علماء صينيون عبروا متاهته الوراثية وفتحوا باب المستقبل الغذائى منذ آلاف السنين، لم يكن القمح مجرد محصول زراعي، بل كان عماد الحضارة الإنسانية الناشئة، وشريكاً فى بنائها منذ فجر التاريخ، وكان سببًا فى التحول من الصيد إلى الزراعة، ومن الترحال إلى الاستقرار، ولقد لعب هذا النبات دوراً محورياً فى تشكيل المجتمعات وتطور التجارة وبناء الدول، حتى صار رمزًا للخصوبة والرخاء، ومصدراً أساسياً للطاقة والبروتين لما يزيد على 2.5 مليار إنسان حول العالم اليوم، ولكن مع تفاقم التحديات العالمية مثل: الانفجار السكاني، وتغير المناخ، وتراجع الموارد الطبيعية، أصبح القمح فى قلب معركة حاسمة لضمان الأمن الغذائى العالمي. اقرأ أيضًا| الأممالمتحدة ترحب بمحادثات البحر الأسود في السعودية ويواجه القمح اليوم تحدياتٍ غير مسبوقة نتيجة النمو السكانى المتسارع وتغير المناخ. هذه التحديات تستلزم زيادة هائلة فى إنتاج الغذاء مع الحفاظ على الموارد الطبيعية. فى هذا السياق، يبرز إنجاز علمى مهم يتمثل فى إعلان فريق من العلماء الصينيين عن إكمال أول خريطة جينومية كاملة للقمح الشائع سداسى الصبغيات، هذا الإنجاز يمثل اختراقاً علمياً كبيراً، حيث يزودنا بفهم شامل للحياة الوراثية للقمح، ويفتح آفاقاً جديدة لتحسينه، فكيف يمكن مضاعفة إنتاجه بموارد أقل وفى بيئة أشد قسوة؟ الحل يكمن، كما يبدو، فى الغوص داخل أسراره الجينية. إنجاز غير مسبوق فى إنجاز علمى غير مسبوق، نجح فريق من العلماء الصينيين فى فك الشفرة الوراثية الكاملة للقمح الشائع سداسى الصبغيات، ونشروا خريطتهم الجينومية الدقيقة فى المجلة العلمية المرموقة «نيتشر جينتكس»، وهذا العمل يمثل طفرة ثورية، تفتح أبواباً غير مسبوقة لفهم هذا المحصول الحيوى وتحسينه بطرق أكثر دقة وفعالية، فما الذى يجعل هذا الإنجاز فريداً؟ ولماذا تأخر فك جينوم القمح كل هذا الوقت؟ تمكن الفريق الصينى من فك شفرة جينوم القمح «من التيلومير إلى التيلومير»، أى الحصول على تسلسل وراثى كامل ومستمر لكل كروموسوم، بفضل التطورات الحديثة فى تقنيات تسلسل الحمض النووي، وتقنيات القراءة الطويلة، والمعلوماتية الحيوية المتقدمة، هذا الإنجاز يزودنا بخريطة طريق مفصلة لجينوم القمح، ويكشف عن ثروة جينية جديدة، ويضع أساساً متيناً للجينوم الوظيفي. التحديات الثلاثة وكان جينوم القمح (كامل المادة الوراثية للقمح) لعقود أحد أعقد الجينومات الزراعية على الإطلاق، بسبب ثلاثة تحديات رئيسية: أولا، التركيب السداسى الصبغي، فالقمح الحالى هو مزيج طبيعى من ثلاثة أنواع برية قديمة، مما يجعله يحتوى على ست مجموعات كروموسومية بدلاً من اثنتين فقط، مثل الإنسان، هذا التعدد منح القمح قدرة على التكيف، لكنه عقد فهم خريطته الوراثية، ثانيا: الحجم الهائل، حيث يبلغ حجم جينوم القمح نحو 17 مليار زوج قاعدي، أى خمسة أضعاف حجم الجينوم البشري، مما تطلب تقنيات تحليلية وحاسوبية هائلة للتعامل معه، وثالثا، التكرار الوراثى المكثف، حيث إن أكثر من جينوم القمح يتكون من تسلسلات متكررة، أغلبها عناصر قافزة، تجعل تجميع الخريطة الوراثية بدقة مهمة شاقة، خاصة عند استخدام تقنيات القراءة القصيرة. اقرأ أيضًا| الحروب والمناخ والاقتصاد.. ثالوث يهدد الأمن الغذائي لملايين البشر تقنيات خارقة تقود الإنجاز ويعود الإنجاز الذى مكن الباحثون من عبور هذه المتاهة الوراثية إلى القفزات الكبيرة فى تقنيات التسلسل الجيني، وخاصة: تقنيات القراءة الطويلة، التى تمكنت من قراءة آلاف الأزواج القاعدية دفعة واحدة، مما ساعد فى تخطى مناطق التكرار وفك الشفرة المُعقدة بدقة، بالإضافة للتطور فى مجال المعلوماتية الحيوية، حيث طور الفريق خوارزميات جديدة لتحليل وتنظيم البيانات الجينية الضخمة بدقة، مما مكنهم من بناء تسلسل كروموسومى كامل لأول مرة. وكانت النتيجة؟ خريطة جينومية متكاملة، خالية من الثغرات، تضع بين أيدى العلماء «كتالوجاً شاملاً» للجينات ومواقعها ووظائفها. ما الذى تعنيه هذه الخريطة للعالم؟ باختصار، إنها تقدم: رؤية كاملة لأول مرة، وبات بإمكان العلماء دراسة كل مناطق الجينوم بدقة، بما فى ذلك المناطق المركزية للكروموسومات التى كانت خارج متناول العلم، وتم اكتشاف أكثر من 34 ألف جين جديد عالى الثقة، وتفتح هذه الجينات الباب لفهم أعمق للصفات الوراثية، مثل: مقاومة الأمراض، أو تحمل الجفاف، أو تحسين القيمة الغذائية، ويمكن الآن ربط الجينات مباشرة بالصفات الظاهرة، مما يعزز قدرة العلماء على اختيار وتعديل السمات الوراثية المُستهدفة. ثروة جينية واعدة تتيح هذه الخريطة الجينومية الشاملة إمكانية تسريع برامج التربية التقليدية والحديثة، وتطبيقات التحرير الجينى المُستهدف، يمكن للعلماء الآن تحديد الجينات المسئولة عن صفات معينة بدقة أكبر، وتعديلها لتحسين الإنتاجية، والقيمة الغذائية، ومقاومة الأمراض والآفات، وتحمل الإجهادات البيئية، هذا يفتح الباب لتطوير «قمح مُصمم حسب الطلب» يلبى الاحتياجات المتزايدة للبشرية. ويحمل هذا الإنجاز آثاراً عملية مهمة تتجاوز المختبرات، حيث يمكن أن يساهم فى التكيف مع تغير المناخ، وتعزيز الاستدامة البيئية، وتطبيق الزراعة الدقيقة، وسد الفجوة الغذائية فى المناطق الأكثر احتياجاً، بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يكون نموذجاً يُحتذى به لتطبيق التقنيات المماثلة على محاصيل أخرى ذات جينومات معقدة. وأحد أكثر التطبيقات الواعدة لهذه الخريطة يكمن فى مجال «التربية الدقيقة» للمحاصيل، ويشمل: الانتخاب بمساعدة العلامات الجزيئية، حيث يمكن انتقاء الشتلات الواعدة جينياً منذ المراحل المبكرة دون الحاجة إلى زراعتها سنوات طويلة، والدمج الجينى الذى يسمح بدمج صفات مفيدة متعددة فى صنف واحد، كتحمل الجفاف والملوحة معاً، والانتخاب الجينومى الذى يعتمد على تحليل آلاف العلامات الوراثية لتقدير القيمة الوراثية للنبات، مما يعزز دقة وفاعلية التربية. أما الثورة الكبرى، فتأتى مع تقنيات التحرير الجينى مثل «كريسبر-كاس9»، التى تتيح تعديل الجينات بدقة مذهلة، سواء لتعزيز خاصية مرغوبة أو تعطيل جين ضار، الخريطة الكاملة توفر الأساس لتحديد أهداف التعديل بدقة، مما يجعل من الممكن تطوير «قمح حسب الطلب» خلال وقت قصير. أمن غذائى فى عصر يواجه فيه العالم ضغوطاً بيئية وسكانية هائلة، لا تكفى الحلول التقليدية لتأمين الغذاء، إن خريطة الجينوم الكاملة للقمح تمثل «بنية تحتية وراثية» جديدة يمكن البناء عليها لتطوير أصناف أكثر إنتاجية، وأكثر قدرة على مواجهة الأمراض، والتغير المناخي، وشح الموارد. إنها ليست نهاية القصة، بل بدايتها ، فكما كانت سنبلة القمح شرارة الثورة الزراعية قبل آلاف السنين، فإن شفرتها الوراثية قد تشعل اليوم ثورة علمية جديدة فى مجال الزراعة الذكية والمستدامة، وقد يبدو هذا الحدث العلمى الكبير إنجازاً فى علم الوراثة محصوراً فى المختبرات، لكنه فى الواقع يمتد ليصل إلى موائدنا، ويحدد شكل مستقبلنا الغذائي، ففى كل سنبلة قمح هناك قصة تطور، وتحدٍّ، وأمل، ومع هذا الإنجاز الجينومى الفريد، نمتلك الآن مفاتيح جديدة لنروى هذه القصة بكفاءة وعدالة فى عالم يعطش إلى الغذاء المستدام، القمح لم يعد مجرد حبة.. بل أصبح خريطة حياة، إن اكتمال خريطة جينوم القمح يمثل فجراً جديداً لزراعة القمح ومستقبل الأمن الغذائى العالمي،هذا الإنجاز يمنحنا القدرة على تطوير أصناف قمح خارقة، ويؤكد على أهمية الاستثمار فى البحث العلمى الأساسى والتطبيقى فى مجال وراثة النبات، كونه استثماراً استراتيجياً فى قدرتنا على إطعام أنفسنا والحفاظ على كوكبنا. د. طارق قابيل أستاذ التكنولوجيا الحيوية بجامعة القاهرة