماعية، والموقع الجغرافي، ومستوى التعليم، كلها عوامل تعمّق التجربة أو تخفّفها. امرأة في الريف ليست كامرأة في المدينة، وامرأة عاملة ليست كربة بيت، لكن القاسم المشترك هو اللامساواة البنيوية التي تجعل جسد المرأة ومسار حياتها مجالًا للتدخل المستمر من الآخرين: الأسرة، المجتمع، والمؤسسات. الأخطر أن ذاكرة الوجع لا تسكن الماضي فقط، بل تُشكّل الحاضر وتعيد إنتاجه. كثير من النساء يتخذن قراراتهن تحت وطأة خبرات موجعة سابقة: صمتٌ تجنّبًا للصدام، تنازلٌ خوفًا من الخسارة، أو تكيّفٌ مع وضع غير عادل لأنه "المتاح". هنا يتحوّل الوجع من تجربة إلى آلية تنظيم للحياة، ومن جرح إلى بوصلة مشوّهة للاختيارات. مع ذلك، ليست ذاكرة الوجع مجرد سجل للانكسار. في لحظات معيّنة، تتحوّل هذه الذاكرة إلى وعي. حين تُروى التجربة، أو يُكسر الصمت، أو تُعاد تسمية ما كان يُعتبر "قدرًا" بوصفه ظلمًا، يبدأ الألم في فقدان سلطته. الوعي لا يمحو الوجع، لكنه ينقله من الداخل المعزول إلى المجال المشترك، حيث يمكن مساءلته. اليوم، ومع تغيّر الخطاب الاجتماعي وارتفاع أصوات النساء، تبدأ ذاكرة الوجع في التحوّل من عبء صامت إلى سؤال عام: لماذا تتحمّل النساء أكثر؟ ولمصلحة من يستمر هذا الوضع؟ هذه الأسئلة لا تهدف إلى استدعاء الشفقة، بل إلى تفكيك منظومة كاملة ترى في وجع النساء أمرًا طبيعيًا. في النهاية، يمكن القول إن نساء مصر لا يحملن الوجع لأنهن أضعف، بل لأن المجتمع لم يتعلّم بعد كيف يعترف بهن كذوات كاملة. وذاكرة الوجع، حين تُفهم لا حين تُكبت، قد تكون الخطوة الأولى نحو عدالة أكثر إنسانية.