د. ريم بسيونى السفر بالنسبة لعلماء الصوفية الأوائل هو السياحة وهو وسيلة للعلم والتأمل ومعرفة النفس قبل كل شيء. فى رحلات السفر تحديات جديدة وأيضا مفاجآت، فلا يوجد سفر بلا مفاجأة ولا رحلة بلا معرفة ابدا. تأخرت زيارتى للمغرب أعواما، وكلما جاءتنى الفرصة او دعوة تحدث لى ظروف تحول دون الذهاب، لنتأكد دوما ان لكل شيء ميعادا محددا لا يأتى قبله او بعده. زيارة المغرب تجربة فريدة لعدة أسباب، أولها انها من اول البلاد التى استهوتنى فى بداياتي، فبدأت الكتابة عن تاريخ المغرب رواية وأنا فى السادسة عشرة من عمرى وكانت عن طارق بن زياد، ومنذ ذلك الحين وأنا انوى زيارة المغرب وجاءت الزيارة فى أجمل صورها. بدعوة من وزير العدل المغربى عبد اللطيف وهبى للمشاركة فى ندوة وحوار مجتمعى عن قوانين المرأة فى المغرب بدأت الزيارة. «الندوة الدولية حول موضوع نظام الكد والسعاية.. مقاربات قانونية وتاريخية وتجارب مقارنة». وجدت مناقشات جادة ومشاركة قوية من المرأة فى المغرب، بل استوقفتنى مداخلة من أستاذة للشريعة الإسلامية وهى أيضا فى هيئة كبار العلماء لملك المغرب. كأكاديمية انا لا ابحث فقط عن محتوى ما يقال، ولكن عن طريقة العرض وتنظيم المحتوى، فوجدت عقلا منظما ومعلومات بإسناد وموضوعية. هنا فرصة لتواصل حضارى مهم وحوار يتعدى مجتمعنا للمجتمعات الأخرى. زيارة منزل مغربي كنت دوما ادعو الى الاعتزاز الكبير بالتاريخ والحضارة ومحاولة تذكير الشباب بها فى كل تصرف بسيط. وجدت هذا فى البيوت المغربية، بل فى الملبس، فى طريقة الجلوس، فى ديكورات الشقق. علمت ان كل بيت مغربى لابد ان يكون به صالة جلوس على الطراز المغربي. وجدت ان هناك وعيا قويا بقيمة التاريخ ومحافظة على شكل المبانى القديمة وقوانين صارمة فى البناء حتى لا تغير شكل المدينة. ووجدت ان هناك اهتماما من كل الناس وعلى كل المستويات بالتاريخ، فكلما تكلمت مع أى شخص هناك يتطرق الى التاريخ بشغف. هذا الشعور بأن كل تاريخك جزء منك مهم جدا لتعزيز مفهوم الهوية. الدروس الحسنية وصلاة الجمعة فى زيارة للصديقة فاطمة متخصصة القانون الجنائى تعرفت على اختها د. العالية وهى أستاذ فى قسم اللغة العربية بالجامعة، وجدهما الشيخ الصوفى المعروف ماء العينين ولهذا حديث آخر. تطرقنا الى الدروس الحسنية، وهى لمن لا يعرف مجالس لملك المغرب فى رمضان يستمع فيها لدرس من الفقهاء والعلماء، انشأها الحسن الثانى سنة 1963 ومن أشهر من أعطاها من المصريين د.عبدالحليم محمود شيخ الازهر الأسبق رحمه الله. ولهذه الدروس قواعد معينة، ففى هذا الدرس يجلس الملك على مقعد منخفض ومعه الحضور من رجال دولة او علماء ويجلس الشيخ على مقعد اعلى منه لتأكيد أهمية العلم والعلماء. كنت اعرف ان هذه الدروس تحدث فى المغرب منذ زمن، ولكن ما جعلنى أتوقف وأكتب هو عندما امسكت بى د. العالية لأشاهد معها صورة، وكانت صورتها وهى تجلس على مقعد عال تعطى درسا فقهيا ودينيا للملك فى الدروس الحسنية، والملك يجلس امامها على مقعد منخفض ومعه رجال الدين والدولة. مشهد غير مألوف فى عالمنا، ولكنه مألوف فى التراث الإسلامي. فجلال الدين السيوطى يكتب فى كتابه عن سيرته العلمية أسماء معلماته النساء فى الحديث والقرآن ويعطى قائمة طويلة بأسمائهن بكل بساطة. نحن هنا لا نتكلم عن امرأة تعلم نساء الدين، بل تعلم الرجال لأنها تملك من العلم ما ينفع. نحتاج ان نتوقف امام الصورة التى صورتها بنفسى لأحتفظ بها. شاء القدر ان احضر صلاة الجمعة فى منطقة قريبة من طنجة فى جامع صغير معظم رواده من الفلاحين البسطاء. لم أتوقع ان استمع الى خطبة من أجمل الخطب التى استمعت لها. كانت عن مفهوم المال الحرام ومفهوم العدل فى العمل وفى البيع والشراء وفى كل شيء. كانت عن النفاق والفساد وكيف حارب الدين الغش والفساد بالصدق والعدل. كانت عن خداع النفس وعمن يظن انه سيعتمر ويحج بمال يشوبه شبهة الحرام وأن هذا يكفى لتكفير الذنوب. شرح الشيخ ان بيع سلعة أغلى من ثمنها غش وأن عدم إتقان العمل لأننا لا نقتنع بالأجر غش وأن عدم إتمام العمل بضمير غش. وأن عدم إعطاء كل ذى حق حقه حرام. شرح بأمثلة ثم تكلم عن البيئة فذكر ان القرآن الكريم يذكر الطبيعة فى الكثير من الآيات، فيذكر الشجر كآية من آيات الله، وعلينا إذًا ان نحترم خلق الله فنحافظ على الأشجار ونراعى البيئة التى خلقها لنا الله، فلا نشعل نيرانا الا اذا احتجنا اليها ولا نتلف شجرة ولا نقتلعها الا للضرورة القصوى، وكل هذه الخطبة لم تتعد ال15 دقيقة، كلمات مؤثرة ومهمة تغسل قلوب الحاضرين وتحثهم على تحسين أنفسهم. قوة مصر الناعمة خلال السبعين عاما الماضية صنعت مصر تاريخا ثقافيا من المتعة والمعرفة للأمة العربية وليس لنفسها فقط. أخرجت مبدعين مثل ام كلثوم وعبد الحليم وعبد الوهاب، وأخرجت شعرا ورواية وفكرا وفنا ومسلسلات وأفلاما وأغانى خلقت وجدانا عربيا متماسكا وقويا. ربما نحن فى مصر لا ندرك تأثير ثقافتنا على الدول المجاورة حتى نزورها. فكلما سرت فى شوارع الرباط وبدأت الحديث أرى العيون تلمع والحماس يزيد، ثم يبدأ الناس فى الكلام معى عن مصر وعن الفن وعن مسلسلات زمان وعن أحياء الإسكندرية التى عرفوها من مسلسلات زيزينيا وغيرها. فى كل تفاعل بسيط تجد من يريد ان يحتضنك ويرحب بك فأنت تتكلم باللهجة التى أثرت فيهم وأعطتهم متعة وحبا وإلهاما. تحكى لى د. هبة سعد الملحق الثقافى المصرى عن حفل حضرته لأغانى عبد الحليم فى المغرب بمناسبة عيد الحب، وتخبرنى انها فوجئت بأن كل الحضور يحفظون أغانى عبد الحليم عن ظهر قلب ويغنون بحماس شديد، وأن الحفل انتهى بأغنية عبد الحليم لملك المغرب وأهلها التى غناها فى المغرب وهى «الماء والخضرة والوجه الحسن»، وعند غنائها وقف الجمهور يهتف ويغنى كأن عبد الحليم معهم وكأن الزمن قد توقف. المركز الثقافى المصرى فى المغرب أنشئ عام 1957 وكان مكانا للأساتذة والباحثين للاطلاع على أحدث الكتب فى كل المجالات. ربما هذه الأيام لدينا شعور بألم او تشاؤم، ولكن لابد ان نتذكر ان الغرب عندما كان يصنع السيارات والأسلحة والطائرات كنا نحن نصنع ذكريات وهوية ونؤسس لبناء شامخ وإرث متواصل من الفن والإبداع يتصل بعضه ببعض. أريد ان أنهى المقال بكلمات إسماعيل فى رائعة يحيى حقى «قنديل أم هاشم». «اطمأنت نفس إسماعيل وهو يشعر بأن تحت أقدامه أرضًا صلبة. ليس أمامه جموع من أشخاص فرادى، بل شعب يربطه رباط واحد: هو نوع من الإيمان، ثمرة مصاحبة الزمان والنضج الطويل على ناره. وعندئذ بدأت تنطق له الوجوه بمعان لم يكن يراها من قبل».