يشهد العالم اليوم انقلابًا هائلًا في موازين الإنتاج والقوة. لم تعد التكنولوجيا الحيوية فرعًا علميًا محدودًا، بل أصبحت البنية التحتية العميقة التي تُعاد بها صياغة الزراعة، والدواء، والطاقة، والغذاء. العالم لم يعد يُدار من المصانع، بل من المختبرات. ومن لا يبني بنيته البيولوجية سيجد نفسه في موقع التابع مهما امتلك من موارد. ولأن مصر تعيش لحظة مفصلية، فإن دخولها عصر التكنولوجيا الحيوية لم يعد خيارًا، بل واجبًا استراتيجيًا يعادل ما قامت به اليابان في الستينيات، وكوريا في التسعينيات، والصين بعد 2000.
التكنولوجيا الحيوية اليوم في قلب الأمن القومي المصري لم يعد مفهوم الصحة مقتصرًا على العلاج فقط، بل تحول إلى هندسة حيوية متقدمة تقودها تقنيات الطب الشخصي وتحليل الجينوم وطب الخلايا، تلك التقنيات التي تقرر مستقبل الدول بين التقدم العلمي أو التخلف. فالبلدان التي لا تملك منصات جينومية مستقلة تعتمد على الخارج في تحديد مصير شعبها. الأمر نفسه ينطبق على الغذاء، فقد أصبح برمجة بيولوجية متقدمة، مع التحول العالمي نحو إنتاج بذور مقاومة للجفاف، واعتماد ميكروبيوم زراعي ذكي وزراعة دقيقة. وبدون هذه الأدوات، تبقى الدول أسرى لمناخ قاسٍ وإنتاجية هشة. أما الصناعة، فلم تعد تقليدية تعتمد على خطوط إنتاج، بل أصبحت مفاعلات حيوية تنتج إنزيمات وبروتينات بديلة ولقاحات وعلاجات جينية، حيث لا يتفوق فيها من هو أقوى علميًا، بل من يبني منظومة أسرع. أما مصر فتتمتع اليوم بميزات تنافسية كبيرة لا تملكها دول سبقتها، من كتلة بشرية علمية قوية في مجالات الجينات وأبحاث السرطان والزراعة والميكروبيوم، إلى بنية تحتية بحثية متقدمة، وسوق دوائي ضخم يمكنه استيعاب تصنيع بيوتكنولوجي واسع، إلى جانب موقع بيئي فريد يجعلها معملًا طبيعيًا للزراعة الذكية. لكن ما تنقصه هو تجميع هذه القوى في منظومة استراتيجية موحدة تحول المعرفة إلى اقتصاد والبحث إلى شركات حيوية وصانعة للتكنولوجيا. مصر تسير بخطى ثابتة نحو عام 2035 لتصبح قوة إقليمية في التكنولوجيا الحيوية، مع مشاريع رائدة مثل المشروع القومي للجينوم المصري الذي يؤسس منصة سيادة تحافظ على بيانات الجينوم الوطني مرتبطة بالمستشفيات والجامعات. وفي غضون خمس سنوات يمكن تحقيق إنجازات بارزة في قطاعات عدة لعل من أهمها برامج الزراعة الذكية، تلك التي تهدف لتحسين الإنتاجية ومقاومة الملوحة والجفاف، إلى جانب تصنيع الإنزيمات محليًا مما يقلل فاتورة الاستيراد ويوفر اقتصادًا جديدًا. مقارنة بالدول الصاعدة، تمتلك مصر عناصر تفوق واضحة، فبينما سبقت سنغافورة بتوصيل البحث بالشركات، والهند بصناعة دواء حيوي رخيص، والصين بإنشاء قاعدة بيانات جينومية ضخمة، والبرازيل باستغلال ميكروبيوم بيئتها، تمتلك مصر قاعدة بشرية ضخمة وتنوعًا بيئيًا فريدًا وسوقًا دوائيًا وموقعًا استراتيجيًا يربط بين إفريقيا وآسيا وأوروبا. التحدي الحقيقي لمصر هو بناء نموذج مستقل يجمع هذه القوى ويحولها إلى قوة عالمية. مع حلول عام 2050، تستهدف مصر أن تكون مركزًا جينيًا للبيولوجيا في إفريقيا عبر منصة موحدة تحافظ على سيادة البيانات، وقائدة في تصنيع البروتينات البديلة التي يشكل سوقها العالمي نحو 40 مليار دولار، إضافة إلى إقامة مناطق اقتصادية بيولوجية على قناة السويس تربط آسيا وأفريقيا في ممر حيوي جديد، مع تطوير طب شخصي يحمل هوية مصرية-إفريقية قائمة على بيانات شعوبها، لا على بيانات أجنبية. التكنولوجيا الحيوية ليست مجرد أبحاث أو صناعات، بل أصبحت اليوم درعًا للأمن القومي المصري، توفر الاستقلال في الغذاء والدواء والتكنولوجيا، وتفتح آفاقًا واسعة للتنمية المستدامة وحماية المواطن، لتضع مصر في مصاف الدول المتقدمة في ثورة بيولوجية عالمية لا تعرف حدودًا.
مصر تصنع مكانها في المستقبل التكنولوجيا الحيوية ليست قطاعًا اقتصاديًا، بل مصدر قوة وطنية يحدد من يقود ومن يتبع. ومصر تمتلك كل ما يلزم للقيادة: العقول، والموارد، والبيئة، والسوق. اللحظة الآن لحظة تأسيس، لحظة بناء دولة بيولوجية حديثة قادرة على أن تصدّر المعرفة لا أن تستهلكها. وعندما تبدأ مصر في تحويل مختبراتها إلى اقتصاد، وتحويل علمائها إلى صُنّاع للثروة، ستصبح التكنولوجيا الحيوية ليست مجرد مشروع، بل ملفًا استراتيجيًا يعيد تموضع الدولة المصرية بين أقرانها، وفي المكانة التي هي أهل لها.